من هذا الشخص؟ ما الذي يريده منّا؟ من الذي حمله إلى أوطاننا، وهو يتنّقل فيها كما يشاء؟ لماذا ارتبط أسمه في السنوات العشر الأخيرة بالأحداث الساخنة في مصر وليبيا والسودان والعراق وأمكنة أخرى؟ ما قصته مع العرب، وأخيرا مع الكرد العراقيين؟ بل وجدنا صوره برفقة قادة الجيش العراقي قريباً من الموصل بعد سحقها وتدميرها؟ ما صلة هذا الرجل بداعش، وقد عُرف بانحيازه لإسرائيل؟ ما هذه الهالة التي رسمها عن نفسه، وهو يتنّقل بين الحرائق؟ نعرف أنه فرنسي (يهودي)، ولد في الجزائر في 1948، ونشأ في فرنسا، وغدا صحافياً، وسافر عام 1971، كي يغطي انفصال بنغلادش ضدّ باكستان. وعاد ليكتب مغتبطاً: “بنغلادش، القومية في الثورة” (1973)، ثم بدأ ينشر كتاباته، مدّعياً أنه يساري، ولكنه يعارض الاشتراكية إبّان السبعينيات! ونشر في 1981 “الإيديولوجيا”، مقدماً صورة قاتمة للتاريخ الفرنسي، وانتقد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشدة. وفي 1985، وقّع على عريضة لدعم القوات المتطرفة في نيكاراغوا. وهو من أشدّ المؤيدين للصهيونية، ونشر كتباً ومقالات أثار بعضها جدلاً، وقد أشهرته الصهيونية العالمية “فيلسوفاً ومفكراً يسارياً”، فيما هو “يميني صهيوني” متعصّب لإسرائيل على صعيد المواقف والممارسة السياسية. .. وكان قد دعا أيضاً إلى تدّخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في يوغسلافيا السابقة، وروّج تفكيكها.
في التسعينيات، دعا ليفي إلى التدخل الأوروبي والأميركي في الحرب البوسنية خلال تفكيك يوغوسلافيا. وتحدث عن معسكرات الأسرى الصرب الذين كانوا يحتجزون المسلمين، ويمارسون ضدهم صنوف العذاب، وروّج الهولوكوست تحت شعار حريات الشعوب (!) عندما توفي والده 1995، أصبح لفترة وجيزة مدير شركة بيكوب، وباعها في 1997 بمبلغ 750 مليون فرنك لرجل الأعمال فرانسوا بينولت. وأسس، في نهاية التسعينيات، مع بيني ليفي وألاين فينكيلكراوت معهدا للدراسات باسم Levinassian في القدس، تكريما لإيمانويل ليفيناس. في 2003، كتب ليفي تقريرا عن جهوده لتتبع مقتل مراسل صحيفة وول ستريت جورنال دانيال”، دانيال بيرل، والذي خطفه متطرفون إسلاميون وقطعوا رأسه، وزار ليفي أفغانستان وباكستان والهند وأوروبا والولايات المتحدة.. وكتب أشياء غير حقيقية، عن بيرل، حتى اضطرت أرملة الأخير وصف ليفي بأنه “دمر نفسه بالأنا الخاصة به”، واتهمته بتهم مخيفة، فضلا عن أن المؤرخ البريطاني، وليام دالريمبل، دانه كونه يكتب أشياء من خياله، ويقنع الناس بها باعتبارها حقائق. وصلت ثروته، عام 2004، إلى 150 مليون يورو، وهو يملك سبع شركات لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وله استثمارات واسعة في البورصة.
وفي مارس/ آذار 2006، برنارد هنري ليفي اشترك مع عشرة أشخاص للتوقيع على “بيان لمواجهة الشمولية الجديدة”، ردّاً على احتجاجات عنيفة ودامية في العالم الإسلامي، تتعلّق بالرسوم الكاريكاتيرية الساخرة عن الرسول الأكرم في الدنمارك. وقام في سبتمبر/ أيلول 2008، بجولة في الولايات المتحدة، لترويج كتابه “اليسار في الظلام: موقف ضد البربرية الجديدة”. وفي العام 2006، شارك في الحوار عن الحجاب للمرأة المسلمة. وفي أغسطس/ آب 2008، وصل إلى أوستيا الجنوبية، وقابل رئيس جورجيا، ميخائيل سكاشفيلي، خلال الحرب التي جرت مع روسيا وقت ذاك، مروّجاً لغة الدم. خلال العقد الأول من هذا القرن، دعا إلى الاهتمام بأزمة إقليم دارفور.
نشر في فبراير/ شباط 2016، كتابه “روح اليهودية”، حكى فيه عما سماها “العبقرية اليهودية”. ويستكشف الكتاب اعتبارات دولة إسرائيل، كونها اختباراً لليهود وغير اليهود على حدّ سواء؛ فضلاً عن جذور معاداة السامية وأسبابها، حيث وجد بكلّ صفاقة “أن الجيش الإسرائيلي أكثر الجيوش أخلاقية وديمقراطية” (كذا)، وهو القائل إن الجولان “أرض مقدسة”، وكان مرشحاً لرئاسة إسرائيل.
من قرأ كتبه في ثقافتنا السياسية؟ من اكتشف من يكون؟ ما وظيفته الحقيقية الخطيرة؟ وما طبيعة مهمّته وحركته في أوطاننا؟ وإذا كان قد وصف نفسه مفكرا، وأنه من أبرز المثقفين الفرنسيين.. فهل من واجب المفكّر أن يتنّقل في بيئاتٍ ساخنةٍ في الشرق الأوسط، ويلتقي بمسؤولين وساسة وزعماء من هنا وهناك؟
خلال مايو/ أيار 2012، وجد في ميدان التحرير في أثناء الثورة المصرية، وترك انطباعاً لمشاهدي فيلمه بأنّ الثورات العربية ما كان لها أن تقوم، لولا أنه شخصياً كان خلفها مشجعاً ومخططاً وقائداً. وكان قد دافع عن جنرالات الجزائر، لمحاربتهم “إرهاب الفاشيين الإسلاميين”. وقد أرخ في كتابه “الحرب من دون أن نحبها.. يوميات كاتب في قلب الربيع العربي” (صادر أواخر 2011) لحيثيات الثورة الليبية، وكواليسها ومجرياتها، وقد كان “شاهد عيان عايش فصولها” ما بين 23 فبراير/ شباط و15 سبتمبر/ أيلول 2011، مجدّداً ادعاءاته، ومخفيا مهامه الحقيقية. ونشر في مايو/ أيار 2016، فيلما وثائقيا باسم “اليشمركة”، عرض في مهرجان كان.
يمثّل بيرنارد هنري ليفي دور الباحث اليائس عن الإسلام المتنور، لكنه كما يبدو يحمل كرهاً شديداً ضدّ العرب والمسلمين وكلّ المجتمعات الشرقية، ويتذّرع بحقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولكن من يدقق في خطابه يجده مثيرا للنعرات، ونافياً التعايش التاريخي في مجتمعاتنا، ويسعى إلى تفكيك حياتنا وإثارة الحساسيّات الشوفينية. وكان يصفق للاستلابات التي هزّت الثورات العربية، وعمد إلى تشويهها، وتنقّل بين الأمكنة، موظّفاً أجندته باسم حرية الضمير والمعتقد، وتحفيز المتخيلات التي تريد مجتمعاتنا اللعب عليها.. حتى وجد في كردستان العراق أخيرا، وأنبِّه الإخوة القادة الكرد أن يأخذوا حذرهم، وأن لا يأخذوا بنصائحه.
يقدم هذا الشخص الغريب نفسه منقذاً، أو بطلاً لتحقيق أحلام أمّة كاملة في حين يخفي أوراقه، إذ يعلن، في بعض المرات، عكس ما يبطن. وقد واجه سيلاً من الانتقادات الساخنة، والسخط المبرم، والعبارات الساخرة، من دون أن يشعر بالحرج، وكأنه في مهمة عسكرية، كما يتصرف ليس باعتباره مثقفا يكتفي بالمراقبة، وإبداء الرأي، ولكنه يجعل من نفسه حكماً وزعيماً غير متوج، كما اتهم بأنه لا يقرأ، مخادع كبير ودجال مبطّن، وينتشي بإشعال الحروب والتشفي بالمآسي والانسحاقات. ومن أعظم المصائب أن حكامنا ومسؤولينا الجدد يرحبون به، ويمنحونه ثقتهم، فهل علموا لماذا رفضته بلغراد على أراضيها أخيرا، وضربه شبابها التقدّمي، وتلطخ بالقاذورات؟
تزوج ثلاث مرات، وزوجته الحالية الممثلة والمغنّية الفرنسية أريل دومباسل، وكان صديقاً للرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولاي ساركوزي، لكن علاقتهما انقطعت في 2007 خلال الانتخابات، إذ رفض دعمه. ومن أخطر كتبه “تأملات حول الحرب والشر ونهاية التاريخ” (2002)، وجعل من نفسه أوليغارشياً من أجل تدمير الأمم، وزرعها بالفاسدين الأقوياء ومصالحهم القذرة. وقد أطلق عليه فلاسفة فرنسيون كبار، أمثال جيل دولوز وجاك دريدا والمؤرخ بيار فيدال ناكيه، أسوأ الصفات، وأسموه “الخديعة الثقافية”.
في الخلاصة أن برنارد هنري ليفي تتحكّم فيه خمس نزعات خطيرة جداً: كراهيته الشديدة للعالم، من خلال تعصبّه وغلوه الصهيونيين، واحتقاره مجتمعاتنا العربية والاسلامية ونعتها بأسوأ النعوت. ازدواجيته، فهو ممثل بارع للفكر التقدمي، ولكنه غارق في اليمينية والفكر غير الإنساني، فهو يوظف مفاهيم الحوار في خطاباته، لكن مواقفه تنبئنا بما يحمله من مشاعر التدمير الكاسح. هو فعلا خديعة ثقافية، نظرا لخداعه كبار الساسة والقادة والإعلاميين الفرنسيين وغيرهم. يستغل سمعة مزيفة في تنقلاته، ويثير الأسئلة عن أدواره المشبوهة في بيئات متنوعة في العالم. ليس له تخصص ثابت، فهو ليس مفكّرا حقيقيا، ولا مخرجا سينمائيا، ولا عالماً ذكياً ولا إعلامياً مهنياً .. إنه أداة أسرائيلية متنقلة من أجل إثارة الفتن وصناعة الكوارث واستلاب الثورات. أقول للعالم أجمع: احذروه.
نشرت في العربي الجديد ، لندن ، 9 اكتوبر / تشرين الاول 2017 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل