تابعت بشغف كبير مساهمات الاخوة الكتاب في اجاباتهم لـ “قضايا النهار” على فرضية امتلاك منظمة “القاعدة” شعبية في الاوساط العربية، وكان هذا “الموضوع” قد اثارني منذ 11 ايلول 2001، وبدأت اتابعه، واراقب الفعل وردود الفعل سواء في الاعلام التلفزيوني او في اروقة المدارس والجامعات او في الشوارع العربية. وأرى ان ثمة تعاطفا هائلا مع مشروع “القاعدة” بشعبيته الصامتة من خلال تسويق بضاعته سياسياً ودينياً وشعارياً واعلامياً عبر الخطابات المسجلة المذاعة او المتلفزة.
لم اصدق ان شبابا من الاطباء العرب يعتقلون بتهمة تخطيط تفجيرات ارهابية وتنفيذها وقتل اناس ابرياء اخيراً!! ولا يمكن ان يصل النزق والابتلاء وانعدام المشاعر والكراهية والاحقاد والامراض النفسية القاتلة التي فاقت حدود اي تجارب اخرى في التاريخ الى حد كهذا. ربما كان هناك ارهابيون في منظمات سرية ومافيات خطيرة في الماضي سواء في ايطاليا ام المانيا ام اليابان ام ايرلندا، وكانت مدانة بجرائم خطيرة، ولكن تلك، كانت عناصرها مختفية تحت الارض ولها مطالبها السياسية او المالية او الايديولوجية، في حين غدت منظمة “القاعدة” اليوم تعّبر عن واقع افرزها، ولم تقتصر على ارهاب مجتمعاتنا، بل انتقلت الى ان ترهب العالم وهي تحمل هوية ورموزا وخطابا اسلامويا تمثله مجتمعات كبرى في العالم!
ربما انقلبت الامور على اعقابها وانفلتت كل الضوابط ليغدو الانسان في هذا الشرق الاوسط لا قيمة له ابدا مذ تردّى التفكير واضمحلت الموازين. وغدت مجتمعاتنا تنتقل من كارثة نحو اخرى وتتوالد اجيال وقد غشتها الادران، فتكلست العقول، وتضخمت الاوهام، وتفاقمت الخيالات. وبات الوباء ينتشر يوما بعد آخر بشكل مذهل. انه وباء التعصب والكراهية والتطرف لكل ما هو جديد ولكل ما هو معاصر ولكل ما هو قادم من العالم الحديث. لقد غدا “الاسلام” هو البديل، بل اصبح مرجعا للتمردات والتعصب والتطرف والمقاومة. ويتركز اليوم بكل مخاطره في الشرق الاوسط منتقلا الى اماكن قريبة او بعيدة منه. واصبحت العمليات الارهابية تقرن بالاسلاميين المتطرفين الذين يزيد عددهم بكل تجمعاتهم ومراكز قوتهم يوما بعد آخر. والمفجع حقا ان ملايين المسلمين يعيشون على وهم كبير، اذ انهم مخدوعون بكون هذا الارهاب الذي يجتاح العالم جهاداً دينياً ومقاومة حقيقية للاعداء الأميركيين خصوصا والغربيين عموما.. ان بلدان الشرق الاوسط كلها قنابل موقوتة بهذا الوباء الخطير الذي اخذ يعم المنطقة ويزحف نحو مجتمعاتها في المدن والارياف والسواحل والدواخل.
ان دواخلنا العربية اخذت تزدحم بالاشقياء والضالين بمختلف الوانهم واشكالهم وازيائهم التي تعّبر عن تعصباتهم الكريهة. او تجد الوباء ينتشر في غفلة من الآخرين بسكوت وسرية تامة من دون اي شعور اجتماعي بمخاطره. وما دام لبوسه دينيا، فمن الخطر على المجتمع مساءلته في حين عجزت الدولة عن محاصرته والقضاء عليه بجعل نفسه اداة معارضة شديدة ضد سياسات الدولة وضد سلطاتها. ولعل اهم من يساعد التطرف وبنيته وهياكله المنتشرة في كل مكان ( حتى في البلدان الامنة والمستقرة نسبيا ) هو الاعلام. فالاعلام بكل وسائله مرئيا ام الكترونيا اصبح لا يعّبر الا بوجهة نظره المختلفة عن العصر. ولما غاب الاعتدال وسقطت الاقنعة الايديولوجية في مجتمعاتنا، انتقلت الامور لمصلحة الاشقياء والقتلة والانتحاريين والتفجيريين والتفخيخيين والملثمين والمبرقعين المجرمين الذين لا يكشفون عن انفسهم ولا يعلنون عن هويتهم. ان من ابرز مواطن الارهابيين في الشرق الاوسط مجتمعات باكستان وافغانستان وايران والعراق والسعودية ومصر وفلسطين والجزائر واليمن والصومال. وسينضم الى القائمة ايضا كل من لبنان والاردن وسوريا وبعض دول الخليج فضلا عن تونس والمغرب وهلم جرا. ان الانتقال بمشروع الموت الى العالم بكل ابريائه : شيوخه وشبابه ونسائه واطفاله، وعلى ايدي مهاجرين او لاجئين او طلبة دارسين او شباب مبعوثين او مهنيين عاملين، يعد ظاهرة خطيرة جدا على مستوى العالم، وباسم الاسلام ايضا يريدون ان يزرعوا العالم رعبا وقسوة وهتكا لكل الاعراف الانسانية ومن دون اي شعور بالذنب او الاثم او العدوان او أي احساس بقيمة الحياة. ان هذا نتاج شعبية “القاعدة”، وهي شعبية خفية بكل خلاياها الصامتة.
لقد بدأ المسلمون المتشّددون (وخصوصا من العرب والباكستانيين والايرانيين) يسيئون الى مجتمعات المنطقة وثقافاتها واخلاقياتها. ونسأل: ما الذهنية التي تتحكم بكل المتعصبين الذين لهم شعبيتهم ؟ لقد اصبح الشرق الاوسط كله غريباً عن كل العالم! والعالم كله اصبح مسكوناً بالخوف من اوبئة الشرق الاوسط الذي ارادته الولايات المتحدة الأميركية ان يكون مكان نفايات او حقول الغام بشرية، فلا تجد فيه الا القتل والخطف والفتن والتفجيرات والحروب الاهلية والتشظي الديني والطائفي والعرقي وتنتشر فيه اسلحة وقنص وميليشيات فتاكة، لا تميزها عن السلطة أبداً، اذ غدت دولا داخل دول!! ان الاشقياء والارهابيين يريدون نقل ميليشياتهم نحو العالم المعاصر. والعالم المعاصر ان بقي في غفلة عن كل ما يجري باسم دين او حزب او جماعة او مافيا، فسينفجر من داخله. ستتفجر المؤسسات فجأة، وستؤخذ المجتمعات الآمنة على حين غرة بحيث يندهش الانسان ويصعق ازاء احداث لا تعقل مسبباتها ولا تعالج تداعياتها، بسبب تصفية حسابات دول لدول اخرى، او جعل منطقتنا المهترئة ساحة لتقاسم المصالح.
ان دولا ومنظمات معروفة تقف اليوم راعية لما يحدث، بل انتقل الصراع في عالم اليوم من الحرب الدعائية الباردة الى الحرب الارهابية البشعة. وبات ” الارهاب ” صفقة غالية الثمن لمن يقايض ازاء مصالحه او اجندته او حتى مخططاته ومؤامراته على حساب مجتمعاتنا التي باتت فاقدة للارادة والقوة وهي ترى في مشروع القتل جهادية ورسالة ومهمة دينية. لقد غدا الارهاب في السنوات الاخيرة، اشرس ظاهرة عرفها الانسان وهو ينتقل من طور تاريخي لآخر منذ العام 1979 حتى اليوم. لقد تبلورت الظاهرة في عقد التسعينات الاخير من القرن العشرين، بعد ان سوّق مصطلح ” الصحوة الاسلامية ” في الثمانينيات. وانتقلت الاصولية الدينية من مشروع سياسي الى اعجاب اجتماعي بعد هجمة 11 ايلول 2001.
صحيح ان ثمة ادانة رسمية لمشروع القتل الذي لم يزل يمارس بشكل يثير القرف، ولكن ثمة اعجاب جماهيري خفي به في بعض مجتمعاتنا العربية! اعجاب منقطع النظير بمشروع القتل سواء كان من “القاعدة” او من غيرها. كنت ازور احدى المدارس الابتدائية في واحدة من الدول العربية بعد يوم واحد من احداث 11 ايلول 2001، فراعني ما وجدت من حفلات داخل صفوف المدرسة اقامتها المعلمات اللواتي رقصن مع تلميذات بعمر الزهور لمناسبة غزوة مانهاتن!! ان الخطورة تكمن في نقل كل موبقات “مشروع القتل” الى الجيل الجديد. وعلى كل العالم ان يعالج الامور معالجة جذرية وواقعية وذكية، وان تكون ثمة قوانين صارمة ضد هذه الظاهرة التي ينبغي استئصالها. وان تدرك منطقتنا قاطبة ان الابقاء على هذه “الظاهرة” او حتى مجرد التعاطي معها سيودي بمستقبلنا الى الخراب والدمار. فهل يسمع كلامي احد من المسؤولين او المواطنين ؟ انني اشك في ذلك!
www.sayyaraljamil.com
النهار البيروتية ، 24 نوفمبر 2007
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …