لا ننكر أبدا أن ما حدث في السنوات العشر الأخيرة في الإعلاميات المرئية ، إذ يعد ثورة حقيقية في المعلومات والرأي والأفكار والأخبار من خلال تطور الميديا الحديثة وشبكة المعلومات الدولية ، وأصبح العالم صغيرا ، بل وأصبحت مجتمعاتنا نفسها منكشفة بعضها على الأخر ، وكل يوم يمضي تتّكشف كل مخفياتها ومسكوتاتها واسرارها التي اختزنتها لازمان طويلة .. حتى تلك التي تكمّمت في إطار المجتمع الواحد ! واعتقد إن فضائياتنا العربية كان ينبغي عليها أن تكون أكثر حرفية وذكاء ومهنية وأداء في معالجة واقعنا الذي لم يعد يحتمي بالمستورات ويكشف أكثر عن كل أسراره الجميلة والبشعة ! لقد غدا الإعلام العربي بكل مجالاته وميادينه أهم وسيلة لكشف كل مخفيات مجتمعاتنا العربية والاسلامية وما كانت قد سكتت عنه السياسات لازمان طوال .. بدا الناس يتعّرفون لأول مرة على كنه مجتمعاتهم وما تتضمّنه شرائحها وبيئاتها وجهوياتها من عادات وتقاليد وطقوس غير مشتركة .. بل وان الواقع كله بدا منفضحا ومتعريا بكل ما فيه من أدران ومشكلات ورزايا ، خصوصا وان المادة الإعلامية باتت أساسية جدا اليوم لمتابعة مختلف التطورات في كل عمليات التغيير السريع .
من المؤسف جدا ، أن إعلاميينا العرب سواء القدماء ام المعاصرين ، لم يكونوا بمؤهلين أبدا لمواجهة هذه التحديات الجديدة ، ولم يغدوا حتى الآن بقادرين على توظيف كل منجزات العصر في خدمة مجتمعاتنا وتطوير ذهنياتنا وتكوين مصائرنا ، ولا يمكن أن ننكر أن لبعض فضائياتنا وقعا إعلاميا كبيرا من خلال إعلاميين حقيقيين محترفين للمهنة وأذكياء في متابعة الأحداث التاريخية التي عصفت بالمنطقة منذ سنوات ، ولكن إن نجحت من الناحية السياسية ، فهي تبدو عاجزة في المساهمة بمعالجة الجوانب الاجتماعية والفكرية والأوضاع السكانية والثقافية ..
لقد ازداد عدد الفضائيات الناطقة بالعربية وسيزداد مع توالي الأيام القادمة وزادت معه كل التداعيات والأخطاء ، وغدا بعضها ناطقا باسم أشخاص وأحزاب وطوائف ومذاهب وبأساليب متدنية جدا بكلّ ما تقدّمه للناس من إسفاف حقيقي وخزعبلات ومهاترات .. لقد غابت الرقابة على الممنوعات من قبل سيطرة الدولة لتصبح الأمور مخصخصة ومنفلتة إلى الدرجة التي لم يعد فيها المشاهدين بقادرين على رتق الفجوات وتضييق المرئيات ..
إن الإعلام العربي اليوم ليست له أي مصداقية حقيقية ، إذ لا يمكنني اعتباره محايدا أبدا ، فالفضائيات التي غدت أهم ميادينه لا تكتفي بأدوار الإثارة المصطنعة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو والمسلسلات التافهة والأفلام السخيفة أو الاستعراضات البدائية أو المكررات الساذجة ، بل أن بعضها يساهم في نشر الشعوذة في برامج استهلاكية رثة ترتزق منها المحطات عبر الاتصالات والأسئلة والأجوبة .. لقد أطلعني احد الأصدقاء صدفة على برنامج فضائي في قناة معينة تستضيف فيه معتوها ليوزع على من يكلمه بالتلفون نصائحه السحرية وشعوذاته البدائية التي لها ـ كما يبدو ـ جماهيرية واسعة في مجتمعاتنا ونحن في القرن الواحد والعشرين .. إن دور الفضائيات يغيب تماما في تربية الأجيال وتصويب الأخطاء ونقد المواقف ونشر الرأي العام ومتابعة الأحداث وتحليل الظواهر ، بل وتغيب أيضا بشكل مقصود مساهمات العلماء والمفكرين والتعرف على الثقافات والعالم .. إننا لم نجد أي إعلام واقعي في صناعة المستقبل !
أما من الناحية السياسية ، فان للواقع صورتين أولاها يعكسها الإعلام الواقعي كما هي بلا تغيير ، وثانيها تقوم على التشويه بعيدا عن أي موضوعية وحيادية ومصداقية لأنه لا يصور ما هو كائن وموجود فعلا. أن لكل فضائية عربية سياسة معينة ومزاجية خاصة ومرجعية لها لا تتجاوز خطوطها الحمراء واضويتها الخضراء ، وهذا لا يمكن أن يمرّره الوعي العربي اليوم الذي يطمح أن يرى الحقيقة مهما كانت مريرة ، وإذا كانت الفضائيات تعكس ما ترغب به المجتمعات لا الدول ، فإنها تساهم في تأخر الوعي وتعمل على جر تفكيرنا إلى الوراء قسرا وأنها تزرع كل الخطايا في طبيعة الإدراك الجمعي الذي بات يستهوي ما يرضي عواطفه وما يشبع رغباته وما يلائم أمزجته وما يريح أعصابه ..
إنني أعيد مناديا ومطالبا بالاتفاق على لائحة عربية تطالب الجميع بالاحتراف وبعدم جعل الحرية وسيلة تبرر نشر الفساد الفكري والاجتماعي والأخلاقي وإشاعة الدجل والخرافة والشعوذة وزرع الانقسامات الطائفية والمذهبية وإثارة المواقف وإشعال المشاعر المضادة للحقائق العقلانية والواقعية . لقد كان لبعض الفضائيات شهرتها من أدوار التشهير والإثارة والسخرية من خلال مذيعيها ومراسليها و (خبرائها الاستراتيجيين) الذين ليس لديهم عمل سوى خلق وإثارة المتاعب والاستفزازات واللعب على العواطف والأعصاب ! وهناك سوء تصرف فاضح لإعلاميين وضيوف وأناس عاديين بوسائل الاتصال المتنوعة وخصوصا بتدخلاتهم وإطلاق آرائهم الشخصية مع سيل من التهم الجاهزة والشعارات السياسية والتهريجات المتفق عليها بعيدا عن روح الشفافية والموضوعية حتى طغت السلبيات على الواقع نتيجة إذكاء كل النفوس في الضد ؟
وعليه ، لابد من إصلاحات جذرية معمقة يقوم بها مختصون أذكياء ! كما أن جيلنا الحالي لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق ومكررات النصوص وتشويه العقول والسذاجة الفكرية . انه بحاجة إلى ثورة فكرية وإعلامية وأخلاقية في تطوير أساليب الحذاقة والمهنية العالية والعقلية المنفتحة ، وان تلغى كل هذه البرامج السخيفة التي دخلت كل البيوت والغرف .. إن أجيالنا القادمة ستطالبنا حتما بضرورات المستقبل ، ولكن فضائياتنا تأكل الزمن ، وتضعف الحياة ، وتشغل التفكير ، وتميت الأعصاب وتشوه الأذواق .
ان هذه الثورة الإعلامية إما أن تغدو وسيلة نهضوية حضارية من اجل بناء المستقبل ، أو أنها ستبقي حياتنا كسيحة واستهلاكية وضائعة ، وتلك هي مشكلة معقّدة لا يمكن حلّها أبدا . وعليه ، نطالب بأن يندرج الإعلام المرئي خصوصا في دائرة اهتمام الدول والمجتمعات والمدارس والجامعات وحتى النخب من اجل تقويم أدائه وتطوير برامجه ومنوعاته والاستفادة من مبتكرات ما تقدّمه بقية المجتمعات لأبنائها . فهل ستتحقق أمانينا ؟ إنني اشك في ذلك !
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية 25 اكتوبر 2006
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …