«إذا كان المغيظون لا يتركوننا ننمو طبيعياً، لأنهم أوغاد يسرقون لنا طفولتنا، شبابنا وكل حياتنا، فعزاؤنا هو أن نقهر بإبداعنا الزمن الرديء المترديء الذي يخلقونه لنا في كل طور وعصر ”
الروائي المغربي محمد شكري
ـ 1 ـ
مدخــــل
السلوكية المتمثلة في إقدام الدولة السلطوية العربية على تضييق الخناق على المثقف العربي ومحاصرة إبداعه رقابياً وقانونياً وأمنياً عبر مختلف دوائرها الرسمية وغير الرسمية، هي سلوكية قروسطية متحجرة من شأن مواصلة فعلها الذميم أن ترتفع وتيرة الاحتقان السياسي في خلجات نفس ذلك المثقف المأزوم، والذي في أغلب الأحوال سوف يبذل جهده الجاهد من أجل تحويل تفاعلات ذلك الاحتقان إلى جملة من الصور والمظاهر العنفوية، لعل أشدها خطورة على الطرف الخانق يتمثل في خروج المثقف المخنوق من عزلته المجتمعية وتحوله إلى أداة حركية مؤثرة في احتقان الوسط المجتمعي، أو إلى أداة جاهرة بتمردها على استبداد وقهر الخانق.
فالمخنوق عندما لا يجد مفراً من ذلك الخيار سيتحرر مباشرة من عقدة خوفه من بطش الخانق والتي عادة ما يكون قد فرضها متصور مأسوي ناجم عن معطيات انتصار الأخير في مختلف معاركه الشرسة التي خاضها من أجل استئصال واجتثاث الآخر المختلف معه.
المخنوق هنا إذا كان ينتمي لفئة المثقفين المهادنين «فئة نعم سيدي» سوف تكون صور ومظاهر تمرده عنيفة جداً، خاصة بعدما يكون قد مّر بمرحلة تأنيب ضمير اكتشف من خلالها أنه بصمته وتحوله لأداة معرفية تُسوغ الظلم والقهر قد ارتكب جرائم عدة ضد نسيجه المجتمعي، ربما أن أقلها جُرماً يتجسد في مساهمته المباشرة أو غير المباشرة في إجهاض حلم بلورة جيل إصلاحي متمرد على واقعه البائس، وقادر من خلال معتقده المعرفي الناضج على كشف زيف ودجل الخانق واستبدال واقع دولته التسلطية بواقع أكثر تفتحاً ومرونة واقع ينطلق من مرتكزات احترام التعدد والتنوع الفكري وتعزيز قيم التسامح والمواطنة المثمرة والبنّاءة.
إن جدلية الخانق “الفرد الحاكم وحاشيته وأزلامه من الذئاب” والمخنوق “المثقف الإصلاحي المهموم بقضايا وطنه” هي جدلية تاريخية فرضتها عوامل غياب الحكم الصالح والرشيد في منطقتنا العربية واستئثار فرد أو قلة بزمام صناعة واتخاذ القرار السياسي.
جدلية الخانق والمخنوق هي موضوع هذه المقاربة المقالية التي سنحاول من خلال نبش اللامفكر في أبعادها ومضامينها أن نتعرف على جانباً من معاناة المثقف العربي مع الدولة السلطوية العربية (دولة الثقب الأسود).
ـ 2 ـ
في استراتيجية الطبقة المتمجدة
معاناة المثقف المخنوق مع الخانق وذئابه، معاناة لها ملامح وتجليات عدة، ربما أن أبرزها، يتمظهر في التركيبة الاستبدادية التي يتكون منها الكيان السياسي للخانق، والذي يتسم عادة بخصائص وسمات مُقيتة ومُدمرة لمختلف شرائح المجتمع وليس لشريحة المثقفين فقط. خصائص وسمات يكمن أبرزها في وجود فرد طاغية يتربع على قمة الهرم السلطوي وتؤدي تصرفاته الفردية القاهرة إلى صناعة أجواء احتقان وكبت سياسيين، يساعد على تسويغهما طبقة متمجدة تخلع على أفرادها مظاهر التقدير وعلو الشأن ورفع المكانة، وذلك من غير أن يستحقوها، والطبقة المتمجدة لا تجيد عادة إلا المداهنة والنفاق السياسي وحرق البخور ودق المزاهر والدفوف مدحاً لذلك الطاغية وإشادةً بحكمته ورجاحة سياساته.(1)
إن خطورة الطبقة المتمجدة على المثقف المخنوق بشكل خاص والمشهد الثقافي المحلي الذي ينتمي إليه ذلك المثقف بشكل عام يتمثل في سعي عناصرها الكومبرادورية المفسدة إلى تجذير ثقافة الخوف في نفس ذلك المثقف عبر استراتيجية عامة تستهدف بالدرجة الأولى الرعية المغلوب على أمرها. فيتم من خلال القمع المفرخ للخوف واللاجم للشعور بالأنا الاجتماعية اغتيال “الأنا الأخلاقية داخل الفرد، فيرتد إلى أحط أنواع الدناءة والخسة وانتهاز الفرص، والخنوع الذليل للعلاقات التراتبية الهيراركية، حيث تتأسس علاقة عبودية بين كل درجة وما دونها، أو ما فوقها، وصولاً إلى تكريس نوع من الأبوية الربوبية تبدأ بالأب “رب البيت” وتنتهي بالأب السلطوي الحاكم بأمر الله “رب الزمان” حيث التنزل والتنزيل هو الذي يحكم هذه العلاقة الهيراركية. فالأمر من الأعلى، وما على الأدنى سوى الإذعان استمراراً لحكمة أزمنة الانحطاط التي صيغت بقول أبي حيان التوحيدي :
ما تطاول أحد على من دونه إلا بمقدار ما تصاغر أمام من فوقه «(2)
كما تسعى تلك الطبقة المتمجدة في حراكها الثقافي الرامي لتثبيت أركان عرش الفرد الحاكم إلى شراء ذمم المثقفين المهمومين بواقعهم وتحويلهم لأبواق مأجورة لذلك الطاغية، وذلك عبر وسائل وآليات مباشرة وغير مباشرة. وهي عادة في ذلك تدرك بأن المال هو متغير حيوي ورئيسي في معادلة شراء تلك الذمم. وإذا لم يكن المال فإن الإغراء بالمركز أو المنصب القيادي البارز هو الوسيلة الموالية لإحتواء المثقف المخنوق والذي بمجرد أن يقع في فخاخ ذلك الاحتواء يتحول خلال برهة إلى متمجد وذئب أليف للخانق يملك نفس الخصائص والسمات السلوكية التي يملكها من كان بالأمس يفترسه ويفتك برفاقه ونسيجه المجتمعي.
في هذا السياق يتحدث أحد الكتاب العرب عن صديقة المثقف الذي تغير سلوكه التقدمي المتفتح بمجرد تكليفه بأحد المناصب الرفيعة وإنه عندما سأل ذلك الصديق عن سبب ذلك التغير أجاب بكل صراحة بأن ذلك يرجع إلى نظام غير منظور «أقوى من أي رغبات شخصية أو غير شخصية، نظام غير مكتوب، لكنه مسيطر وفعال، من أول لحظة دخلت مكتبي وكل رغباتي مجابة، حتى لو كانت مخالفة للوائح والقوانين، فالكل يجندون أنفسهم لتبرير أي طلبات أو تقنين أي أفكار تطرأ على بالي قبل أن يقوموا بمهام أعمالهم. بمجرد أن أقف يقفون جميعاً، أمشي يمشون، أجلس يجلسون، أحببت هذه السلطة، ثم عشقتها، وأخيراً، أدمنتها، شيء لا أستطيع أن أصفه، وأنت تمارس السطوة يخيل لك أن صفة من صفات الله انتقلت لك”. (3)
هذا عن المثقف الذي استطاعت الطبقة المتمجدة أن توقعه في فخاخ إغراءاتها. فماذا عن ذلك الذي لم تتمكن من إيقاعه في تلك الفخاخ المخزية؟؟
مفكرة التجارب المؤلمة التي عاشها ذلك النمط من المثقفين العرب تشير لوجود أربعة مشاهد بديلة لذلك الاحتواء وهذه المشاهد هي:ـ
أولاً ـ مشهد المهادنة والتعامل مع الخانق وطبقته المتمجدة وفق مضمون المأثور العربي القائل “لنأخذ أفضل ما لديهم ولا نفقد أعز ما نملك”.
ثانيا ـ مشهد الغربة وإعلان التمرد من خارج حدود الوطن، حيث يتحول المثقف المخنوق هنا لممارسة رفضه لواقعه المجتمعي من خلال الانضمام لإحدى التيارات المعارضة للخانق أو اتخاذ موقف معارض ومستقل تنظيمياً عن تلك التيارات.
ثالثاً ـ مشهد الإغتراب الداخلي وتفضيل الانسحاب نهائياً من العمل الثقافي الرسمي، وذلك بسبب عدم مقدرة المثقف المخنوق على المهادنة أو على الغربة وإعلان التمرد من خارج الوطن.
رابعاًـ مشهد المجاهرة بالتمرد داخل الوطن من خلال الانخراط في تنظيم أو عمل ثقافي مسيّس وموجه ضد مصالح الخانق وطبقته المتمجدة. وهذا المشهد في منطقتنا العربية عادة ما يكون مصيره الفشل والانتكاسة ويكون ثمنه اغتيال المثقف المخنوق أو إدخاله للسجن، هناك حيث يتحول ذلك المكان المخصص لمعاقبة المجرمين إلى مكان لاحتجاز ذلك المثقف المخنوق وزرع الرعب والقهر في نفسه. فالسجن “في أساسه تقييد لحرية حركة الجسد في حيز صغير قد لا يتجاوز المتر الواحد في الزنازين المنفردة، وتحكمه مختلف أصناف قوانين وممارسات العقاب والمراقبة. أما الأجساد السجينة فهي أجساد مهزومة، موضوعة في الأقفاص والزنازينز لكن المعنى الذي تدل عليه مشهدية الأجساد المكبلة والمهانة، هو في خصوصية التعذيب الذي يولد نوعاً من لذة السجان بالاستمتاع في التسبب في الألم لجسد الآخر. وهي خصوصية تتجسد في كراهية الجسد والحقد عليه، وتكشف مركب نقص تعويضي عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال. وعلى هذا النحو يُعامل أصحاب الرأي من دعاة الديمقراطية والإصلاح بأسوأ مما يعامل المجرمون ومرتكبو الأعمال الشائنة”.(4)
ـ 3 ـ
المثقف المخنوق وعقبة الخطاب السلطوي
الخطاب كمفردة لغوية يشير إلى إحدى مصدري فعل خاطب يخاطب خطاباً ومخاطبة وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهم، أي نقله من الدلالة على الحدث المجرد من الزمن إلى الدلالة الإسمية، فأصبح قديماً يدل على ما خوطب به وهو الكلام. (5)
وكمفردة مفاهيمية فإنه قد اجتهدت في هذا الإطار العديد من الأقلام البحثية ذات الصبغة الابستمولوجية وبالأخص تلك المنتمية لفكر ما بعد الحداثة وقدمت روزنامة من الاجتهادات والتعريفات الخاصة بالخطاب كمفردة مفاهيمية. ومن بين تلك التعريفات التي ينتمي معظمها لمدارس ما بعد الحداثة الأدبية ما يلي:ـ (6)
1. إن الخطاب ملفوظ طويل أو متتالي من الجمل (هاريس).
2. إن الخطاب هو كل لفظ يفترض متكلماً ومستمعاً وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما (بنفنست).
3. إن الخطاب نص محكوم بوحدة كلية واضحة، يتألف من صيغ تعبيرية متوالية، تصدر من متحدث فرد، يبلغ رسالة ما ( هارتمان وستورك ).
4. إن الخطاب «مجموعة من الملفوظات بوصفها تنتمي إلى نفس التشكيلة الخطابية،فهو ليس وحدة بلاغية أو صورية قابلة لأن تتكرر إلى ما لا نهاية. بل هو عبارة عن عدد محصور من الملفوظات التي نستطيع تحديد شروط وجودها “إنه تاريخي من جهة أخرى، جزء من الزمن، وحدة وانفصال في التاريخ ذاته، يطرح مشكلة حدوده الخاصة، وألوان قطيعته وتحولاته والأنماط النوعية لزمانيته بدل أن يطرح مشكلة انبجاسه المباغث وسط تواطؤ الزمن” ـ ميشيل فوكو. (7).
وتعمل عادة ثلاثة متغيرات رئيسية على بلورة عملية التواصل في الخطاب وهذه المتغيرات هي:
1. المرسل.
2. المرسل إليه.
3. مجموعة العناصر المشتركة التي منها على سبيل المثال العلاقة بين طرفي الخطاب والمعرفة المشتركة والظروف الاجتماعية العامة، بما تثيره من افتراضات مسبقة وقيود تؤطر عملية التواصل.(8)
هذا عن الخطاب كمفردة لغوية وكمفردة مفاهيمية. أما عن الخطاب كمعاناة تثقل كاهل المثقف المخنوق، فإنه يرتبط هنا بما تفرضه رغبة الخانق الملحة في سد العجز الناجم عن شرعية حكمه. حيث يعمل هذا الأخير على تبني خطاب سلطوي يهمين من خلاله على الواقع المجتمعي ويكون بمثابة الخيار الوحيد للتفكير داخل ذلك الواقع المجتمعي.
ولعله من هنا بالضبط تبدأ إشكالية المثقف المخنوق مع الخانق في تصاعد إطرادي مستمر، خاصة عندما يكتشف ذلك المثقف أن خطاب الخانق السلطوي ليس إلا توظيفاً سلبياً لخصائص وسمات المكون السياسي للإيديولوجيا.
في الواقع أن الإيديولوجيا مرتكز هام ورئيسي موجود بشكل أو بآخر في نظم العالم السياسية حيث يصبح وجودها مهم لتفعيل وتحريك الساكن. ولكن ما هو غير هام وغير رئيسي في مفكرة خصائص وسمات أي نظام سياسي ديمقراطي هو أن تتحول تلك الإيديولوجيا إلى مبرر وذريعة لممارسة القهر والعسف ضد عناصر ومفردات النسيج المجتمعي، وإن تصبح مضامينها ومرتكزاتها أشبه بسيف مُسلط على رقاب كل المحاولات الرامية لتعزيز حرية الرأي والتعبير وإقامة مجتمع التعدد والتنوع الفكري الخلاق.
إن بسطة مقتضبة حول مفهوم الإيديولوجيا ستكون مهمة قبل تناولنا لتداعيات التوظيف السلبي الإنغلاقي للمكون السياسي للإيديولوجيا على المثقف المخنوق. فالايديولوجيا كمفهوم تعود في جذورها الاشتقاقية إلى اللغة اللاتينية وتحديداً إلى idea التي يراد بها الفكرة وLogos التي تعني العلم، فيصبح معنى الكلمة (علم الأفكار) ويعتبر “دي ستوت دي تراسي” أول من ابتكر المفهوم وذلك قبل أن يتطور فيما بعد على يد أميل دوركايم.(9)
ويرى بول ريكور أن مفهوم الايديولوجيا في استخدامه المعاصر «مشتق من مدرسة فكرية في فلسفة القرن الثامن عشر الفرنسية، أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية (Ideologues)، وهم دعاة نظرية في الأفكار “.(10 )
وكانوا وفق تحليل ريكور فلاسفة فرنسيين يدعون أنفسهم بالايديولوجيين وبأنهم ورثة كوندياك، حيث نظر أولئك الفلاسفة للايديولوجيا على أنها تحليل لأفكار تكونت من لدن الفكر البشري، وتعرضوا فيما بعد لاضطهاد نابليون الذي اتّهمهم بأنهم يشكلون خطراً على بنية النظام الاجتماعي. (11)
ويرى الكثير من المفكرين والباحثين إن النظرة التحقيرية والإزدرائية للايديولوجيا قد بدأت من خلال ذلك الإتهام النابليوني ومن خلال ظهور دراسات تضع الايديولوجيا بشكل عام كمرادف لتزييف وعي ومخيال الإنسان، وهي دراسات يعتبر معدوها الايديولوجيا وباءً فتاكاً وإن انتشارها السرطاني في وعي ومخيال الإنسان يبدأ من خلال استيلائها “على الفكر من حيث أنه مركز عقائد أساسية لا من حيث أنه مركز مواقف موقوته، وهي لا تفترض لتوافرها جماهير حقيقية بل تكتفي بفئات اجتماعية مهيأة سلفاً ومتألمة من نقص غداء روحي نفسي”(12)
إن الايديولوجيا التي يؤكد بلاميناتز أنها تلقى امتعاضاً وارفاً عند علماء الإنسان الأنثروبولوجيين الذين يدرسون الشعوب البدائية أسلاف الإنسان المتخلف تتميز بسحر خاص يخرجها من دائرة الوعي، الأمر الذي جعل “ألتوسيّر” يربطها بالرغبة والمتخيل والوجدان والوهم، فهي تملك قوة الأساطير التي يئس سوريل من تحري صحتها إذ تخاطب عاطفة من يحملها، وليس من طبيعتها الاستسلام بل المكر والدهاء.(13)
لهذا فإن الايديولوجيا السياسية موضوع هذه السطور تعتمد في توظيفها السلبي المنغلق على خطاب متشدد تتمثل أهم سماته وخصائصه المرضية في النقاط والمحاور التالية:
1. خطاب “باتولوجي” (مَرَضي) يرتكز على إسنادات غير علمية تهدف في توظيفها السلبي لخداع المتلقي وتسيير دفة منظومته الذهنية نحو الميول والغرائز السلطوية للخانق ولعل من بين تلك الإسنادات ما يلي: (14 )
أ ـ الإرداف الخلفي الذي يتعلق بابتكار الخطاب السلطوي لإردافات مبهمة ذات دلالات هلامية غير مفهومة منها على سبيل المثال الإرداف الكامن وراء عبارة (العادل المستبد).
ب ـ التخصيص الذي يتم من خلاله منح المفردات معنى حصرياً لا وجود له خارج السياق الذي أنتجه ومن ذلك مثلا مصطلح (المؤامرة).
ج ـ الاختزال وهو أن تؤدي كلمات معينة عمل منظومة كاملة وكمثال على ذلك ما أورده بورديو من تأكيد على أنه من النادر جداً حين يقول شخص سياسي الشعب، الطبقات الشعبية، ألا تُحدث تأثير الوحي، إنه إجراء متمثل في إثارة الاعتقاد بأن المتحدث الرسمي، البديل الرمزي البسيط للشعب، هو حقاً الشعب بمعنى أن كل ما يقوله هو حقيقة وحياة الشعب.
د ـ الدمج أي أن يقوم متبني الخطاب السلطوي بمنح نفسه صفة الاتحاد والاندماج بالجماعة مشرّعاً بذلك حق النيابة عنها وتمثيلها، من ذلك مثلاً عبارة لويس التاسع عشر “الدولة هي أنا”.
ثانياً ـ اعتقاد متبني الخطاب السلطوي بالتالي: (15)
أ ـ إن خطاب الخانق هو صدق مطلق وأبدي.
ب ـ إن خطاب الخانق صالح لكل زمان ومكان.
ج ـ لا مجال للمناقشة عن أدلة تنفي خطاب الخانق أو تنتقد مرتكزاته.
د ـ المعرفة كلها يجب أن لا تستمد إلا من خطاب الخانق.
ه ـ إدانة أو قمع كل اختلاف مع خطاب الخانق.
ولعل الملاحظة الملفتة للانتباه هنا هو أن متبني خطاب الخانق السلطوي عادةً ما يربط استمرار مصالحه ومنافعه الخاصة باستمرار خطاب الخانق وتجلياته المعتقدية الآنفة حتى لو كانت متقلبة ومتناقضة مرحلياً.
ثالثاً ـ خطاب الخانق السلطوي هو خطاب إطلاق وليس خطاب إنطلاق، خطاب يكرس مجتمع الرعية كبديل لمجتمع المواطنين ولا يعترف بالتعددية الفكرية واحترام الرأي الآخر وأهمية فتح مختلف نوافذ التعبير أمامه.
رابعاً ـ خطاب الخانق السلطوي لا يختلف حاله عن أي خطابات سلطوية أخرى وقعت في فخ «السعي نحو إخفاء مجال التشوهات حتى باتت الوظيفة الأصلية لها تقوم على تحيين الوضع الفردي ومحاولة تطبيقه على المجمل من الأوضاع والممارسات، لتكون النتيجة وقد أبرزت حالة من التوسع المبالغ فيه، لمدار الفصل بين النظرية والتطبيق، بين الجماعة والمجتمع، حتى ليكون الموقف وقد أبرز الكثير من توسيع مجال الفصل بين الفعل وردة الفعل، حيث التطابقات المفترضة مع الواقع من خلال توسيع مجال السجال، هذا الرأي يتبدى في الشعارية، التي تحاول عادةً استدعاء المضامين الإيجابية في خطابها الذي توجهه نحو الآخر الواسع، من خلال الترداد المبالغ فيه، وعلى طريقة ـ أيتها الجماهير ـ (16 )
ـ 4 ـ
عندما يتحول المثقف إلى جرذ !!
وأمام هذا الحاضر الظلامي سيكون مهماً أن نمر لمحور المشهديات الثقافية الموجودة في النظم السياسية الخانقة. ففي هذه النظم يتحول المشهد الثقافي المحلي إلى حقل لتجارب الخانق، ويتحول المثقف إلى جرذ، وظيفته الوحيدة تسويغ مشهد ثقافي شللي قائم على تغليب المصلحة الذاتية الخاصة على المصلحة العامة للمجتمع. ففي هذا المشهد تتلوث الساحة الثقافية بسموم وبراثن العنف الثقافي ويصبح من أهم ملامحها وتجلياتها ما يلي: (17)
أ ـ سيطرة التأويل الفكري المغرض بين جمهور المثقفين.
ب ـ انقسام المثقفين إلى جماعات ثقافية يكون من أبرز سماتها افتقادها لأدبيات الحوار المعرفي المثمر. هذا فضلاً على أنه في حالة إذا ما أسهمت ظروف ومعطيات ما من تمكين جماعة من تلك الجماعات من السيطرة على المشهد الثقافي المحلي، فإن تلك الجماعة تعمل على انتهاز الفرصة من أجل تهميش الجماعات الأخرى. كما تتحول هذه الأخيرة إلى جماعات ثقافية مناوئة للجماعة الثقافية المهيمنة ويصبح من أبرز خصائصها الإنعزال والتمرد غير المعلن والاستعداد للانفجار في أي لحظة.
ج ـ تتنوع وتتعدد وسائل وأساليب العنف الثقافي وتتخذ أشكالاً ودرجات نسبية عدة لعل أهمها انتشار النميمة والغيبة بين جمهور المثقفين والتشكيك في أمانة غير المرضى عنه والتشهير به بواسطة بث الاشاعات الكاذبة. ولعل هذه الأخيرة هي واحدة من أهم الأدوات التي يعتمد عليها الخانق في تمرير استراتيجيته السلطوية. فمن خلال بطانته وطبقته المتمجدة يتم تمرير اشاعات الخوف فى الجماعة الثقافية وقبل كل ذلك تصفية كل من يحمل منها توجهاً مناوئاً للخانق وذلك من خلال اختراقها ولجم أفواهها بمثل ذلك النمط من آليات القمع الذي غالباً ما يساهم فيه المثقف غير المتبني لخطاب الخانق بنسبة كبيرة جداً. فذلك المثقف أو غيره هو في نظر استراتيجية اختراق الخانق للمشهد الثقافي المحلي ليس إلا جرذ تجارب.
على كل حال فإن المثقف الجرذ هنا هو مثقف بائس لعبت معطيات وميكانيزمات عدة في بلورة منظومة شقائه وبؤسه ومن بين أهم تلك المعطيات والميكانيزمات ما يلي:
أولاً ـ تداعيات بطش الخانق تحفر في متخيل ذلك المثقف مشهديات ظلامية تجعله أسير عقدة سيكيولوجية عبر عنها بعمق الشاعر السوري الراحل نزار قباني في أبيات قال فيها : (18)
مُراقَبوُن نحنُ في المقهى…وفي البيتِ
وفي أرحَام أمهَّاتَنـــا
حَيْثُ تلَّفتْنَا، وجدنا المُخَبر السريَّ في انتظارِناَ
يشربُ من قهوتَنـــا..
ينامُ في فراَشنـــا..
يَعْبَثُ في بريدنـــا..
ينكشُ في أوراقَنـــا..
يدخُلُ من أنوفنــــا..
يخرج من سُعَالنـــا..
لساننا مقطُـــوع..
ورأسُنا مقطُـــوع..
وخبزُنا مبَّلل بالخوفِ والدمُوعْ
ربما أيضا نزار يسبر أكثر في مبررات وجود تلك العقدة وتجذرها في متخيل المثقف العربي عندما يقول:
حين يصيرُ الفكرُ في مدينة..
مُسطَّحاً كحدوةِ الحصَان..
مدوراً كحدوةِ الحصَان..
تستطيع أي بندقية يرفُعها جبانْ
أن تسحق الإنسانْ
ثانياً ـ إشكالية النسيج المجتمعي الموجود في أغلب الأقطار العربية، هذا النسيج بسبب ما أسماه الجابري بأزمة العقل السياسي العربي هو نسيج عادةً ما يفرز مثقفاً ناضجاً وقادراً على التعامل بإيجابية وحنكة مع مختلف تفاعلات السياسة.
ثالثاًـ لا يزال المثقف العربي بشكل عام لم يستوعب بعد أهمية العلم في تقييمه ورؤيته للقضايا والأمور، ولا يزال أسيراً للعاطفة والتقريرية التي تجعله فريسة سهلة لفخاخ استراتيجية الخانق وخطابه السلطوي القرّوسطي.
رابعاً ـ نجاح الخانق في تأطير المثقف العربي ضمن مستوى معيشي متدنٍ سهّل من عملية احتوائه وتحويله لجرذ وديع أو لذئب مفترس.
خامساً ـ سيطرة رؤية ثقافية وفكرية يّدعي أصحابها بأن “المثقف ليس سياسياً وليس مطلوباً منه ولا من واجبه أن يقول كلمته في ما يجري من حوله. إنها في الواقع “الكهنوتية الثقافية” التي عمقت عزلة المثقف وتأخيره سياسياً.
إذ لا تكتفي بتبعية المثقف وانخراطه في الكومبارس السلطوي بل تحوله إلى أداة سلطوية براغماتية حسنة الولاء والطاعة، مثقف تمحي من قاموسه كلمة “لا” وتغيب كلياً عن فاعليته أية نزعة للجدل والاختلاف، ( لكهنوتية الثقافية) أوجدت مثقفاً فصامياً تلاحقه صرخات واقع ممزق من جهة وثقافة متتالية ومغيبة من جهة أخرى.(19)
سادساًـ لا يزال العديد من المثقفين العرب بما فيهم الشريحة الإصلاحية تتبنى في خطابها المضاد لخطاب السلطة السياسية أو للأخر المختلف عنه، خطاباً متكلساً قائماً على سجال يمارس التعمية ويوظف المناظرة اللغوية (اللفظية) اعتقاداً من أنصاره أن وظيفتهم تنحصر فقط في حدود رد الفعل الفعل الإنفعالي والمناورة المنهاجية القائمة على تصيد أخطاء وهنات الخصم.
ولعل ما يزيد من وطأة الإشكالية الآنفة هو ما أشار إليه علي حسن الفواز من عدم قدرة الثقافة العربية على التخلص من خطاب المراكز اللانهائية، حيث يؤكد إن الثقافة العربية تعيد إنتاج ذلك الخطاب مع كل المنعطفات التي تواجه المثقف المطرود منهجياً من حاضنتها الأبوية. وكأن هذه المراكز هي البنية التعويضية التي تجعله قيد التذكر والحضور. إن هذه المراكز مازالت ماثلة للعيان في يومياتنا وعبر تمظهرات نصية وسلوكية ونكوصية في البنية الثقافية/السياسية وفي استعارة توليدات تكرر انتاج النموذج المركزي الإيهامي، إذ تتمثل في آليات إنتاج ثقافة الأب والعراف مثلما تنتج ثقافة الشلل وثقافات الإشاعة وثقافات الظاهرة المقترنة بنمط ما يمكن أن أسميه بسلطة الثقافي الاستعراضي”.(20)
سابعاً ـ المثقف العربي المخنوق هو مستوعب نظري وجيد للعملية الإصلاحية والديمقراطية، ولكنه في نفس الوقت “ولا نعمم هنا “فشل في أن يكون سلوكياً وعمليا في مستوى الشعارات والمطالب القيمية النيرة التي ينادي بها. ولعل أفضل مثال يمكن أن نستدلّ به هنا هو تحول بعض المثقفين العراقيين المخنوقين بعد انتهاء حكم الطاغية صدام حسين إلى مثقفين خانقين يتبنون خطاباً لا يختلف في سماته السلطوية عن سمات وخصائص خطاب صدام وحزبه الفاشي. بالتأكيد أن المقارنة بين أولئك وبين الطاغية صدام ليست متكافئة ومتماهية ولكنها عموماً تضع علامات استفهام عدة حول محاور تحليلية وبنيوية يتعلق بعضها بمدى حجم تداعيات الخطاب السلطوي للخانق وتحديداً خلال مرحلة ما بعد أفول حكم الخانق،.كما إنها تطرح علامات إستفهامية عدة حول ما إذا كان المثقف المخنوق في سعيه للمطالبة بسقوط الخانق أو تنحيته عن السلطة يعي جيداً حجم المخاطر المجتمعية التي قد تترتب على سقوط أو تنحي ذلك الخانق، وهل أن النسيج المجتمعي مهيأ للتفاعل الإيجابي والحيوي مع البديل الإصلاحي المطروح من قبل ذلك المثقف المخنوق؟ هذه العلامات الإستفهامية التي تحتاج لأكثر من دراسة لتتناولها موضوعياً ومنهاجياً نطرحها. ونحن نستجلي هنا عبارة دقيقة للمفكر العراقي سيار الجميل الذي يقول في إحدى عباراته المعبرة عن ذلك “لقد كنت في عهد صدام أخشى بطش الدولة والآن أخشى بطش المجتمع”.
إن المثقف المخنوق في صراعه مع الخانق من حقه الطبيعي والمشروع أن يبحث في مختلف البدائل المناسبة للواقع السلطوي الذي فرضه الخانق ولكن ليس من حقه إطلاقاً أن تكون الدبابة الأمريكية هي جسر عون آلية تطبيق بدائله تلك أو أن يكون إغراق المجتمع في شلالات عنف طائفي أو قبلي أو عرقي هو ثمن تطبيقها.
هذا ليس تنظيراً مجانياً وهلامياً لأطروحة “المستبد هو صمام الأمان”، ولكنها دعوة لتبني الحكمة والموضوعية إبان مسألة تقرير مصير مجتمع ما وتحديد المشروع البديل لواقعة المزري والبائس.
ثامناًـ ما يكرّس من محنة العديد من المثقفين المخنوقين بسياسات الخانق التعسفية هو الأزمة الراهنة التي تمر بها مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني في منطقتنا العربية. ففضلاً عن نجاح الخانق في اختراق تلك المؤسسات والمنظمات ببراعة وتمكنه من تأميم معظمها وتسيير دفة نشاطها نحو خدمة منطومته السلطوية، فإن أزمة المجتمع المدني وهنا لا نستخدم المصطلح للتعبير عن كيان واحد ومتجانس، قد خلفت استخلاصات نظرية موجسة فرضتها التزامات المؤشرات الإجرائية لمفهوم أزمة المجتمع المدني والتي يعرفها حليم بركات على أنها “تلك الأزمة الناشئة عن هيمنة الدولة والحكم على المجتمع، وعن تهميش الشعب والحد من مبادراته ومشاركته في عملية التغيير بحرمانه من حقوقه الإنسانية الأساسية، ومنها حقه بالعمل المنظم والتعبئة الشعبية من خلال مؤسساته وجمعياته المهنية واتحاداته ونقاباته وأحزابه ومنظماته ومختلف الحركات الاجتماعية المستقلة التي يمكن العمل من خلالها على تغيير الواقع “. (21 )
إن أهم تلك الإستخلاصات الموجسة تتعلق بمدى إمكانية وجود انتلجنسيا مدنية فاعلة ومؤثرة في منطقتنا العربية وقادرة على الاستخدام المثمر والبناء لورقة المجتمع المدني. وسيكون من الأهمية بمكان أن ننتبه في سياق تعاملنا مع أطروحته إلى موقع إرادة تفعيل منظماته ومؤسساته في منطقتنا العربية في المعادلة الإصلاحية والتي تتطلب كما يؤكد عزمي بشارة الانتباه لمخاطر الدعوات التي تقدم المطالبة بقيام المجتمع المدني قبل المطالبة بوجود النظام الديمقراطي المُلبي لاحتياجات ومطالب النسيج المجتمعي في منطقتنا العربية. صحيح إن إرادة وجود المجتمع المدني الفاعل مطلوبة للضغط على الخانق ونمطه الدولتي المتسلط، لكن يفترض أن نضع في اعتبارنا عند تعاملنا مع المعطيات العملية لتلك الإرادة أن ندرك جيداً بأن المؤسسات المجتمعية بشكلها المعاصر هي آخر تجليات ذلك المجتمع وأن اعتبارها هي المجتمع المدني ثم زرعها في التاريخ بأثر رجعي وكأنها هي التي تقود للديمقراطية هو متصور خاطيء لن يجلب نتائج بل سوف يحيد عن المعركة الحقيقية للمجتمع المدني في بلداننا العربية التي تتوافر فيها نظم حكم غير ديمقراطية.(22)
كذلك فإن ما يعمق من التوجس الآنف هو تداعيات وجود معركتين مزدوجتين في الواقع الثقافي والفكري العربي. الأولى بين الدولة السلطوية والمجتمع المدني، والثانية داخل المجتمع المدني ذاته وتحديداً بين التيار العلماني الديمقراطي على تنوع اتجاهاته وبين التيار الإسلامي السلفي الذي كما يشير السيد ياسين ظهر على الساحة السياسية أكثر تنظيماً وأعمق فاعلية وخصوصاً في مجال الاتصال بالجماهير وقدرته على تعبئتها.(23)
هذا فضلاً على أن مأزق المثقفين العرب يتمثل في نشأتهم الهجينة “ولا تعني الهجانة فقط أنهم وفدوا من عدة طبقات متعاقبة ومتناقضة، بل أولاً أتيانهم من طبقات مشوهة، خاصة الطبقات الأساسية المفروض أن تكون فاعلة في البنية الاجتماعية. فبعض المثقفين من الطبقات الوسطى، هبطوا إلى شرائحها الدنيا، وبعض أبناء العمال والفلاحين، تحركوا صاعدين إلى شرائح أعلى، وبالتالي تباينت النشأة عن محطة الوصول الاجتماعي الأمر الذي أثر في نشأتهم، وقيمهم وخبراتهم وممارساتهم التي يغلب عليها الإزدواج والاختلاط في القيم والرؤى والمواقف «.(24)
تاسعاً ـ عزلة المثقف المخنوق عن واقعه الاجتماعي وتعاليه ومبالغته في تقدير الذات، لعبت دوراً بارزاً في تأصيل تطلعاته للسلطة
لتعويض ذلك الانعزال والنقص الناجم عنه.(25)
كما إن تلك العزلة جعلت الفرصة مواتية أمام الخطابات الهامشية السياسية أو الدينية من أجل اكتساح النسيج المجتمعي وفرض منطقها المتحجر والجامد.
ـ 5 ـ
استخلاصـــــات مقتضبــــة
مما يتقدم يتضح لنا مدى حجم الملامح المأسوية التي تتضمنها جدلية الخانق والمخنوق في خضم ملمحها المتعلق بالمثقف الإصلاحي المهموم بقضايا مجتمعه. كما يتضح لنا أيضاً مدى خطورة التداعيات السلبية المترتبة على انعدام متغير الحكم الصالح في منطقتنا العربية التي يغلب على منظومتها السياسية طابع سلطوي قائم على ثنائية (أبويةـ رعوية) تتسم بشخصنة السلطة التي تعني وفق بيل وليدن «تمتع الرئيس أياً كان بسلطة بشخصنة مطلقة في صنع القرارات، على الرغم من الوجود الشكلي للمؤسسات السياسية. ولا تختلف هذه السلطة كثيراً عن سلطة الأب في نطاق الأسرة، وبخاصة في ظل تشبيه عدد من القادة العرب في الأنظمة الملكية والجمهورية أنفسهم بالآباء، ومجتمعاتهم بالعائلات. وتتضخم هذه السمة في البلدان العربية ذات التكوينات التقليدية وبلدان الخليج وبعض أقطار المغرب العربي “.(26)
لقد ترتب على وجود نمط الدولة السلطوية العربية إشكاليات واسقاطات سلبية عدة على المثقف العربي ومشهده الثقافي المحلي بشكل خاص وعلى العملية الإصلاحية وتدعيم مرتكزات الحكم الصالح بشكل عام، حاولت هذه المقاربة التحليلية توضيح جانباً منها وذلك عبر عدة محاور وأنساق تفسيرية، يمكن القول من خلال سبرنا في أبعادها ومضامينها بأن أهم استخلاصاتها قد تمثل في التالي : ـ
أولاً ـ سلوكية تضييق الخناق على المثقف العربي سلوكية شائنة تدل على مدى سوداوية المنطق الكلاني الذي تقوم عليه الدولة السلطوية العربية ـ (ويعرف المنطق الكلاني بأنه ذلك المنطق الذي يشير لطغيان الدولة السلطوية العربية على الفرد والمجتمع، واشتمال السلطة على مختلف نشاطات الحياة، ونفوذها إلى أدنى العلاقات والتفاصيل الحياتية بأشكالها المختلفة). (27)
ثانياً ـ تسعى الطبقة المتمجدة في تلك الدولة الكلانية إلى لعب دور بارز في تفكيك المشهد الثقافي في المحلي من خلال استراتيجية تقوم على الاحتواء بالمال أو المنصب القيادي أو الإقصاء من خلال العنف المادي أو المعنوي.
ثالثاً ـ للخطاب الذي تتبناه الدولة السلطوية العربية تداعيات سلبية عدة على المثقف المخنوق وإنتاجه الابداعي ربما أبرزها محاصرة ذلك المثقف ضمن نسخة معرفية واحدة وتبني ثلة من الغوغاء والدوغماتيين مفردات خطاب متشدد يجسد في العادة ملمح التوظيف السلبي المنغلق للايديولوجيا السياسية.
رابعاً ـ ما يزيد من وطأة اختناق المثقف العربي هو مساهمته في تسويغ ذلك الاختناق من خلال ممارسات سلوكية سلبية يتجسد أهمها
في استفحال أمر العنف الثقافي .وهو عنف كما اتضح لنا من خلال محاور هذه المقاربة المقالية أنه لا يمثل سوى متغير نتيجة للمتغير الرئيسي والسبب ونقصد بذلك الممارسات التعسفية والقمعية للخانق وذئابه المفترسة.
خامساً ـ ترى هذه المقاربة التحليلية أهمية تكثيف الجهد الرامي لتعميق وعي المثقف الإصلاحي المهموم بقضايا واقعه المجتمعي بأبعاد ومضامين جدلية الخانق والمخنوق والتي لم يكن جهد هذه المقاربة إلا عبارة عن رؤوس أقلام مختزلة أردنا من خلالها تفتيح بعض الحقائق المرتبطة بموضوعة معاناة المثقف العربي مع دولته السلطوية الكلانية ( دولة الثقب الأسود ).
*
الإحــالات:
1. د. سعيد اسماعيل علي، موقف الفكر السياسي العربي من ثقافة القهر، ( مجلة السياسة الدولية، العدد (39)، يناير 2000 م ، مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية )، ص 53.
2. د. عبد الرزّاق عيد، يسألونك عن المجتمع المدني، (الطبعة الأولى، بيروت، دار التنوير، 2005 م)، ص 62.
3. د. محمد عبد السلام عويضة، الطريق الثالث للخروج من دائرة الاستبداد والتخلف، (الطبعة الأولى، القاهرة، مركز الإهرام للترجمة والنشر، 2004 م) / ص 316
4. عمر كوش، سجناء الرأي والسجن السياسي العربي، ( الموقع الالكتروني لصحيفة الحياة اللندنية (www.daralhayat.com)
5. عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب ( مقاربة لغوية تداولية )، (الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2004 م)، ص 36.
6. د. عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، (الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1999 م)، ص 108.
7. د. السيد ولد أباه، التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو، (الطبعة الثانية، بيروت، الدار العربية للعلوم، 2004 م)، ص 110.
8. عبد الهادي بن ظافر الشهري، المصدر السابق، ص 39.
9. عبد الباسط عثمان مادي، خطاب السقوط وسقوط الخطاب، (مجلة دراسات، المركز العالمي للكتاب الأخضر، العدد 19، شتاء 2004م )، ص 51.
10. بول ريكور، (محاضرات في الايديولوجيا واليوتوبيا)، تحرير وتقديم جورج هـ. تيلور، ترجمة فلاح رحيم ( الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2002 م )، ص 50.
11. بول ريكور، من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة، حسان بورقية، (الطبعة الأولى، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2004 م)، ص 300.
12. محمد عبد الله الترهوني، العقلية العربية بين ماضوية التأسيس وحداثة البناء، ( الطبعة الأولى، بنغازي ، منشورات مكتبة قورينا، 1995 م)، ص 50.
13. د. عبد الله عثمان، أيديولوجيا العولمة ( من عولمة السوق إلى تسويق العولمة )، (الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2003 م)، ص 222 -223.
14. عبد المنعم المحجوب، القصور الديمقراطي ( مناقشة حرة )، كتاب فضاءات (6)، ( الطبعة الأولى، طرابلس، المركز العالمي لدراسات الكتاب الأخضر، 2004 م )، ص 102 ـ 104.
15. د. سمير نعيم أحمد، المحددات الاقتصادية الاجتماعية للتطرف الديني، بحث نشر ضمن كتاب الدين في المجتمع العربي، عبد الباقي الهرماسي وآخرون، ( الطبعة الأولى، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، 1990 م )، ص 217.
16. د. إسماعيل نوري الربيعي، العرب وظاهرة احتباس التعبير، موقع إيلاف الالكتروني ( www.elaph.com)، الخميس 19 يناير، 2006 م.
17. عز الدين اللواج، المبتسرون ( نظرة في ظاهرة العنف الثقافي، الملف الثقافي لجريدة العرب اللندنية، العدد 6993، 26/8/2004 م )/ ص 9.
18. للمزيد أنظر : د. عبد الرحمن محمد الوصيفي، نزار قباني شاعراً سياسياً، ( الطبعة الثانية، القاهرة، دار الفكر الحديث للطباعة والنشر، 2002 م ).
19. طاهر عبد مسلم، المثقف والسلطة والإعلام، الموقع الالكتروني لجريدة الزمان العراقية، ( www.azzaman.com)، العدد 1404، 31/1/2003 م.
20. علي حسن الفواز، الثقافة العربية ( موت المركز)، موقع كيكا الثقافي، (www.kikah.com ).
21. د. حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، ( بحث في تفسير الأصول والعلاقات، ( الطبعة الأولى، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000 م)، ص 923.
22. د. عزمي بشارة، المجتمع المدني ـ دراسة نقدية ( مع إشارة للمجتمع المدني العربي، ( الطبعة الأولى، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998 م )، ص 34.
23. د.السيد ياسين، النظام الثقافي العربي بين الأزمة والإنهيار، التقرير الاستراتيجي العربي 1995م، مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ص 19.
24. د. أنور البندورة، المثقفون وتزييف الوعي التنموي العربي، الموقع الإلكتروني لصحيفة الحقائق الثقافية (لندن )، ( www.alhaqaeq.net ).
25. أنور البنذورة، المصدر السابق.
26. د. خميس حزام والي، إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية ( مع إشارة إلى تجربة الجزائر )، ( الطبعة الأولى، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003 م )، ص 94.
27. د. خميس حزام والي، المصدر السابق، ص 12.
عز الدين اللواج / باحث ليبي
شفاف الشرق الاوسط ،11 يونيو 2006
Home / قراءات اخترتها لكم / في جبروت الخانق وآهات المخنوق..(المثقف العربي وتحدي الدولة السلطـــوية).. عز الدين اللواج
Check Also
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …