يتقدم التيار الإسلامي و حلفائه الجدد من التيار القومي الصفوف في شن الهجوم تلو الهجوم، و بمناسبة أو دون مناسبة، على التيار الليبرالي في المنطقة، ناقلا عنه للعامة صورة لا تمت بصلة إلى الحقيقة، و محرضا ضده من منطلق انه تيار إباحي يدعو إلى التحرر و الانحلال و التفسخ و إطلاق الغرائز دون قيد أو شرط ، وانه على الصعيد السياسي يرتبط بسدنة الإمبريالية و الرأسمالية في الغرب ، يروج لبرامجهم السياسية والاقتصادية و الثقافية و يتآمر معهم ضد الإسلام و العروبة. و قد انطلت هذه المزاعم على الكثيرين بحيث لم يعد يتذكرون أن التيار الليبرالي في المنطقة العربية له جذور قديمة و لعب دورا أساسيا في وضع لبنات الاستقلال و التمدن و العصرنة و البناء الأولى. ومن هنا برزت الحاجة إلى توعية الجماهير بالأهداف و البرامج الحقيقية للتيار الليبرالي مع الإشارة إلى البعدين التاريخي والفلسفي لليبرالية كمفهوم يسعى إلى إعمال العقل و التفكير و تحرير الفرد من شتى أشكال الوصاية، ومقاومة الظلم و العنف والتطرف و الإقصاء و التمييز تحت أي عنوان و من أي مصدر.
وتأتي الحاجة المتزايدة اليوم إلى الليبرالية و إشاعة مفاهيمها من حقيقتين أساسيتين:
أولا: إن الأشكال الأخرى من التوجهات و المفاهيم السياسية التي طبقتها أوطاننا في مسيرتها منذ الاستقلال لم تؤد إلا إلى المزيد من الإحباط والتراجع و التخلف، بل إلى الهزائم المتتالية. و يخطئ من يظن ، بفعل الوقوع في فخ مزاعم خصوم الليبرالية من أصحاب النظريات المتخشبة، أن الليبراليين كان لهم يد في تلك الهزائم والتراجعات المريرة. والسبب ببساطة أنهم اخرجوا سريعا من السلطة في السنوات الأولى للحقبة الاستقلالية على يد العسكر و حلفائهم من الجماعات العشائرية و الأحزاب القومية أو اليسارية أو الفاشية ممن لا يمكن أن يصنفوا ضمن التيار الليبرالي الحقيقي إلا في نطاق شكلي ضيق، و إن ادعوا خلاف ذلك. ثانيا: إن كل ما تحقق في العوالم الأخرى، و لاسيما في العالم الغربي و اليابان والهند، من نجاحات على مختلف الأصعدة الحضارية، حدث في ظل أنظمة ليبرالية، بمعنى انه لولا اعتماد تلك الأنظمة للمفاهيم الليبرالية و ترسيخها كنهج للعمل و خيار نهائي لما حققت أي إنجاز و لكان حالها أشبه ببقية الأوطان النامية. و في هذا السياق كتب المفكر العراقي د. سيار الجميل ” إن الإنسان ما كان ليصل إلى ما وصل إليه .. لولا المناخ الليبرالي الذي أوجده و تحطيمه كل القيود التي كانت مسيطرة سيطرة عمياء على موارده أو مكانه أو زمانه.. بل كانت تحتكر عقله و ذهنه و مشاعره و علاقاته و تفكيره”. و يمكن هنا أن نضيف أن بعضا من كبار فلاسفة الغرب الكلاسيكيين ممن أنتجوا نظريات مضادة لليبرالية (كارل ماركس مثلا) لم يكن بإمكانهم القيام بذلك لولا ما وفرته لهم المناخات الليبرالية من حرية التفكير و البحث.
وهكذا فان ترسيخ المفاهيم الليبرالية بات ضرورة إذا ما أردنا أن نقتفي اثر الأمم الناهضة و نؤسس لدولة حديثة تتفاعل مع العالم المحيط و تنافسه علما و حقوقا و تنمية و استقرارا و رخاء، أما إذا أردنا “أن نكون مجرد متحف من متاحف التاريخ” بحسب تعبير المفكر السعودي د. تركي الحمد، أو أمة تهوى الضعف و الانحطاط المؤدي إلى انقراضها، فتلك قضية أخرى. ويقدم الحمد وصفة سريعة، لكنها جامعة، للدولة الحديثة بقوله “لا دولة حديثة دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية دون تعددية، ولا تعددية دون ليبرالية”. وكان يمكن أن يواصل لاءاته بإضافة “ولا ليبرالية دون علمانية” لولا رغبته في تجنب إثارة شارع بليد يرى في العلمانية كفرا.
البعد التاريخي لليبرالية
رغم أن مصطلح “ليبرالي” أو ” ليبراليون” تم تداوله منذ القرن الرابع عشر الميلادي في أوروبا، إلا أنه وقت ذاك وعلى مدى القرون الأربعة التالية لم يكن يشير إلى نظرية سياسية متكاملة أو مذهب سياسي واضح بقدر ما كان يشير إلى مجموعة أفكار و مواقف اجتماعية مثل الانفتاح الفكري و رحابة الأفق و حرية الاختيار. و مع مرور الوقت بدأت الليبرالية تعكس طموحات الطبقات المتوسطة الصاعدة في الإصلاح و الانعتاق من السلطة الملكية المطلقة وسلطة الأرستقراطيين من ملاك الأرض و مبدأ “الحق الإلهي للملوك”. و هكذا فان الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر و الثورتين الأمريكية و الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر حملت في طروحاتها مقومات الليبرالية بمناداتها بالحكم الدستوري و الحكومات البرلمانية و معارضتها لأشكال الحكم الإقطاعي و هيمنة الكنيسة والامتيازات الممنوحة لطبقة الملاك.
ويمكن القول بشيء من التجاوز أن الظهور الحقيقي لليبرالية في الغرب كمفهوم سياسي و اقتصادي متكامل كان في القرن التاسع عشر، و كنتيجة لمساهمات متفرقة في أوقات مختلفة لعدد من الفلاسفة من أمثال جون لوك و جون ميلتون و جان جاك روسو و آدم سميث و ديفيد ريكاردو و ايمانويل كانت و جون ستيوارت ميل. ففي هذا القرن لم تظهر الليبرالية كأيدلوجية فقط و إنما حققت الانتصار على ما عداها، خاصة مع انتشار التصنيع في البلدان الغربية وقيام نظام الرأسمالية الصناعية و اقتصاد السوق الخالي من تدخل الحكومة، و تأسيس أنظمة دستورية تحد من سلطات الدولة و ترسخ الحقوق المدنية و تطلق حريات التعبير و الممارسة الدينية و الملكية.
وعلى العكس من بقية الإيديولوجيات التي ظلت في حالة تخشب و عدم قدرة على التفاعل مع المتغيرات العالمية والظواهر الجديدة، فان الليبرالية أثبتت قدرتها على نقد ذاتها و الإضافة إلى مفاهيمها أو إعادة تشكيل بعض مبادئها. ومن هنا تختلف الليبرالية الكلاسيكية عن الليبرالية الحديثة في بعض الجوانب و إن كان الأساس الفلسفي المتمثل بالالتزام بحرية الفرد واحدا. فمثلا لم يعد مجددو الفكر الليبرالي يشددون على تضييق مساحة تدخل الدولة في حياة المواطنين إلى أقصى حد كما في الليبرالية الكلاسيكية، بل صاروا ينادون بفكرة مسئولية الدولة عن تقديم الكثير من الخدمات الاجتماعية للمواطنين و تنظيم الشأن الاقتصادي، ليس بمعنى أن يكون للدولة دور منافس لأصحاب الأعمال و إنما بتدخلها عبر تشريع قوانين من اجل الحد من بعض السلوكيات الضارة المضادة لمبدأ العدالة و المساواة و لا سيما فيما يتعلق بالأجور و ساعات العمل و الضمان الاجتماعي و تشغيل غير البالغين مثلا.
البعد الفلسفي لليبرالية
يلتزم الليبراليون بمجموعة من القيم و المبادئ تشكل في مجموعها موقفا أخلاقيا نبيلا من قضايا حيوية أساسية. ويمكن اختصار هذه المبادئ فيما يلي:
أولا: احترام إنسانية الإنسان، بمعنى الاعتراف بكيانه الفردي و بأنه الأساس و الجوهر الذي لا يمكن تجاهله أو الحط من قدره و عقله أو اعتباره مجرد رقم أو ترس ضمن الجماعة أو المجموعة. وهذا كله بطبيعة الحال من منطلق أن الفرد متى كان معترفا به ككيان قائم بذاته له استقلاليته وكينونته و احتياجاته وطموحاته الفردية، يستطيع التصدي لمشاكل المجتمع بطريقة أفضل و يقدر على الإنجاز و والإبداع و الابهار لصالح وطنه، و العكس بالعكس. و هكذا فان الليبراليين يعطون أهمية قصوى للفرد تفوق أهمية الجماعة و يعتبرون أن وظيفة المجتمع هو حماية مصالح واحتياجات الفرد، و أن كرامة و مساواة الأفراد يجب أن تكونا غاية و ليستا وسيلة لبلوغ أهداف جماعية. لكنهم في الوقت نفسه و كنتيجة للتطور الذي ادخلوه على مفاهيمهم يؤكدون على أهمية المسئولية الاجتماعية.
ثانيا: اعتبار أن الحرية شرط لا غنى عنه لتمكين الأفراد من تنمية قدراتهم و مهاراتهم و تحقيق ذواتهم بما يتفق مع رغباتهم و يحقق لهم الرضا. و يشمل هذا المفهوم حق الفرد، متى ما بلغ سن الرشد، في اختيار مأكله و ملبسه وعمله و معتقده و قراءاته و شريكة حياته و طريقة إنفاق ماله أو قضاء وقته أو تحديد نوع نشاطه أو اختيار أصدقائه دون وصاية من أي سلطة كانت. غير أن هذا لا يعني طبقا للمفهوم الليبرالي الحديث منح الأفراد حرية مطلقة غير محددة. فحرياتهم مقيدة بعدم الإساءة إلى الآخرين أو إلحاق الضرر بهم أو تجاوز القانون و النظام.
ثالثا: إخضاع كل شيء لحكم العقل، بمعنى توظيف هذه الآلة الجبارة التي وهبها الله للإنسان في التوصل إلى الحقائق و الاستنتاجات دون وصاية خارجية سواء من سلطة الاستبداد السياسي أو سلطة الاستبداد الاجتماعي. و هذا بطبيعة الحال نقيض منح الفرد إجازة لعقله و الاستسلام للغيبيات و الخرافات و النصوص الطوباوية و املاءات الآخرين أو الرضا بالتجهيل. و من هنا تعطي الليبرالية قيمة كبرى للمعرفة و التعليم كوسيلة أساسية للارتقاء و تنمية الفرد فالمجتمع، كما تعطي أهمية للحوار و النقاش و الجدل و البحث النقدي باعتبار أن هذه الطرائق كفيلة بالتوصل إلى نتائج عقلانية و منطقية.
رابعا: الالتزام الصارم بأن الناس جميعهم متساوون أمام القانون في الحقوق و الواجبات دون تمييز قائم على النوع أو الجنس أو اللون أو المذهب أو الدين أو الخلفية الاجتماعية. و من هنا كانت مناداتهم بان تكون للأفراد فرص متساوية لتنمية ذواتهم و بالتالي فرصا متساوية للصعود اجتماعيا ووظيفيا. و من هنا أيضا كانت معارضتهم لتدخل الدولة من اجل فرض المساواة فرضا كما في الأنظمة الماركسية، و ذلك انطلاقا من أن الأفراد لم يولدوا متساوين في مواهبهم وملكاتهم. غير أن هذه المعارضة لتدخل الدولة تصبح مقبولة إن كانت بغرض القضاء على التمييز و حماية تكافؤ الفرص.
خامسا: التشديد على مفهوم التسامح و قبول الاختلاف و التنوع و ترسيخه كثقافة مناقضة للقمع و مصادرة الحريات وفرض الرقابة و الإقصاء و التخوين و الهيمنة من طرف ضد أطراف أخرى. وبعبارة أخرى تسعى الليبرالية إلى إقامة مجتمع تعددي يعمل مختلف الأطياف فيه بحرية و باعتراف متبادل تحت مظلة القانون.
سادسا: التأكيد على أن العلمانية شرط لقيام الدولة الليبرالية. فحيث لا تكون هناك علمانية لن تكون هناك ليبرالية. وعلى العكس مما يروجه خصوم الليبرالية، فان العلمانية في المفهوم الليبرالي لا يحارب الدين و لا يلغيه ولا يفرض على الناس تركه كما في الشيوعية، وإنما ينزهه بإبعاده عن الواقع السياسي الموبؤ، عن طريق منع تدخل المؤسسة الدينية في أعمال المؤسسات الدنيوية تاركا للناس ممارسة عقائدهم كل بحسب قناعاته. ويتضح جدوى العلمانية في حالة الدولة ذات المكونات الدينية المتنوعة، حيث تقف الدولة على الحياد التام إزاء الأديان، مانعة امتلاك جماعة دينية ما لحظوة أو نفوذ على حساب الجماعات الدينية الأخرى.
سابعا: إن الديمقراطية بأدواتها و مظاهرها المعروفة شرط لتحقق المبادئ سالفة الذكر و ترسخها. و بعبارة أخرى لا يستخدم الليبراليون الديمقراطية كمطية للوصول إلى السلطة و بالتالي التحكم في رقاب من لا ينتمون إليهم إقصاء أو تمييزا أو اضطهادا، و لا يختزلونها في الانتخابات و البرلمانات و صناديق الاقتراع، ولا يخرجونها عن مضامينها القيمية الحقيقية المتفق عليها من تسامح و حرية و اعتراف بالآخر المختلف، بل يعتبرونها “أولا و قبل كل شيء هي سيادة الشعب من اجل الشعب” بحسب تعبير الكاتبة و المفكرة التونسية د. رجاء بن سلامة. و من هنا فان الديمقراطية طبقا للمفهوم الليبرالي يقوم على المواطنة بمعنى انتماء الفرد للدولة و ليس للدين أو العرق أو الثقافة و مساهمته في الحياة السياسية من هذا المنطلق وحده، و تساويه مساواة تامة مع شركائه في الوطن أمام القانون في الحقوق الواجبات دون النظر إلى دينه أو عرقه أو أصله أو جنسه، بما في ذلك حق إشغال أعلى مناصب الدولة و القضاء. ويعتبر الليبراليون أن الالتزام بمرجعية حقوق الإنسان هو أساس الديمقراطية و لبها.
د. عبد الله المدني / مفكر ليبرالي بحريني
آفاق ، 16 يونيو 2006
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …