المقال المنشور للدكتور سيّار الجميل في هذه الصفحة وصلنا قبل قرار “استقالته”، ننشره ونحن نأمل أن لا يكون مقاله الأخير.
أجهل اسم الشاعر العراقيّ الذي قال: “هذه أيام سوداء فاحفظْ شكلها”. لكني أعرف سواد هذه الأيام وسأحفر في ذاكرتي شكلها.
في رسالة ملؤها الأسى أعلن الصديق الباحث والمؤرخ العراقيّ الدكتور سيار الجميل توقفه نهائياً عن الكتابة. الرسالة لا تفصح عن سببٍ يقف وراء قرار الأستاذ الجميل لكنْ ثمة ما لا تخطئه العينُ الفاحصة بين السطور يشي بأن ضغوطاً كبيرة ألجأته إلى هذا القرار. أما وقد اختتم رسالته بالآية القرآنية “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، فسندرك جدّية تلك الضغوط ونوعها.
“استقالة” مفكّرٍ وباحث سياسيّ تؤشر أن خللاً يسم حياتنا الثقافيّة والسياسية معاً. ربما لم يحتمل فضاؤنا الثقافيّ لساناً حرّاً كالدكتور الجميل، كما لم يحتمل هواؤنا النقدَ المعرفيّ للسيّد القمني الذي آثر هو الآخر كتابة بيان استقالةٍ بسبب تهديد الإرهابيين له ولعائلته.
انه زمنُ محنةٍ.
يعاب على المثقف انه استطاب دوره الأليف الذي يجعله في آخر القافلة حادياً ومطيّباً ومبخّراً ولاهجاً باسم أولي الأمر، وحين يخرج من بيننا مثقف يستحق اسم الثقافة “التي هي نقد الأصول والجذور والتشكيك بالمسلّمات ومساءلة الهويّة” نروح نسأل أنفسنا: متى نرى بيان استقالته الذي يخطه تحت تهديد سيوفٍ لا نراها، لكننا نعرف من أيّ حديدٍ صُكّتْ ونحفظ اسمَ حاملها وتقاسيم وجهه الذي يخفيه لثامٌ ثقيل.
لم نكنْ نتفق مع القمني في معظم ما كتب، كما لم تكن رؤانا متطابقة بالتمام مع طروحات الأستاذ سيار الجميل الذي ستفتقد صفحة (آراء) طلّته الأسبوعية علينا كلّ خميس.. لكنْ كلّما غاب لسانٌ حرّ عن ساحة الفكر، كلما تكاثرتْ علينا ألسنةُ الخراب التي تنشطر كالأميبيا في الفضائيات والصحف ومواقع الإنترنت، وهي ألسنة لا تتقن إلا فنّنا العربيّ القديم: فنّ التلقين الذي يجعل الرأي فصلاً للخطاب بقوّة التكرار وحده.
صمتُ القمني الذي أعقبه صمت الدكتور الجميل صمتٌ قابل للقراءة وتأشير زمن محنتنا التي نحياها، لكنه صمت لا يستحقّ أن يجاب عليه من قبلنا بصمت آخر سيكون هذه المرة صمتاً جباناً، أبلغ منه صمتُ القبور.
نحن جميعنا تحت السيف الذي رآه القمني والجميل وهما يستقيلان، وإذا كان صاحب اللثام لم يمرّ على عتبات بيوتنا إلى الآن، فلأنه منشغلٌ بصراع مع أنداده من السدنة الآخرين الذين يماثلونه في مهمة حراسة الهويّة لكنهم يخالفونه حتى الموت في ماهيّة الهوية ذاتها، انه منشغل عنّا بنزاع طائفيّ سرعان ما ينتهي منه ويتفرّغ لكلّ من تحدّثه “شياطينه” أن يفكّر بهذا الاختراع الجديد، أعني تلك البِدعة التي يسمونها الحريّة، أعاذنا الله وإياكم من شرورها.
أفكّر الآن بالمراسلات التي جرت بين أبي العلاء المعرّي والشيخ الشيرازي قاضي مصر في وقته، أفكّر بالأريحية الفكرية التي كان يؤشر فيها القاضي أبيات إلحادٍ عند المعرّي ثم يخاطبه بالصديق العلامة ويدعو له بالتوفيق والسداد.
مضتْ تلك الأيام وأتتْنا أيام مرّة وسوداء.
لقد قهرَ الخوفُ الحريّةَ
الصباح البغدادية
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …