دارت في اروقة الكونغرس الاميركي نقاشات مثيرة للجدل حول العراق ، وما آلت اليه الاوضاع ليس في العراق وحده ، بل في كل منطقة الشرق الاوسط .. ثم خرج الرئيس جورج بوش ليلقي بيانا في البيت الأبيض يدافع فيه عن استراتيجيته في الحرب تاركا أمر حسم هذا الصراع المكلف الذي لا يلقى تأييدا لمن سيخلفه في الرئاسة. واعتقد ان الامر ليس هينا ابدا ، ذلك ان التركة بالرغم من ثقلها ، ولكن لا خيار امام الولايات المتحدة الا البقاء في العراق لمرحلة غير معروفة ، ليس من اجل الحفاظ على سمعتها في العالم ، وليس ملاحقة لعناصر تنظيم القاعدة ـ كما قال بوش ـ ، بل بسبب مصالحها الحيوية في المستقبل المنظور والبعيد .
ان بيان الرئيس بوش الاخير هو بمثابة تأييد مطلق لتوصية الجنرال ديفيد بتريوس قائد القوات الاميركية في العراق ، ولكن ليس باستكمال سحب محدود للقوات القتالية بحلول يوليو / تموز القادم ، وليس مجرد فرض تجميد لحجم القوات مدته 45 يوما لتقييم الموقف الامني .. بل تكريس للهيمنة لا العسكرية حسب ، بل السياسية والوقوف ازاء ايران التي تعتبرها الادارة الامريكية لها درجة كبيرة من الخطورة ، او هكذا توحي للعالم من اجل البقاء في العراق .
ان مجرد تصريح الرئيس الاميركي مرارا بأن قراره بشأن القوات الاميركية في العراق سيستند الى نصيحة القادة الميدانيين ورفض وضع جدول زمني ملزم لسحب القوات الامريكية والمتحالفة معها هو دليل قاطع على ان الولايات المتحدة ماضية في تطبيق استراتيجية خفية سواء بوجود المحافظين في السلطة ام وصول الديمقراطيين اليها في قابل الايام . واعتقد انه حتى لو اعلن بوش في خطابه خفض مدة الخدمة للقوات الاميركية في العراق وأفغانستان من 15 شهرا كما هو مطبق الان الى عام ، فليس معنى هذا حصول تبدّل في الاستراتيجية الامريكية بقدر ما هو مجرد تكتيك يوّظف في المناورات السياسية .
لقد ادلى بوش ببيانه الاخير بعد مأدبة افطار في البيت الابيض جمعته بكل من ديفيد بتريوس قائد القوات الاميركية في العراق وريان كروكر السفير الاميركي في العراق . وكان الاثنان قد قدما على مدى يومين تقريرا قاتما للكونجرس عن العراق . وقال الديمقراطيون المعارضون ان الاثنين لم يقدما اي استراتيجية للخروج من العراق بعد خمس سنوات على الغزو الاميركي للبلاد عام 2003. قال بتريوس في شهادته : “الذي اختبر منا هذا لفترة طويلة من المؤكد انه يريد لهذه الحرب ان تنتهي مثله مثل اي شخص اخر بل ربما أكثر. ما نريد ان نفعله هو ان نعود الى الوطن بطريقة صحيحة لا تقوض المكاسب التي حاربنا لتحقيقها ” . ولقد غدت قضية العراق محورية في الانتخابات الامريكية للرئاسة . وان اي مرشّح من المرشحين لا ينفي وجود قوات امريكية في العراق حتى لما بعد عام 2009 !
ان من تابع وسمع ما قاله كل من الاثنين سيخرج بانطباع ان الولايات المتحدة الامريكية مع كل تغيير تكتيكاتها العسكرية والسياسية والاعلامية ، الا انها لم تزل تحتفظ باستراتيجيتها والتي لم تزل تعتمدها .. وانها لم تقم رسميا بأية مسائلة لكل من وزير الدفاع السابق رامسفيلد والسفير بول بريمر الحاكم الامريكي للعراق عن كل ما اقترف بحق العراق منذ غزوه عام 2003 حتى اليوم ، فهل سيقوم الديمقراطيون بعمل ذلك وبرفقة الاثنين جورج بوش وطاقمه ؟
لقد تحدث بتريوس العسكري وكروكر المدني بلغة القدرة على تحريك الاحداث الداخلية وكيفية استخدامهما القوة .. ان ما قالاه امام العالم كله يؤكد لنا ان مصالح امريكا قبل العراق حتى ان بلغ أي درجة من الاضمحلال والتهشيم .. وبالرغم من تأكيدهما على ان تقدمّا قد حصل ، فهما يؤكدان على ان هناك حاجة للقيام بالكثير من العمل . المشكلة ان الولايات المتحدة هي التي تسببت بكل ما حدث في العراق ، وهي لا تريد ان تتحّمل نتائج سياساتها الخاطئة . ان التراجع في العنف ـ كما قالا ـ هو مجرد دعاية مضحكة ، فالعراق لم يزل يحترق من شماله حتى جنوبه ولكن باشكال اخرى ، وان مجرد توزيع الاموال الامريكية على البعض لاسكاتهم بعد شراء ذممهم ليس حّلا طبيعيا ابدا .. ان اعادة الاستقرار في العراق بحاجة ماسة الى تصحيح العملية السياسية الجارية والعمل على خلق ارادة عراقية واحدة من خلال مشروع وطني عراقي ينبثق عن مصالحة حقيقية بين العراقيين بتنازل كل طرف عن اجندته ازاء الاخر . فهل توافق الولايات المتحدة على مثل هذا الكلام الذي طرحناه منذ العام 2003 ، ولم يزل ينادي به كل العقلاء العراقيين ؟ ان مجرد تسمية كروكر حكومة المالكي في خطابه اما العالم بـ ” الحكومة الشيعية ” هو تعبير خاطئ عن واقع خاطئ ساهمت الولايات المتحدة في صنعه ضمن استراتيجيتها في العراق ، وهو يسيئ لسياستهم قبل ان يسئ للحكومة العراقية.
ان عناصر تنظيم القاعدة لم تزل قوية بالرغم من تضاؤلها ، اذ قال بتريوس : ان قادة القاعدة ما زالوا “يعتبرون العراق جبهة مركزية في استراتيجيتهم العالمية ويرسلون التمويل والتوجيه والمقاتلين الاجانب الى العراق”. وأضاف أن من الواجب الاستمرار في ممارسة ضغوط لا تكل لمنع القاعدة من تجميع صفوفها في العراق.. في حين يؤكد الديمقراطيون ان بوش فشل في القضاء على القاعدة بتقييد نفسه في العراق وان التهديد الاكبر لها في كل من الباكستان وافغانستان !
ان ما يجري اليوم في العراق لا يعكس الصورة التي نقلها كل من بتريوس وكروكر ، فثمة اكذوبات ولف ودوران على واقع مهترئ جدا .. فمتى يعي ابناء العراق ان طريقهم واحد ، ولا يتحقق الا من خلال مشروع وطني عراقي حقيقي تمثله ارادة سياسية صلبة وقوة داخلية مؤثرة ؟؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 16 ابريل 2008
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …