تمرّ هذا العام (2017) ذكرى مرور مائة سنة على زواج الأستاذ الضرير المستنير طه حسين (ولد 1889) من صديقته الفرنسية، سوزان بريستو، بعد أن عاشا قصة حبّ رائعة، استمرت قرابة 60 سنة زوجين لم يفترقا أبداً، وأنجبا ابنتهما أمينة وابنهما مؤنس، وقد سميت قصتهما “الحب المستحيل”، حسب توصيف طه نفسه، إذ كان طه كفيفاً، فإن لم ترض به فتاة مصرية، فكيف قبلت به فتاة فرنسية مثقفة قبل مائة سنة؟ كسرت سوزان كل الحواجز، وخالفت الجميع، ولم تستجب لمعارضة أبويها الزواج منه، ليس لكونه غريباً ومسلماً، بل لكونه كفيفاً، ولكنها استجابت لإرادتها، فقد عرفت أن حبّه لها لا يقل عن حبها له، فردّت على أهلها بحزمٍ، مؤكدة لهم أنها ستتزوج هذا الإنسان الذي خبرت مواهبه، وثقل عقله وأحاسيسه التي منحها لها وحدها..
كان لقاؤهما الأول مصادفةً في مدينة مونبلييه الفرنسية في 1915. ومنذ الدقائق الأولى، شعرت سوزان أن قوّة متدفّقة تضمّهما، فتوالت اللقاءات وتوثقّت عرى صداقتهما.. كانا يمشيان وحدهما تحت الشجر، أو يجلسان في مقهىً يحتسيان القهوة من دون أن يلتفتا إلى العالم، أو يجلسان في مكتبة الجامعة تقرأ له سوزان، أو يمضيان إلى الريفييرا معا في يوم مشمس، أو يجلسان ليحكي أحدهما للآخر أسراره في حجرةٍ تشتعل فيها الشموع. ولأول مرّة، بدأ طه الذي كان يعيش زمنه كله مظلماً يتلمّس النور مع صديقته سوزان. كانا يلتقيان كلّ يوم على مدى سنتين، فتحوّلت الصداقة إلى حبّ قويّ، ومن ثم إلى عشق عارم. ويبدو أن القدر قد قيّضها لتكون إلى جانب رجل كفيفٍ كي تلبي طموحه، وتختبئ وراء عظمته، فمن خلالها انفتح على العالم، وتعلّم اللغات وسمع الموسيقى. وإذا كانت قد انجذبت إلى موهبته، فقد انجذب طه إلى صوتها الدافئ. بقي الاثنان يتواصلان من دون أن يعلن أحدهما حبّه للآخر، إذ كان يخشى أن ترفضه، وأزف ميعاد سفره إلى مصر، بعد أن نال الدكتوراه، فتوادعا وغادر فرنسا، ومنذ لحظة الافتراق، شعر الإثنان بشوقٍ يجتاحهما إلى بعضهما الآخر.
وصل طه إلى مصر، مقرّراً مصارحة سوزان بحبه، فأرسل لها خطاباً، يحكي لها فيه مشاعره الحقيقية تجاهها، قائلا: “اغفري لي، لابدّ من أن أقول لك ذلك، إنى أحبك، … وأعرف جيداً أنه مستحيل”، فكان أن وقع خطابه على جرحها بلسماً، فرقصت فرحة، لكنها بقيت خائفةً وسط حالة سايكولوجية عاصفة، كانت تعيشها بين رفض أبويها وضربات قلبها المفعم بحبّ إنسانٍ أعمى، ولم يخلصها من حالتها الصعبة إلا نصيحة أسداها لها عمها الذي كان يحبها ويثمن مشاعرها. قال لها: “لا تخافي، وأنت بصحبة هذا الرجل، يستطيع المرء أن يحلق بالحوار، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار”. كانت هذه النصيحة قد جعلت سوزان تستعيد توازنها واستقرارها، أجابت حبيبها طه، مستجيبة له، ولكلّ التحدّيات التي ستلمّ بها في حياتها معه. التقيا وتزوجا 1917 في مصر، وشاع خبر زواج طه حسين الضرير بزوجةٍ فرنسية، اسمها سوزان! فكان حدثاً انشغل به المجتمع، مسببا ردود فعل قوية. ولكن الحياة عادت إلى الصديقين الاثنين، بعد أن التحقا ببعضهما.. ومن شدة تعلقه بها وحبه لها، قال عنها: “دونك أشعر أني أعمى حقا، أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي”. عاشا 56 سنة زوجين مع بعضهما لم يفترقا أبداً، وكانت سوزان المساعدة الأولى والأخيرة له على امتداد حياته، وتشاركه فكره وعقله وأحاسيسه ومشكلاته السياسية وهمومه الفكرية وثورته النقدية وصراعات الآخرين الصاخبة ضده، وأغلبهم من الخصوم الحسّاد والمحافظين، وكانت تقرأ له، وتسمع له، وتشعر معه، وتترجم له وتطعمه وتسقيه.. ويستند إليها في مشيته.
رحل طه حسين في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فكتبت سوزان: “ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدةٍ بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة”.
اقترح صديقه المستشرق الفرنسي، جاك بيرك، على سوزان أن تكتب تجربتها مع حبها المستحيل، وفعلا أصدرت كتابها “معك” بالفرنسية، ترجمه وقدمه بالعربية لاحقا بدر الدين عرودكي في 1982، وراجعه محمود أمين العالم، وعدّ شهادة حقيقية ووثيقة رؤيوية لامرأةٍ فرنسيةٍ إزاء دواخل زوجها وبلده أكثر من خمسين عاما.. وحياة زوجية مثالية بين شرقي ضرير وفرنسية معاصرة لم يفرّق بينهما لا دينٌ ولا عرقٌ ولا ثقافة.. ولا هوية ولا رؤية ولا تاريخ ..استمرت تسمو معانيها الإنسانية على الحب المستحيل بينهما، صوّرت لحظات زمنها معه كأب وأم، كأديب ومسؤول، كناقد تلقى الطعنات الشرسة من خصومه.. عاشت فاقته وعوزه، وانتصرت لحبهما الذي تجاوز المستحيل.. كتب لها مرة: “بدونك، أشعر أني أعمى حقا. أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأنّي أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي… لأني معك قادرٌ على استشعار كل شيء، وعلى الاختلاط بالأشياء التي تحيط بي”. وبسبب العوز، رحلت مع ولديها إلى فرنسا لتبقى لأشهر، وقد تبادلا الرسائل الرومانسية، فبلغ عدد رسائله إليها 90 رسالة.
كتب لها يقول “أمنعك من أن تكونى حزينة، وآمرك بالابتسام، لا تقولى شيئاً. الآن، تعالى إلى ذراعي. أحبك حتى نهاية الحساب.. أحبك وأنتظرك، ولا أحيا إلا على هذا الانتظار”. في إحدى الليالي، كانت سوزان نائمة، فاشار طه إليها، وقال لابنته أمينة: هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانا آخر.
وفي الليلة الأخيرة قبل الرحيل، كتبت واصفةً مشاعرها لحظتئذ: “جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن، وإن كنت هادئة هدوءاً غريبا.. ما أكثر ما كنت أتخيّل هذه اللحظة المرعبة. كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي، فقد جاءت الدموع بعد ذلك، ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث. كان الواحد منا قبل الآخر مجهولا ومتوحداً، كما كنا في بداية طريقنا”.
وقالت تتذكّر كلماته الأخيرة في هذه اللحظة، وهو يستعيد ذكريات السنوات العسيرة التى عاشها مناضلا من أجل أفكاره: “أية حماقة؟ هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟” وكتبت سوزان: “أعطنى يدك. قالها لي عند طلبه الزواج مني.. لقد طلبها منى أيضا فى الليلة الأخيرة التي فاضت فيها روحه، وهو بين يدي، ولكني لم أذهب معه”.
لعل أهم ما يمكن الوقوف عنده، والتفكير فيه، ما سجله هو نفسه عن نفسه، إذ كتب يحكي قصة شيخ أزهري جاءه ليقول: لو كنت مسؤولا في مصر لقمت بتشريع قانون يحرم على أي مصري يتزوج بفرنسية.. وعاتب طه حسين على فعلته، وطلب تطليقها.. سكت طه حسين، ثم أجابه: اسمع، تزوجتها لأنني أحببتها، وبادلتني المشاعر نفسها، وصنعت مني طه حسين، ولو رضيت بي زوجة مصرية، لكانت حياتي كئيبة، ولسبّبت لها التعاسة”.
نشرت في العربي الجديد / لندن يوم 1 آذار / مارس 2017 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل