ليس أشقى من للمرء ان يستمع الى جملة من اعلام عربي مضلل ومزّور وهامشّي غير متكافئ ابدا ولا منسجم وهو يعرض على الملايين في الفضائيات العربية ، خصوصا اذا كان الاعلاميون وضيوفهم لهم سذاجتهم او سماجتهم او فجاجتهم وهم لا يدركون اولويات الثقافة العامة ، فكيف اذا دخل هؤلاء معترك الفكر والايديولوجيا والسياسة والاعلام بحق وحقيق ؟؟ ان الكلام قيمة ثمينة لا يمكن ان يغدو مرئيا في بيوت الناس هذيانا وخطلا !! لقد غدا كل من هّب ودبّ يشارك اعلاميا من دون اي تخّصص او لياقة او اصول او منهج او اساليب حوار.. وكل يوم يمضي تزداد هذه الفضائيات التي باتت تلعب بالاهواء والافكار وتؤذي المشاعر بعيدا عن الحقائق والرؤية .
نعم ، لقد غدت ميادين استعراضية لاشباع رغبات جامحة لأناس بدائيين او متحذلقين لا يدركون معاني ما يحكونه ، او يخرج علينا بين الفينة والفينة من يخيف الناس وهو يلعب دورا تحريضيا على اشياء لا وجود لها يختلقها من العدم ويوهم الناس بأنها موجودة ، فمهمته التزوير والتضليل .. وتتفاقم المشكلة التي دوما ما اعبّر عنها بـ ” شقاء الوعي ” في حياتنا العربية .. فمن له شقاء الوعي يتألم عندما يجد امامه من يشّوه المعلومات ، ويسرق الافكار ، ويغّيب المفاهيم ويزّور الوقائع ويهمّش العقل .. لم يعد الانسان يحتفظ باحترامه وكرامته وسط ميدان تتعّرى فيه كل القيم وتتجرد الحياة من تجلياتها.. محاورون ومحاورات وضيوف ثقال الدم ومستعرضو عضلات ورجال دين من هذه الطائفة او تلك ومتطفلون وطفيليون لا يعرفون غير اطلاق التهم واثارة الشغب وهم يحرّضون على الاختلاف والانقسام والقتل والغدر أو حتى التكفير والارهاب .. انهم يتوزعون في عدد من الفضائيات العربية التي تبّث في كل مكان ويشتهرون ببرامجهم وحواراتهم التي غدت بليدة وسمجة على المستمعين والمشاهدين الاذكياء على الارض .
انني اراقب بين حين وآخر بعض برامج تلفزيونية حوارية ، وأسجل جملة من الملاحظات والانتقادات التي اتمنى ان يتنبّه اليها الاخوة من مسؤولي المحطات الفضائية .. انني اعترف ان هناك من الاعلاميين العرب المهرة ومن اصحاب الصنعة والاحتراف ، ولكن دخل علينا في السنوات الاخيرة من ليس له أي باع يذكر في هذا الميدان الحيوي الخطير ، بل وغدا الميدان يعّج بكّل من هّب ودبّ ، ليصبحوا أوصياء على الاعلام العربي المرئي في السنوات الاخيرة ، وهم يفرضون افكارهم وآراءهم السياسية والمؤدلجة والشخصية مع من يقابلوه ، ويفرضون انفسهم فرضا من دون اي حيادية ولا موضوعية ! وأسأل : كيف ستكون عليه اوضاع الجيل الجديد وهو يترّبى على هكذا اعلاميات مستقبلا ؟
تتملكني الدهشة من اناس توكل اليهم مسؤوليات تنفيذ برامج اعلامية لا يدركون الثقافة العامة ولا التاريخ ولا الجغرافية ولا بناء السؤال ولا الاسلوب الصائب ولا صنعة التشكيل ولا استخدام الصورة والخارطة ؟؟ ثمة اجندة سياسية واقنعة ايديولوجية والبسة طائفية لعدد لا يحصى من الفضائيات العربية ، وكلها لا معنى لها ابدا .. ان الارتزاق بات المحّرك الاساسي لجمهرة من الاعلاميين الذين يقولون ما لا يؤمنون ، وكم منهم بحاجة الى اكثر من دورة صحفية واعلامية يتعلمون فيها فلسفة الاعلام وكيفية الالقاء بلغة سليمة .. وهذا ينسحب على عدد غفير من اعلاميينا ذكورا واناثا ، سواء من المعّدين او المقدّمين او المراسلين !!
لا أسألكم ما قوة تحصيلكم العلمي ؟ ولا ندري كيف وجدتم ضالتكم في قنوات فضائية لم تتحرر من اللامبالاة مقارنة بما تتحّلى به اجهزة الاعلام العالمي من صرامة العمل والكفاءة .. ولا ادري كيف يمكن لمثل هذه الفضائيات العربية ان تستمر وما جنايتها مستقبلا وهي تقوم بادوار تستهزئ من خلالها بعقول الملايين ! ثمة عدد من اروع المهنيين المحترفين في حواراتهم واجتذابهم مشاهديهم بحلو حديثهم وخفة دمهم وسرعة بديهيتهم وطلاقة عبارتهم ! انني هنا أشد على ايدي اللامعين نسوة ورجالا ، فهم يعدّون من امهر الناس في الحوار وجذب الاهتمام وحلو الحديث وعمق الثقافة وسعة الاطلاع وسرعة البديهة .. فهل لنا ان نجعل منهم مدرسة يتعّلم منها غيرهم ؟
لقد تجاوزت بعض الفضائيات كثيرا على مشاعر الناس بكل ما تعرضه من اعلام يثير المشاكل ويلهب النعرات ويؤذي النفوس في مجتمعاتنا ويفسد قيمنا وافكارنا .. ولم تنفع مع هكذا اعلام موجّه اي احتجاجات ولا اي نقدات ، بل انه بحاجة الى النقد والتعرّية كي يذوب ويتلاشى ويختفي كما حدث قبل خمسين سنة عندما كان الاعلام الاذاعي تؤججه الاحقاد السياسية ، فكان يلهب المشاعر ويؤججها من دون اي حقيقة يعكسها .. وهذا ما حدث لاعلاميين عرب كبار فرّطوا بمسؤولياتهم ، وجعلوا الاعلام اداة للشتائم والسباب وتأليب الرأي العام والخروج على كل الحدود والاعتبارات .
وأسأل : لماذا يسكت كل من المجتمع والدولة العربيين بمن فيهما من نخب على مقترفات الاعلام المرئي العربي ؟ لماذا لم يتطور ليغدو عالميا ونحن لم نزل لا نعرف كيف نخاطب انفسنا ، فكيف بنا نخاطب العالم ؟ لماذا لم تخضع الفضائيات العربية لجملة من المواد القانونية دوليا ؟ ولماذا لم تخضع برامجها ايضا لأسس سليمة وان يجمعها ميثاق شرف واحد ينص على جملة من الاعتبارات الاخلاقية والمهنية والاعلامية من اجل تطوير تقاليد اعلامية ملتزمة كي تنقل ما تعبر عنه الارادة الجمعية الى العالم . اننا بحاجة الى ثورة اعلامية حقيقية تنقلنا الى عملية حضارية متطورة لها قواعدها واصولها وقيمها وتقاليدها يبحر فيها المحترفون والاذكياء والمخلصون والمبدعون. فهل بلغت رسالتي اليكم هذه المرة ؟ أتمنى ذلك ايها الاعلاميون العرب الاعزاء .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية
2006 يوليو 5
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …