كنت واحدا من المدعوين المشاركين المتكلمين في المؤتمر الدولي الاول لتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين الذي انعقد في رحاب جامعة الشارقة للمدة 24 -27 مارس / آذار 2008 .. والذي عّد ظاهرة حضارية ومعرفية رائدة في الكشف عن معان تاريخية جديدة ، وفي انطلاق مؤسسة دولية كبرى لرعاية تاريخ العلوم والمعرفة العربية والاسلامية بجامعة الشارقة .. ولقد بدا واضحا منذ الاعداد لهذا المؤتمر ان جهودا كبرى قد بذلت واتعابا حقيقية قد كرست من اجل هدف الانتصار للمضامين التاريخية التي سعى المؤتمرون ايصالها الى العالم كله ، مصححين بعض الافكار الراسخة الخاطئة حول انطلاق النهضة الاوربية الحديثة ومعالجين ذلك بمنتهى الذكاء وتقديم مشاركات جد رائعة وحيوية . لقد نجح المؤتمرون في تقديم معلومات جديدة وافكار صائبة وتصويب مفاهيم خاطئة .. ويكفي ان بعضا من اهم علماء العالم اليوم قد حضر المؤتمر وشارك بكل حيوية ونشاط ، واوصل رسالته التي يؤمن بها حول قيمة العلوم عند العرب والمسلمين الذين غبن حقهم كثيرا على امتداد الف عام من التاريخ الحضاري ، خصوصا وانهم اسدوا للانسانية جملة من المكتشفات ونتائج المعرفة ما مكّن فلاسفة الغرب والمكتشفين فيه ان يأخذوا جملة هائلة من النظريات العلمية والافكار والمعلومات وينسبونها الى انفسهم مع تطويرها وتجديد مضامينها .
ان مؤتمر الشارقة الدولي الذي شارك فيه نخبة كبيرة حوالي 300 من الاساتذة والعلماء من 35 بلدا في شتى انحاء الارض ، يعد خطوة ريادية عربية اسلامية مباركة .. اذ لم يقتصر المؤتمر على علماء عرب ومسلمين ، بل ساهم في اثرائه علماء ومستشرقون من كل انحاء العالم ، ويحمل بعضهم جائزة نوبل .. اذ اهتم شارلز فالكو ببصريات ابن الهيثم الذي يعتبر اول عالم فيزياء في التاريخ مؤسسا لمنهج علمي حديث يسبق عصر النهضة الاوربية باربعة قرون وعدت فلسفته العلمية منبعا حقيقيا نهل منه الجميع في الفكر الاوربي بدءا من بيكون وانتهاء بكبلر ـ على حد توصيف سارتون ـ
لقد كشف العديد من الباحثين والعلماء في مؤتمر الشارقة الدولي عن جوانب مجهولة في تاريخ العلوم ، وكيف تم تهميش العرب والمسلمين من ادوارهم الخطيرة والرائدة في التطور الانساني .. وقد جاء ذلك على لسان اشهر العلماء اليوم ليس من العرب والمسلمين ، بل من الاساتذة الغربيين والمستشرقين المنصفين ، امثال : جارلس بيرنت وديفيد كنك واحمد جبار وجارلس فالكو وهانس ديبر وبول كونزيتش وغيرهم الذين اجادوا العمل في التراث العربي وخبروا اللغة العربية ، وتوغلوا في مضان المخطوطات والادبيات القديمة وقدموا تحليلات متطورة ومعاصرة جدا تكشف لاول مرة عن أحقية العرب والمسلمين لامتلاك ناصية المناهج الحديثة ، بل وما زال الغبن يلحق بهم حتى الان ، اذ لم يزل تراثهم الغني وكنوزهم الخطيرة لم تنال نصيبها من الاهتمام والتحليل والدراسة . ولابد ان اشير هنا الى ما قلته في ورقتي في المؤتمر : ان العلماء العرب والمسلمين قد تفوقوا كثيرا على المعرفة الاغريقية في ما قدموه من اعمال علمية وثوابت منهجية وفلسفات وافكار جديدة لم تكن معروفة في السابق ، كما انها كانت ولم تزل مستخدمة وقد لحقت بها التطورات الكبرى .. ومن الامثلة تفوق الفارابي في احصاء العلوم لأول مرة ، وصحة ارقام الكندي عن مسافات البحار فهي اقرب الى الحقيقة من تلك التي كتبها بطليموس ، وتأسيس الجاحظ لافكار النشوء والتطور ، وتأسيس ابن الهيثم لمنهج العلم الفيزيائي ، وتأسيسات ابن سينا والرازي في فلسفة الطب والمعرفة ، والخوارزمي في المتواليات العددية ( اصل فكرة الكومبيوتر ) ، وابن حيان في الكيمياء ، وابن رشد في تجديد التفكير ، وتأسيس ابن خرداذبة لعلم البلدان ، وتأسيس ابن خلدون لعلم العمران البشري ( = الاجتماع ) ، وتأسيس الطبري لتدوين الحوليات التاريخية ، وتصانيف ابن خلكان للتراجم والمعرفة البلدانية ، وتأسيس المسعودي للمعرفة الموسوعية للعالم ، وتأسيس الجرجاني لتفكيك النص الشعري والشريف الادريسي في علم الخرائط ، والطوسي في الفلك ، والسجزي في القطوع المخروطية .. اما في الجغرافية الانسانية عند العرب والمسلمين ـ كما يسميها ـ أندريه ميكال ، فلقد كانت ينبوعا معرفيا للجغرافية التاريخية التي تطورت تطورا كبيرا في القرن العشرين .
ان خطوة جامعة الشارقة اليوم تعد منجزا حضاريا كبيرا على مستوى تاريخ العلم ، وتجذيرا للمعرفة الانسانية ، خصوصا ، وانها اقترنت باهتمام من لدن سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة نفسه ، اذ انه يهتم بهذا الشأن منذ زمن طويل كمؤرخ متخصص فضلا عن كونه حاكما عربيا مثقفا يرعى العديد من المؤسسات العلمية .. وقد حظي المؤتمر برعايته الكريمة .. وبهذه المناسبة ، لابد لي ان اشيد بجهود القائمين على التحضير لهذه الظاهرة الكبرى وقد تابعت اتعاب اللجان التنظيمية منذ اكثر من ستة اشهر ، وكان لرئيسها الصديق الدكتور حميد مجول النعيمي استاذ الفيزياء الفلكية والفضائية عميد كلية الاداب والعلوم الدور الاساسي في نجاح المؤتمر الذي عدّ انجازا حضاريا كبيرا .. وكم كنت اتمنى على بعض الباحثين والمشاركين العرب ان تكون مداخلاتهم واوراقهم علمية حقيقية مختزلة ووافية وجديدة بدل الاستطرادات والمطولات .. كما كنت اطمح لو شارك في هذا المؤتمر بعض المفكرين العرب والمسلمين وحتى الدوليين بصفة اعضاء مؤازرين ليسمعوا ما قدم من معان جديدة تشكّل ثورة في تغيير بعض المفاهيم السائدة منذ قرنين حول تشكيل النهضة والحضارة المعاصرة . ان اهم ما في ” المؤتمر ” توصياته واعلانه وخصوصا انبثاق مؤسسة كبرى لهذا الموضوع . انني لا اشيد بهذه ” الظاهرة ” من فراغ ، بل كان المؤتمر حقا مدرسة حيوية في تخصيب المعاني ، وهو فتح للاجيال القادمة ، وصوت دولي يقول للعالم : ها نحن ذا وهذه جذورنا وادوارنا الناصعة .. ها نحن اصحاب علم ومعرفة وحضارة وليس اصحاب قتل وارهاب وتدمير .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 9 ابريل 2008
شاهد أيضاً
المجلس العراقي للثقافة : ملاحظات تأسيسية
ابراهيم الزبيدي ، سيار الجميل يرأس الجلسة الاولى من المؤتمر التأسيسي ، ماجد السامرائي ، …