مقدمة
رحل قبل ايام الرئيس العراقي السابق الفريق عبد الرحمن عارف المولود في عام 1916 وقد تجاوز الواحد والتسعين من العمر ، وكان قد حكم العراق بعد مصرع اخيه المشير الركن عبد السلام عارف اول رئيس جمهورية للعراق عام 1966 ، وبقي في السلطة حتى 1968 عندما ازاحه عنها البعثيون في انقلابهم يوم 17 تموز / يوليو بالاتفاق والتآمر مع أقرب المقربين اليه من كبار ضباط قصره الذين خانوه وغدروا به ، وبعد اقل من اسبوعين غدر البعثيون باولئك الضباط واخرجوهم من السلطة واصبح العراق بيدهم يوم 30 تموز / يوليو 1968.. وكان عبد الرحمن عارف قد نفي الى تركيا مع راتبه التقاعدي ، وبقي فيها حتى العام 1988 عندما عاد الى العراق بطلب منه الى صدام حسين .. وبقي ببغداد من دون اي حراك سياسي باستثناء تأييده لمرتين او اكثر صدام حسين ، وكان عارف قد انتقد انتقادا مريرا لموقفه المؤيد من صدام حسين في غزو الكويت وفي الانتخابات الصورية له ، ولكن مصادر قريبة منه المحت الى انه كان مضطرا نتيجة ضغوط شديدة مورست عليه من قبل السلطات في بغداد .. ورحل عن العراق قبل ثلاث سنوات ليستقر في الاردن مع شيخوخته بغرض العلاج كي يرحل الى دار البقاء في عّمان ويدفن في مقابر الشهداء العراقيين بقصبة المفرق الاردنية الصحراوية ..
ما سجلتّه للتاريخ
ولما كنت قد كتبت فصلة دراسية عنه في كتابي ( زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ) وما كتبته عن المعلومات المهمة التي حدثّني بها اثناء لقائي به في العام 1979 والتي ضمنتها كتابي ( الرهانات المستحيلة : العراق وعبد الناصر في التاريخ المعاصر ) ـ قيد النشر ـ ، ( وانظر مقالتي : ماذا قال لي الرئيس عبد الرحمن عارف ؟ ) ، فمن واجبي ان اقف قليلا في تأبين هذا الرجل الهادئ والمسالم الذي حكم العراق واختلفت آراء العراقيين فيه ايضا كعادتهم في تقييم الناس .. ومع خالص احترامي لكل من أدلى بدلوه وكتب عن هذا الرجل .. الا انني اليوم اعيد مضطرا ما كنت قد نشرته عن الرئيس عبد الرحمن عارف قبل سنوات مع انصاف له .. ليس لطيب الذكرى التي احملها عنه فقط ، بل لأنه الرجل الذي يستحق ان يذكر بأكثر من كلمة منصفة للتاريخ .
اخطاء تاريخية في تقييمه !
لقد حييت كل الاخوة الاصدقاء الذين بادروا بتسجيل رأيهم او ما لديهم من رأي عنه ، الا انني لاحظت ومع شديد الاسف ان اخطاء تاريخية قد ارتكبت في بعض الصحف والمجلات والمواقع العربية قبل رحيله او من بعده ، فالرجل لم يكن اصغر من اخيه ( الكبير ) عبد السلام عارف ( كما جاء في مقال بصحيفة الشرق الاوسط ) ، بل كان اكبر منه باربع سنوات ، اذ ولد عبد الرحمن عام 1916 ، في حين ولد عبد السلام عام 1920. فضلا عن ان بيانا للحكومة العراقية الحالية لم يميز صورة عبد السلام عن اخيه عبد الرحمن بنشره للاولى وهذا ما فعلته جريدة القبس الكويتية أيضا والتي نشرت صورة لشخصية سياسية عراقية لا علاقة لها بحقيقة عبد الرحمن عارف .. وان البيان الاول لحركة 14 تموز / يوليو لم يذعه عبد الرحمن عارف ، بل اذاعه عبد السلام عارف .. الخ من الاخطاء التاريخية التي لاحظتها وانا اتابع ما حظي به الرجل من اهتمام . والحقيقة ، انه بالرغم من كتابة بعض الاخوة من الكّتاب العراقيين عنه ، الا ان كل صحيفة نقلت كالعادة نفس عبارات ما قالته الصحيفة الاخرى . ولابد لي ان انّبه ايضا الى ان العديد من الكتّاب السياسيين والمؤرخين قد اخطأوا في كتاباتهم عن الرجل وعهده عدة اخطاء لا يمكن السكوت عليها .. ومزج قسم منهم بينه وبين اخيه عبد السلام عارف ومنهم المؤرخ المعروف حنا بطاطو والمؤرخ بيتر سلاكليت والمؤرخة فيب مار وغيرهم ممن كتب في تاريخ العراق المعاصر.
عندما زرت الرئيس عارف لمرتين أثنتين
لقد اوضحت في كتابتي عن عبد الرحمن عارف تفصيلات زيارتين اثنتين ، في الاولى ذهبت اليه ضمن وفد عائلي الى القصر الجمهوري لتأدية واجب الشكر والعرفان لمناسبة اهتمام الرجل بوفاة والدي ـ رحمه الله ـ وتأبينه في شهر مايس / ابريل 1968 ، واذكر انني سمعت عبد الرحمن عارف يصف والدي بـ ” فقيد القضاء العراقي ” .. وفي المرة الثانية ، كان من حسن الصدف ان التقي بالرجل في تركيا عندما كنت ازورها قادما اليها من بريطانيا لاستخدام بعض مكتباتها العريقة .. وانا طالب دكتوراه عام 1979 ( وثمة تفصيلات عن اللقائين في الكتابين المذكورين في اعلاه ).
التعتيم التاريخي على العهدين القاسمي والعارفي
اختلفت الاراء بتقييم الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف سواء على ايام عهده ، ام على عهد البعثيين الطويل ، ام اليوم .. ويبدو ان ما كتب عنه يبدو قليلا مقارنة بما كتب عن عبد الكريم قاسم او صدام حسين ـ مثلا ـ لاختلاف التأثير ونوعية الحكم وبحكم الاستقطابات الايديولوجية .. ذلك ان الاخوين عارف قد عتّم على تاريخهما تعتيما شبه كامل منذ العام 1968 كما عتّم على كل الرجال العراقيين الذين كان لهم تأثير في السياسة العراقية عهد ذاك امثال : عبد الرحمن البزاز وعارف عبد الرزاق وطاهر يحي وعبد العزيز العقيلي وناجي طالب وصبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان وشكري صالح زكي وغيرهم .. ومن المهم الوقوف على شخصيات تلك ” المرحلة ” ودراستها بشكل حيادي وموضوعي .. لقد اشيع عن عبد الرحمن عارف الكثير واطلقت عليه تسميات غير لائقة من قبل العراقيين انفسهم .. بل وعدت مسالمة الرجل ضعفا ، ونزاهة الرجل خورا ، وترفّع الرجل عن اي طائفية او تحزّب ضياعا ..
ربما كانت له خصال يعتبرها البعض عادية ويعدها آخرون غير مطلوبة ، فلقد انتقده البعض كونه يعد الساعات الست يوميا منتظرا الساعة الثانية بعد الظهر بقوله متى يكتمل الدوام ليذهب الى بيته ينتظر دوام اليوم التالي .. وهذا بالفعل ما اتبعه الرجل ، اذ كان يعتمد اعتمادا اساسيا على رئيس وزرائه في شؤون الحكم وقيادة البلاد وانني لا اعتبرها مثلبة في مجتمع مؤسساتي ! ولكن العراق لم يكن بلادا مؤسساتية ابدا ، ويقول العديد من شهود عيان كانوا مشاركين في صنع القرار عهد ذاك .. انه ساد العراق في عهده تصارع الأجنحة، المدنية منها والعسكرية، فلم يكن العسكريون براضين علي وجود الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيساً للوزارة، واضطر البزاز في آخر الأمر الي تقديم استقالة حكومته تحت ضغط القادة العسكريين، في 16 آب / أغسطس 1966. كما لم يتقبل كل من الناصريين والقوميين بقاء عبد الرحمن عارف في السلطة ، فكانت محاولتهم الفاشلة ضد عارف وكانت بقيادة عارف عبد الرزاق وبتخطيط من دوائر المخابرات المصرية باعتراف عارف عبد الرزاق نفسه !
انه ليس الاستثناء
وليس عيبا ان يستمع عبد الرحمن عارف للاخرين من الساسة والضباط الكبار ويستشيرهم ، اذ ليس معنى ذلك انه غبي لا يفهم او اضعف من صنع قرار .. بل انني اعتبره انسانا يعرف قدر نفسه ولا خاب من استشار ! كما انني لا اعده متهورا كأخيه المرحوم عبد السلام في مواقف لا تعد ولا تحصى ، فالشجاعة مطلوبة ولكنها غير التهور والسفاهة ! ان عبد الرحمن عارف ليس هو الاستثناء في تاريخ سدة الحكم بالعراق ابان القرن العشرين ـ كما وصفه احد الاخوة الكتّاب ـ ، بل انني اعتبره الرجل العادي والطبيعي الذي اختلف عنه الاستثنائيون ، فليس من الحكمة ان يكون الرئيس او القائد دمويا حتى يحكم العراق ، وليس من النضوج ان يكون زعيم الامة متعجرفا ودكتاتوريا !! ان عبد الرحمن عارف لم يكن الاستثناء كونه لم يقتل او يأمر بقتل عراقي واحد .. اذ كان هناك من سبقه في حكم العراق متمتعا بنفس سجاياه العادية .. فكل من فيصل الاول وحفيده فيصل الثاني ـ رحمهما الله ـ لم يصدرا اي احكام سياسية بقتل سياسيين عراقيين ولم تتلطخ اياديهما بالتوقيع على قتل اي عراقي !
قاسم والعارفيان وآخرون
عاش عبد الرحمن عارف حياته ضابطا ليست له مؤهلات عليا أو لامعة في القيادة ، ولكنه كان في منتهى التواضع لا السذاجة، وقد سمعت عنه من اقرب الناس اليه ان لا يهتم بمأكله كثيرا .. كانت وجبته الاساسية قطعة لحم مطبوخ يلفها برغيف خبز ويأكلها ، ويتلوها بكأس من الشاي العراقي الثقيل .. كان لا يهتم بمظاهر الفخفخة والتظاهر والعجرفة والاستعراضات الفارغة .. وهذا ما وجدته فيه عندا التقيت به عندما كان منفيا خارج السلطة .. كان زميلا للزعيم عبد الكريم قاسم ( ولد عام 1914 ) ايام الكلية العسكرية وربما سبقه قاسم بدورة او اثنتين فكان آمرا عليه .. وكثيرا ما كان قاسم ـ رحمه الله ـ يدّبر له المقالب البريئة ، وخصوصا عندما قصّر بنطاله وخاطه فخرج عبد الرحمن صباحا ببنطال قصير !!
والكل يدرك الفروق الكبيرة بين اخوين ضابطين عراقيين ، اذ ان بينه وبين اخيه عبد السلام مسافات واسعة في شخصية كل واحد منهما ولكنهما يشتركان بمزية واحدة هي نزاهة اليد ، فقد دخل كلاهما قيادة العراق وخرجا منها من دون ان يملكا شيئا الا راتبهما التقاعدي .. ولكنها صفة غير استثنائية ايضا في حياتهما ، اذ ان كل القادة والزعماء العراقيين السابقين كانوا يقدسون جميعهم المال العام للبلاد وحتى اولئك الذين اتهموا بالاختلاسات الكبرى ملوكا وامراء وقادة وزعماء ورؤساء حكومات لم يعرف عنهم انهم نهبوا العراق او اعتدوا على المال العام ، والكل كان يسمع بما اشيع عن طاهر يحي ـ رحمه الله ـ كونه ” حرامي بغداد ” ( كذا ) ، واذا به يرحل وهو لا يملك غير بيته !! .. كان عبد الرحمن قد وقع تحت تأثير عبد السلام منذ عهد بعيد ، اذ كان للاخير شخصية قوية ومسيطرة ، ويقال ان اشتراكه في التخطيط للانقلاب العسكري على العهد الملكي كان بالاسم فقط في بداية الامر ، ولكن وجد نفسه ينساق مع مصير كل من اخيه عبد السلام وصديقه عبد الكريم !
سابقة عراقية : اخ يرث الحكم الجمهوري من أخيه !!
ليس غريبا على العراقيين ان يرث الابن اباه والاخ اخاه في اي سلطة اجتماعية .. ولكن ان يرث الاخ الحكم عن أخيه في حكم جمهوري جديد ، فهذه سابقة خطيرة تسجل على العراق .. كما سجل العراقيون اول انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة عام 1936 ! وليكن معلوما بأن تنصيب عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية العراقية لم يكن شرعيا او انه اكتسب الارادة الشعبية من خلال اية انتخابات عامة وبنفس السيناريو الذي حدث في مصر على عهدي كل محمد نجيب وجمال عبد الناصر .. لقد نصّب البعثيون عبد السلام عارف رئيسا ومنحوه رتبة مشير ركن في انقلابهم الدموي الشهير ضد الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 وقيامهم باعدام عبد الكريم قاسم .. ولما قتل عبد السلام في حادث غامض لم تكشف اسراره حتى اليوم اذ انفجرت طائرته الهيلوكبتر قرب البصرة عام 1966 .. ولم يكد يذاع خبر مصرع عبد السلام عارف، في حادث الطائرة المروحية، حتي بدأ الصراع على قمة السلطة، وكانت أطراف الصراع تتمثل أساساً في جبهتين رئيسيتين، عسكرية ومدنية .. والعسكريون كانوا ممسكين بزمام القوة، حيث يسيطرون على كل المراكز الأساسية في الجيش،وقد وقفت هذه الجبهة الي جانب اللواء عبدالرحمن عارف ، شقيق عبد السلام عارف، وكان بمنصب وكيل رئيس أركان الجيش آنذاك بالاضافة الي قيادة الفرقة العسكرية الخامسة المدرعة .
اما الجبهة الثانية فكانت مدنية تتمثل برئيس الوزراء عبدالرحمن البزاز . وبموجب الدستور فإن انتخاب رئيس الجمهورية، في حالة شغور المنصب،يتمّ من قبل مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الأعلي بصورة مشتركة. وهكذا فقد بادر مجلس الوزراء،ومجلس الدفاع الأعلي بعقد اجتماع عاجل، في 16 نيسان / ابريل 1966 ، لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد طُرحت في الاجتماع ثلاثة أسماء: اللواء عبدالرحمن عارف، وكيل رئيس أركان الجيش، وقائد الفرقة الخامسة المدرعة . والدكتور عبدالرحمن البزاز، رئيس الوزراء ، واللواء الركن عبد العزيز العقيلي، قائد الفرقة العسكرية الأولي وزير الدفاع .وفي دورة الاقتراع الأولي، حصل البزاز علي 14 صوتاً، من مجموع 28 صوتاً، فيما حصل عبد الرحمن عارف علي 13 صوتاً، ونال عبدالعزيز العقيلي علي صوت واحد فقط ( بمعنى ان الجميع لم يقبل به ) ، وكان الضباط المصوتين لعبد الرحمن عارف 11 ضابطاً من مجموع 12 باستثناء العقيلي، فيما صوت 14 من الوزراء للبزاز، وعضوان لعارف .
ولكون أن أحداً لم يفز بأغلبية الثلثين، بموجب الدستور فقد جرت دورة ثانية، كان فيها تأثير الضباط حاسماً، فقد أصروا علي انتخاب عبد الرحمن عارف مهما كان الثمن، رافضين قبول تولي البزاز رئاسة الجمهورية ، مما أضطر البزاز الي سحب ترشيحه تحت ضغط العسكريين لصالح عبدالرحمن عارف، فقد كانت القوي المسيطرة علي الجيش، وخاصة عدد من أقرباء عارف، وفي المقدمة منهم (سعيد صليبي) رجل النظام العارفي القوي، لها القول الفصل في عملية الانتخاب، كما أن عبدالناصر، والناصريين، وقفوا الي جانب عبدالرحمن عارف، ضد البزاز، بسبب كره عبد الناصر للبزاز ، وكان مشروع عبد الحكيم عامر الذي وصل بغداد مبعوثا من عبد الناصر بعد وفاة عبد السلام بساعات ، ان يتولى السلطة عارف عبد الرزاق ، فلم تفلح جهوده فآثروا عبد الرحمن عارف ..
مصر وامتداد الحكم العارفي
ولقد سجلت وانتقدت معلومات تاريخية كتبها امين هويدي السفير المصري ببغداد وقت ذاك حول دور الرئيس جمال عبد الناصر في تنصيب عبد الرحمن عارف ، واستهزاء كل من عبد المجيد فريد وامين هويدي بعبد الرحمن عارف عندما كانا ضمن المستقبلين في مطار المثنى قادما من الاتحاد السوفييتي ، وهما يبلغانه في السيارة بانه سيكون رئيسا للعراق قبل ان ينعقد اي اجتماع لاختيار الرئيس ، وكيف تهكما عليه وعلى مشاعره ( راجع : الرهانات المستحيلة ) .
هذا بالاضافة الي أن عبد الرحمن عارف ، كما وصفوه ، يتسم بالضعف، وعدم القدرة علي ادارة شؤون البلاد، وقلة طموحه، جعل الجميع يرضخون لانتخاب عارف، ويفضلونه علي أي مرشح آخر، حيث اعتبروه أقل خطراً من غيره علي مراكزهم في السلطة . وهكذا تولي عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية، فيما بقي البزاز رئيساً للوزارة، وكان نظام عبدالرحمن عارف امتداداً لنظام أخيه عبدالسلام وبقي محور النظام يستند علي الحرس الجمهوري . ويقول مراقبون انه ساد العراق في عهده تصارع الأجنحة، المدنية منها والعسكرية،فلم يكن العسكريون راضين علي وجود البزاز رئيساً للوزارة، واضطر البزاز في آخر الأمر الي تقديم استقالة حكومته تحت ضغط العسكريين، في 16 آب / اغسطس 1961.
الرئيس الذي دعوه بالحمل الوديع
عرف عن بعض العراقيين انهم ان لم يرضوا سياسيا على شخص معين نعتوه بصفة سيئة او ساخرة ، وان وقفوا ضد جماعة معينة اطلقوا عليها كل المنكرات .. كنت اسمع بأذني كيف يسمّون عبد السلام عارف بـ ( حجي مشن ) وطاهر يحي يلقبونه بـ ( سفن أب ) وعبد الرحمن عارف بـ ( الخروف ) ( كذا ) .. الخ كان عبد الرحمن عارف يحب كل الناس ولم اسمع ابدا انه كره احدا ، او كان له موقف من احد ، بل ولم تكن له اي نزعة طائفية او شوفينية بل يبدو انه قد تشّرب بالروح العراقية ولكنها مشوبة بفكرة قومية ودينية بحكم تكوينه واصوله وتربيته ابان الثلاثينيات التي شهدت ايام غازي الاول موجة قومية عارمة في العراق .. كان يصدّق القول من دون ان يشك ابدا في اي من الذين يعمل معهم او الذين يقودهم .. بل يقال ان احمد حسن البكر الذي كان يتردد على مكتبه في القصر دوما برفقة محمود شيت خطاب يخبره بكل صغيرة وكبيرة وفي كل مرة يطلعه على اي مؤامرة ويخدعه لحين ضرب ضربته بالاستيلاء على السلطة ، ويقال ان عارف استدعى البكر يوما بعد سماعه بتدبير انقلاب بعثي ضده ، فوبخه كثيرا ، فما كان من البكر الا ان اقسم اغلظ الايمان باخلاصه له وانكر التهمة الموجهة اليه .. ومضت الايام ، ونجح البكر بالتآمر مع اخلص الضباط العارفيين وفي مقدمتهم : ابراهيم الداوود وعبد الرزاق النايف وفاروق عمر .. وتلك كانت واحدة من مثالب عبد الرحمن عارف انه بحسن نيته وتصديقه هذا وذاك ضيّع السلطة من بين يديه .. ان من صدّق بهم خانوه ، وان من اعتمد عليهم غدروا به .. وان من وثق بعهودهم انقلبوا عليه .. لم يدرك كيفية حكم العراق ، وان لا سبيل لتقدمه وازدهاره الا منح الحقوق لكل مواطنيه باساليب مدنية .. وقف في العام 1967 وقفة عراقية مشرّفة ، وانني اذكر حتى اليوم كما يتذكر غيري كيف انتقده العراقيون وهو يودّع قطعات الجيش العراقي بتوصيتهم الا يقطعوا شجرة ، ولا يقتلوا طفلا أو شيخا ! وقد اثارت توصياته تلك تهكم العراقيين عليه خصوصا وان الحرب الحديثة لا تعرف الرأفة ابدا !
واخيرا : كلمة للتاريخ !
هذا ما احببت ان اسجله في هذه المناسبة من معلومات وافكار عن الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف .. الذي اوصله القدر الى حكم العراق ولم يستطع البقاء في السلطة كونه لا يصلح اساسا للحكم بهكذا قياسات واساليب وحسن نوايا ، وخصوصا للعراق الذي يعد من البلدان الصعبة .. لقد غادر هذا الرجل التاريخ منذ ان سّلم مقاليد العراق الى البعثيين فجر يوم 17 تموز/ يوليو 1968 .. ولن يترك اية بصمات تاريخية حقيقية في تغيير العراق .. كما ولم يستطع ان يفرض هيمنته على القادة من العسكريين العراقيين الكبار الذين كانوا يسيطرون على مراكز القوى ، وجّلهم من بني جلدته ، ولعل من افظع ما يحزن الانسان ان يخونه اقرب المقربين اليه .. كما ولم يستطع ان يحّول نمط الحكم الى الحياة المدنية وبناء المؤسسات .. وبالرغم من مسالمته ووطنتيه ، الا ان مغادرته التاريخ جعل العراق كله يسلك تاريخا من نوع آخر نعيش كل كوارثه واهواله هذه الايام .. رحم الله عبد الرحمن عارف ، فلقد دخل التاريخ وخرج منه من دون ارادته !
www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 1 ايلول / سبتمبر 2007
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …