هذا جزء مترجم من محاضرتي في 26 سبتمبر/ أيلول الجاري في جامعة ميغيل University McGill في مدينة مونتريال الكندية عاصمة اقليم كيبك ، وكانت عن مستقبل الشرق الأوسط، ضمن هيئة دراسات المستقبل، مخصصّاً تحديد العلاقة الكردية العربية في العراق الذي يعيش اليوم مخاضاً صعباً يتضمّن قرار الكرد تحديد مستقبلهم عبر استفتاء أجروه يوم 25 سبتمبر الجاري لاستقلالهم عن العراق ، في “دولة” قومية. دعوني اقول بأن محاضرتي كانت جزءاً من دراسة موسعة، مستخلصة من حوارات مع المفكر العربي عزمي بشارة، أجراها معه صقر أبو فخر، وضمّنها كتاب “في نفي المنفى” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017).
يعيش العراق اليوم معضلاتٍ معقّدة لا حصر لها في كل المجالات. وتمنى العقلاء أن تحظى البلاد بقادة أذكياء وبناة أكفاء يتمتعون بحكمة وعقل ووطنية وخبرة، من أجل إدارة أزماتها ومعالجة أوضاعها وازديادها تهرّؤاً مع توالي الأيام. والعراق منذ 2003 ينتقل من سيناريو متوحش صعب إلى سينايوهات الجحيم، ولا حلول لمشكلاته. ولأول مرة في تاريخه، يواجه مسألة انفصال الكرد عنه بعد تعايش اجتماعي بقي مئات السنين. والمسؤولية التاريخية لوحدة العراق الوطنية والجغرافية يتحمّلها النظام السياسي الحاكم، وهو المسؤول الحقيقي عن تفكك العراق وتشرذم نسيج مجتمعه وضياعه، في الإصرار على الأجندة التي جاء يبشّر بها، وضربه النزعة الوطنية، وتفسيخ العراق على أساس بعثرة المكونات وتهميش الأغلبيات على حساب سيادة الأقلية الحاكمة وطغيانها، فكيف سيغدو مستقبله في ظلّ ما قام به نظام يقوم على أسس طائفية ومرجعيات متآكلة، وسيطرة طبقة سياسية فاسدة ومتخلّفة، تستمدّ قوتها من مومياءات العصور الوسطى. فالمشكلة بحاجة إلى حلول جذرية. وقد جرى تحالف الشيعة مع الكرد بعد العام 2003، بمباركة أميركية وإيرانية، وثار العرب السنة بعد اقصائهم وتهميشهم وسحقت الأقليات الأخرى، وساد التوحّش وجثم الصراع الطائفي وتهتك المجتمع الذي يعتبر غالبية سكانه من العرب.
يقول عزمي بشارة: “لنأخذ العراق.. فإن معظم أهله عرب.. هذا مكوّن رئيس ومهم في تشكيل هويتهم الثقافية.. وفي تميّزهم عن الإيرانيين والأتراك المحيطين بهم.. هذه الهوية هي قاعدة ثقافية مشتركة عابرة للطوائف، بين الشيعة والسنة العرب، وهي غير مصطنعة، ويمكن بسهولة تتبع تاريخ مشترك لها. وفي الوقت نفسه، يمكننا تخّيل أمة عراقية، لا أمة عربية وقومية عربية، من غير الممكن بناء قومية عراقية. وما يمكن أن ينشأ هو أمة مواطنين، وتشمل هذه الأمة العراقية أكراداً لهم قوميتهم المشتركة مع أكراد آخرين، لا يعيشون في العراق، كما تشمل عرباً هم أغلبية سكان العراق، يمكن التوّصل إلى حلول خلاقة للعلاقة بين القوميتين العربية والكردية، على أساس احترام الحقوق الفردية والجماعية” (ص 47- 48).
هذه فكرة موضوعية، اعتبرها قيمة فكرية في تحديد علاقات جديدة بتشكيل “أمة مواطنين عراقيين” تجمع كلّ القوميات والهويّات في كيانٍ يشترط أن يكون مدنياً يحكمه دستور مدني، ربما بالصيغة التي طرحتها مؤخرا لمّا سميّتها “الولايات العراقية المتحدة”، يبنى على أساس جغرافي من خمس ولايات، كأن يكون الأساس إدارياً أو فيدرالياً أو كونفيدرالياً.
ويتجاوز عزمي بشارة الحيادية إلى الموضوعية في تحديد رؤية مستقبلية للعراق، سبقت إجراء الاستفتاء بشهور. يقول “.. فالكرد أقرب الشعوب إلى العرب، لكن ثمّة قوميين راديكاليين عرباً لا يعترفون بوجود قومية كردية، وقوميين راديكاليين كردا يسعون إلى الوحدة مع باقي الأكراد في دولة واحدة، ولو أدى ذلك إلى تطهير إثني لتحقيق تجانس في مناطق معينة، وهذا تراجع إلى الخلف، حتى عمّا كان القوميون العرب يفكرّون فيه. الأحزاب الكردية الرئيسة في العراق تفكر في الانفصال، والهوية المشتركة بين باقي العراقيين هي غالباً هوية عربية، وتهميشها قاتل، لأن البديل منها هو العصبيات الطائفية” (ص 48).
نعم، كان تاريخ التعايش الاجتماعي بين العرب والكرد في العراق لابد أن يكون البديل الحقيقي لكلّ من حالات الصراع السياسي، أو التنافر القومي، وفهم كلّ طيفٍ أمنيات الآخر، إذ أثبتت الوقائع التاريخية منذ العام 1959 أن العلاقات التي وصفت بأنها أخوية كانت مزيفة على أشد ما يكون الزيف، ويتوضح جلياً أن الإرادة الجمعية للكرد مع الانفصال.
يتابع عزمي بشارة رؤيته ومعالجته: “دولة عراقية وقومية عربية وقومية كردية، لكن الحالة في العراق تبدو متجهة نحو الانفصال، على الرغم من هذه الإمكانية.. أنا أقول بقومية عربية ودول مواطنين عربية الطابع، مؤلفة من قوميات وإثنيات عدة. هذا إذا نجحت الدولة في بناء أمة المواطنين. والطريق الوحيد إلى الوحدة بينها، كما أحلم، هو اتحاد دول عربية، أو الدول العربية المتحدة”. (ص 48). وللعلم، نادى بهذه “الفكرة” الملك فيصل الأول منذ بدايات العرب النهضوية، واستعادها نوري السعيد في الأربعينيات من القرن العشرين، لكنها قوبلت بالرفض واستعيضت بجامعة الدول العربية. يجدد عزمي بشارة اليوم هذه “الفكرة”، لتكون قيمة نهضوية جديدة من أجل بناء مستقبل العرب، ليس من أجل الكرد وحسب، بل من أجل تعايش العرب، وغيرهم من القوميات والإثنيات والأقليات. وكان على العراق أن يخطو الخطوة الأولى، كونه البلد الأصعب من هذه الناحية، وإن تعقيداته لو جرى حلّها ومعالجة نتائجها، لما وصل الحال إلى هذا المآل، ولكانت الخطوة الأولى على الطريق أمام كلّ العرب.
يستطرد بشارة: “.. يفترض أن يكون العراق أمة مواطنية تتضمّن غير العرب. لكن، لا يجوز أن تنكر عروبة الأغلبية… ومن حق القوميات الأخرى أن تحافظ على هويتها القومية، وأن تتمتع بحقوق جماعية في هذا المجال، مثل الإدارة الذاتية على درجة مختلفة، تصل إلى حد الفيدرالية، وحتى الكونفيدرالية. وفي حالة الإخفاق، سيكلف الانفصال ضحايا أكثر بكثير من الوحدة” (ص 48).
ولكن أين المشكلة؟
إن معالجات عقلانية ورؤية موضوعية كهذه لم تجد اليوم أيّ تفعيلات إجرائية على الأرض، جراء استقطابات الطرفين، ويمكن إيضاحها في الآتي:
أولاً: يتحمّل النظام السياسي الحالي في العراق مسؤولية ما يحدث اليوم، جرّاء تحالفات سياسيّة بعثرت المجتمع، وهمّشت أجزاء منه وسحْق أقليات فيه . انها مسألة وطنية وليست مجرد أزمة سياسية .
ثانياً: سحق سيناريو “داعش” المدن العراقية السنيّة، وتهجير سكانها إلى إقليم كردستان، ما جعل السنّة يجدون في الكرد دالةً مخلصة في حمايتهم، في حين أغلقت سلطات بغداد أبوابها أمامهم. وهذا ما يترجمه صمت العرب السنة الذين لا حول لهم ولا قوة.
ثالثاً: مع تسيّد الأحزاب الطائفية السلطات الحقيقية، فإنه لا تأثير لأصحاب مناصب الكرد والسنة العرب، لا في القرار، ولا في صناعة الأحداث. وينبغي ان تسود العقلانية والحوار والاحترام المتبادل بين المركز والاقليم ، اذ لا تنفع لغة التهديد والوعيد وما نجده لدى الطرفين اليوم من الردح والشتائم والتهيّج من اعلى المستويات حتى ادناها .
رابعاً: إذا كان العراقيون قد خدعهم الكرد، كما يقولون، فإن علاقات الشيعة والكرد السابقة كانت بلا مصداقية، بل لها مصالحها الآنية. كان الكرد يعملون، من خلال تعاقب المراحل، على تحقيق مصالحهم للوصول إلى هدفهم في الانفصال.. وكان الأمر مكشوفاً، لكن الطبقة الحاكمة كانت غبية وغاشمة ومستحوذة على الحكم مهما كلّف الامر .
والسؤال: هل سيحقق الكرد طموحهم القومي بتأسيس دولة لهم في المستقبل المنظور أو البعيد؟
لقد خانتهم الجغرافيا البرية، وهم بين ثلاث قوى إقليمية: تركيا وإيران والعرب.
خامساً: سينشئ انفصال الكرد تاريخاً معقدّاً ودموياً من الصراع الإقليمي، وسيمهد الطريق إلى انفصال أجزاء أخرى، في ظل وجود نظام سياسي جائر، وغير مدرك أبداً المخاطر المقبلة، كما أن إخفاق التجربة الكردية سيكون كارثة للكرد كلهم. وعليه، أناشدهم التفكير بهذا “المشروع”. ولتكن تجربة اقليم كيبك في كندا نموذجا متقدما يمكن الاستفادة منه ، شريطة اجراء تغيير جذري في نظام الحكم والغاء دستوره الكسيح .
سادساً: وعليه، إن رضي العراقيون جميعاً بهذا “المشروع”، وسعوا إلى تطبيقه في فترة انتقالية بتأييد من المجتمع الدولي ، ينبغي أن يتساوى الجميع في نيل حقوقهم الوطنية، قبل أن يتفسّخ كلّ العراق.
نشرت في العربي الجديد يوم الجمعة 29 سبتمبر / ايلول 2017 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل