في حوار تلفزيوني اجري معي على فضائية ” الحرة عراق ” .. نقل لي الاخ الاستاذ احمد الهاشم الذي حاورني برفقة اخوين فاضلين رأيا يردده بعض العراقيين يقول بأن عراقنا ما هو الا ” خارطة بريطانية” ، وكنت قد سمعت هذا التشويه من قبل احد الاكاديميين العراقيين المعروفين .. ولقد علقّت على هذا القول المجافي للحقيقة التاريخية بجواب مختزل لم يكن وقت البرنامج ولا موضوعه يسمحان لي ان استطرد لأوضح لكل العراقيين بأن من يشيع مثل هذه الدعاوى التي لا اصل لها من الحقيقة ، نفر من العراقيين الذين لا يريدون ان يبقى العراق كما هو عليه اليوم ، بل يسعون الى تقسيمه وتفتيته بأي شكل من الاشكال وبأي ثمن من الاثمان ..
نعم ، لقد اجبت على ذلك بأن العراق خارطة عراقية كما يثبت لنا التاريخ ، وانه لم يكن في يوم من الايام من صناعة البريطانيين او غيرهم .. وقلت بأن الدولة ( أي : المؤسسات العراقية ) اذا كانت قد تأسست في العام 1921 باسم المملكة العراقية ، فان خارطة التراب العراقي معروفة منذ الاف السنين .. ولا يمكن لأي مخلوق كائنا من كان ان ينفيها جغرافيا من التاريخ مهما بلغت درجة اساءته لها ولتنوعاتها المتباينة .
نعم ايها العراقيون ان العراق خارطة عراقية ومن المعيب ان يثبت لكم أي مؤرخ او باحث ذلك لأناس كان ينبغي عليهم ان يعتزوا بخارطتهم العريقة لا كغيرهم من الشعوب التي اوجدت لها خرائط جديدة لها .. نعم ايها العراقيون ان بلادكم التي نعرفها اليوم كانت قد وجدت لها ترابها وحدودها وتضاريسها منذ الاف السنين ، ولابد ان تمّيزوا بين مفاهيم ألوطن (= التراب ) وبين الدولة (= المؤسسات ) وبين الشعب (= المجتمع ) .. فاذا كان الانكليز قد ساهموا في بناء دولة العراق وانبثقت المملكة العراقية على أيديهم ، فليس معنى ذلك ان حدود العراق قد صنعها الانكليز .. فالحدود كانت موجودة سواء من الناحية السياسية او الادارية على امتداد قرون طوال ..
ولابد ان يدرك حتى المختصين بأن تثبيت الحدود شيء وخلقها شيء آخر .. فاذا كانت المس غروترود بيل قد سهرت الليالي ـ كما كتبت في مذكراتها ـ للتثبت من حدود العراق وسوريا نظرا لخبرتها الطويلة في بادية الشام وتأليفها كتاب عن تلك البادية قبل وصولها للعراق .. فهي لم تخلق حدودا من الوهم ، وان السير برسي كوكس لم يوقّع على حدود العراق السياسية الا بعد التأكد من الخرائط العثمانية التي تثبت حدود العراق الحالية مع كل من ايران وبقية الولايات العثمانية في الاناضول شمالا وفي سوريا شرقا .. وبقيت رسومات وتثبيت الحدود معلقا بين العراق وبين كل من السعودية والكويت حتى نهاية القرن العشرين .
لقد ورث العراقيون على ايدي البريطانيين بلادهم اثر حكم طويل جدا للدولة العثمانية دام اربعة قرون .. وكان العراق يتشكّل من ثلاث ولايات كبرى ، هي : الموصل شمالا وبغداد شاسعة الاطراف وسطا والبصرة جنوبا ( مع انبثاق ولاية شهرزور في اقليم شهرزور فقط ابان القرن 19 ) .. وكان لهذه الولايات المهمة الثلاث حدودها مع بعضها الاخر اولا ومع الولايات السورية ثانيا وحدودها مع ايران ثالثا .. وهناك مناطق منفتحة في البوادي الصحراوية مع كل من الكويت والسعودية .. وتشكّل الحدود مع ايران اصعب واطول الحدود وعقدت من خلالها اربعة عشر معاهدة بدءا بمعاهدة أماسية في القرن 16 وانتهاء بمعاهدة الجزائر عام 1974 .. وكان اقليم كردستان العراق يتبع ولاية الموصل التي طالبت بها تركيا بعد تأسيس الدولة العراقية ، وقد ناضل المواصلة العراقيون من اجل ابقائها عراقية ..فنجحوا وبمساعدة الانكليز في تدويل المشكلة والتي حسمت من قبل لجنة تثبيت الحدود الدولية عن عصبة الامم نظرا لأن الموصل رأس العراق .
ان العراق التاريخي هو اكبر مما نألفه على الخارطة السياسية اليوم .. وللعراق ملحقات جغرافية من البوادي الشاسعة التي يندر فيها السكان الا من تنقلات البدو الرحل على امتداد ايام السنة . والعراق التاريخي يتألف من اقليمين اساسيين ، هما : ارض السواد والجزيرة الفراتية ولواحقهما ، وهما اللذان يؤلفان بلاد ما بين النهرين القديمة Mesopotamia التي وردت في الادبيات الكلاسيكية القديمة لكل من الاغريق والرومان ( راجع : كتابات اريان اكزانافون مثلا ، وقارن بطليموس ومعلوماته ) .
ولابد ان اقول ايضا بأن تقسيمات العراق على امتداد التاريخ كانت ادارية بحتة ولم تكن دينية او طائفية او قومية عرقية بدءا بتشكيل الامصار والكور والدساكر والطسوج ( انظر : ابن خرداذبه ، 5- 14 ) ومرورا بالايالات والولايات والسناجق ( = الالوية ) وانتهاء بالمحافظات والاقضية ( انظر : دونالد بريجارد ، الجغرافية التاريخية ، 43-48) .. وبغداد ـ حسب اليعقوبي ـ واسطة العقد بين بلاد الجزيرة الفراتية وبين بلاد ارض السواد .. كما كانت مركز جذب واستقطاب لاهل الافاق كي يفضلونها على اوطانهم في هذه الدنيا .
ان خارطة العراق الحديثة هي وريثة خارطته العثمانية التي رسمها القدماء حسب نظام الشرق الذي أسسّه السلطان سليمان القانوني 1520- 1566م بعد ان غدا العراق عثمانيا ، اذ كانت قد تأسست فيه عدة دول على امتداد تاريخ طويل .. ونجد الخارطة العثمانية له هي الاقرب لما هي عليه اليوم حدود العراق السياسية .. يقول كينير في كتابه ” الامبراطورية الفارسية ” والمطبوع في سنة 1811 م النص التالي : يمتد العراق من ادنى شط العرب جنوبا حتى مدينة ماردين شمالا ومن زرباطية شرقا الى الخابور غربا ” ( ص89 ) .
واخيرا أقول ، بأن أي محاولة لتزوير حدود العراق سوف لن تنجح ابدا ، كما ان ما يشيعه بعض العراقيين من ان العراق هو وهم لا وجود له .. واذا كانوا يشيعون بانه صناعة بريطانية ، فان ذلك مجرد كلام لا اساس له من الصحة ، لأن العراق بحدود الحالية نجده رسميا ووثائقيا منذ تأسيس نظام الشرق الاداري في القرن السادس عشر .. كما اود القول لمن لم يؤمن بوجود وطن عريق اسمه العراق : اذا كان العراق محظوظا ببقائه حيا مع خسرانه بعض الاطراف ، فان بلاد الشام قد تقطعت الى اربعة اقسام .. وافتقد احد اقسامها منذ اكثر من خمسين سنة ! وعليه ، ابحثوا عن أي حلول في اطار وحدة العراق شريطة عدم تقسيمه او تفتيته ، فلا يمكن لأي دولة في المنطقة ترضى ان تشيع عن نفسها ما يشيعه البعض من العراقيين عن وطنهم ، فكيف بتلك الدول تقبل ان تقسّم وتتفتت ؟؟ ان أي محاولة لتقسيم وتفتيت العراق سيجعله لقما سائغة في افواه دول متوحشة طامعة به منذ ازمان طوال !
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية 22 حزيران/ يونيو 2006
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …