بينما ينهمك العالم وينشغل المجتمع الدولي بالمخاطر التي تهدده كله جراء الإعلان عن الدولة الإسلامية في العراق والشام ، والخوف من تداعياتها من خلال الخلايا المتحفزة المتطرفة في العالم الإسلامي ، وما له من جاليات في الغرب خصوصا ، و بعد التداعيات المريرة التي جاءت بعد سقوط الموصل بيد داعش وضياع نصف العراق ، واليوم ، ينشغل معظم العراقيين بتشكيل الوزارة الجديدة التي يطالب بها ليل نهار على لسان الزعماء الكبار في العالم ، وخصوصا ما جاء به المُمثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق نيكول ميلادينوف بمناداته جميع الأحزاب العراقية على المُضي قدماً بروح التوافق ، والانتهاء من المفاوضات بسرعة حول برنامج وفريق الحكومة.
وقال ميلادينوف، “إنني أشجع القادة السياسيين العراقيين على وضع اللمسات الأخيرة لعملية تشكيل الحكومة ضمن الإطار الزمني الدستوري وضمان التمثيل العادل للنساء والأقليات في الحكومة الجديدة”. وشدد ميلادينوف، على “أن تشكيل حكومة جديدة وشاملة تحظى بدعم وطني واسع هو أمرٌ بالغ الأهمية بالنسبة لمستقبل البلاد”. واستطرد قائلا ” لا يمكن حل أي من التحديات الأمنية أو الاجتماعية أو السياسية التي تواجهها البلاد دون وجود الإدارة الجديدة التي تجمع شمل البلاد فضلا عن الدعم الدولي المستمر ضد تهديد داعش. اليوم، يراقب العالم العراق ويقف مستعداً لتقديم الدعم الفوري للحكومة الجديدة في جهودها لمواجهة التحديات المقبلة “.
بالرغم من هذه المناداة التي تعني خطورة اللحظة التاريخية ، وبالرغم من انتظار العراقيين لما سيسفر عنه ماراثون مراكز القوى لتشكيل حكومة جديدة ، إلا ان تصريحاتهم عن مفاوضاتهم وسقوف مطالبهم وارتفاع أصواتهم وبقاء خلافاتهم وقوة ضغوطاتهم بتنصيب أشخاص ثبت انهم من الفاشلين أو المرتشين ، بل وسمعت عن شراء المناصب بالملايين وتبادل صفقات لتقاسم المناصب وتوزيع الكراسي.. وكلما يشغل مراكز تلك القوى دكاكينهم الحزبية ومحاصصاتهم الطائفية ومصالحهم الخاصة، ناهيكم عن هستيريا أولئك الذين خلعوا من مناصبهم خلعا . فيريدونها تشكيلة مطابقة لتشكيلاتهم السابقة .. وقبل هذا وذاك انعدام إحساسهم بخطورة اللحظة التاريخية في العراق ! ويبدو ان زعماء تلك القوى والجماعات لم يشعروا أبدا بمصير البلاد المظلم ! العالم يجتمع بسرعة من اجل الخطر الذي يهدده ، والزعماء العراقيون لا يثورون على ذاتهم كونهم سببا أساسيا بما حدث لوطنهم ، وما زالوا على نهجهم ، فهم لم يتغيروا أبدا كما حلم الشعب كله بالتغيير الحقيقي !
علمنا التاريخ ان من يهزم في معركة وأضاع شبرا واحدا من تراب وطنه ، فهو يستعد للصعود إلى المشنقة بعد محاكمته ليلقى مصيره! والعراق يهزم منذ سنوات من قبل وحوش وعصابات وجماعات ومراكز قوى ، ولا ضمير يتحرك ، ولا عقل يفيق ! علمنا التاريخ ان الشعوب عندما تنادي بالحرية والحقوق ، فهي تسقط حكومات ومراكز قوى كونها أدوات قمع واضطهاد ! علمنا التاريخ ان أي حكومة تحترم نفسها لا تسمح لأية جهات سياسية أو عسكرية أجنبية ان تتدخل في شؤون البلاد ، إلا في حالة التحالف السياسي المعلن على كل العالم ! لقد علمنا التاريخ ان الشعوب تثور على الحكومات الفاسدة التي لا تبالي بأن يسرح ويمرح فيها الغرباء ، فكيف وقد أصبح اغلب مدن العراق وقصباته وقراه ومفازاته مسرحا للمعتدين والجواسيس والإرهابيين والقتلة والطرداء القادمين من كل حدب وصوب !
أقول بالرغم من كل المضاربات والتخمينات لدى الناس ، وما يدور في كواليس زعماء الكتل والأحزاب من اتفاقات ودسائس وصفقات وبيع وشراء .. فالمهم هو التفكير بالمصير الذي سيلحق بالعراق الذي يكاد يضيع من أيدي اهله ، وهم ينتقلون من سيئ إلى أسوأ ، مع حالة الفوضى السياسية التي خلقتها الأحداث المأساوية التي تبلورت مع سقوط الموصل وتداعيات ذلك من دون تحديد من كان المسؤول الحقيقي عن المأساة بجملتها .. ومهما كانت الوجوه القادمة الجديدة ، فهي مألوفة لدينا ، كما أننا ألفنا النهج الذي تضمنه دستور وعملية سياسية ومجلس أمة .. لو كان زعماء هذه العملية الكسيحة لديهم ذرة من ضمير ، لاجتمعوا في مجلس أمة ، وقالوا إن العراق بحاجة إلى 32 وزيرا عراقيا ينبغي ان نختارهم من خارج أحزابنا ومن خارج عمليتنا لنختارهم من ذوي الخبرة والمقدرة والذكاء والنظافة ومن غير المتلهفين على المناصب ، كي يختار كل واحد منهم وكيلا له من المحترفين بشأن ما تختص به وزارته .. لو كان هؤلاء الزعماء أمناء على مستقبل العراق ويعشقون شعبه ، لقالوا دعونا من المحاصصة المقيتة ، وعسى كانت التركيبة كلها من أحرار طيف واحد أو من مكان واحد لقبلنا ، فمصير العراق في محنته اليوم اهم من جميعكم بالرغم من بقائكم زعماء وإصراركم في البقاء على أجندتكم .. ان العملية السياسية ما دامت ستبقى بأيدي هؤلاء الزعماء كمراكز قوى ، فلا تتوقعوا تغييرا حقيقيا سيحدث !
ليس المهم من سيأتي ضمن تشكيلة الوزارة الجديدة ، فالكل سيتبع النهج نفسه حتى وان تغيرت الوجوه ، وهي وجوه مألوفة منذ عشر سنوات . فالمشكلة في النهج لا في تبديل الوجوه وهو النهج الذي انتقدناه مرارا وتكرارا سيزيد من تعقيدات المسألة العراقية ، وستجتاحه مصائب ومحن وكوارث شتى . لقد قال لي اكثر من صديق عندما كنت في لندن قبل أسبوعين ، من الذين يعرفون رئيس الحكومة الجديد معرفة عميقة وهم من أصدقائه ، انه رجل يتمتع بأخلاق جيدة وصفات حميدة ، ولكن هل سينجح في إنقاذ العراق ؟ ولقد سّرني احد أصدقائه بأن الرجل ليس ذكيا كما يجب ، وهو ملتزم بجمود ما جاء في حزبه كما ان من الصعب عليه ان يصنع قرارا !! وعليه ، فان المرحلة التي ازدادت تعقيدا وتشابكا سوف تصطدم بحكومة تكرر المشهد نفسه الذي كان لدى الحكومة السابقة ! ولا أريد ان أستبق الأحداث بانتقاد سياسة حكومة لم تولد بعد ، ولكن من المتوقع ان يبقى العراق ضعيفا ومثلوما ومفككا وفاسدا ومهترئا ومنهكا !
إن العراق الذي مرّ بكل المصاعب التي توّجت بفقدان ثلث أراضيه مع سقوط ثاني مدينة كبيرة فيه وبكل ما جرى للعراقيين من تشرد وقتل واضطهاد وبهدلة وجوع .. بحاجة ماسة إلى حكومة قوية ونظيفة جدا تتخذ منذ لحظة تسلمها الحكم بتنفيذ إجراءات عملية وحاسمة ، وما دام الأمر يخضع لضغوطات زعامات مراكز القوى ، فسيبقى العراق بلا برنامج وبلا إرادة شعبية ، وبلا أي إجماع من قبل كل العراقيين !
إن العراق الذي يمر بأقسى لحظة تاريخية ومفصلية اليوم ، بحاجة إلى أناس يدركون خطورة هذه اللحظة واحتمالات التدني .. أناس قد اقتنعوا بما جرى من أخطاء وخطايا منذ سنوات وان الحاجة باتت ماسة إلى التغيير في النهج لا مجرد تبديل الوجوه أو طليها بالمساحيق .. أناس تؤمن إيمانا حقيقيا بالبدائل الحقيقية بعيدا عن كل موبقات وأمراض وأوبئة مورست على مدى سنوات خلت .. حكومة تعمل ليل نهار ، وكأنها خلية نحل أو غرفة عناية مركزة ويكون العقل والمنطق والخبرة سيد الموقف بعيدا عن الانفعالات المألوفة وان ينأى الوزراء عن المصالح الشخصية والفئوية والطائفية والتحيزات لهذا الجار أو ذاك وبعيدا عن الشعارات المقززة .. حكومة نظيفة تقدس المال العام وتكون دوما موضعا للتساؤلات ومرحبة بالانتقادات والمعارضات وان تلبي ما يطالب به الناس بعيدا عن القمع وبعيدا عن شراء الذمم .. حكومة هادئة تعالج الأمور والمشكلات بروية وبعد نظر بعيدا عن القرارات الفردية والتصريحات العنترية والسلوكيات الطفولية .. حكومة تؤمن بالوطنية وبكل المواطنين لا تفرق بين العراقيين على أساس طائفي أو قومي أو جهوي أو ديني أو ثقافي .. حكومة تؤمن بالشفافية وتمارسها علنا من دون أية أكاذيب ومن أية مفبركات ومن دون أية اتهامات للآخرين من معارضين ومنتقدين ومن دون أي تجريح لأحزاب وكتل ومذاهب ودول .. حكومة تقدر العراقي المناسب لتضعه في مكانه المناسب .. حكومة لا يشغلها شاغل إلا كيفية إعادة اللحمة إلى نسيج المجتمع العراقي بعيدا عن التمييز والإقصاء والتهميش والتهجير وعن القمع والاضطهاد لكسب كل المجتمع وانجذابه إليها ، وان لا ترقص مراكز القوى على رجل واحدة ولا على وحدة ونص ! .. حكومة تنطق باسم الملايين من العراقيين من دون أي توجّه سياسي طائفي كما كان ذلك قد حصل في الحكومتين السابقتين . حكومة تحترم حياة كل العراقيين وتعمل للحد من سفك الدماء العراقية ، إذ يكفي جريان سيول الدم .. ويكفي مراكز قوى ترقص على وحدة ونص ولا يهمها المأساة التي اجتاحت العراق والعراقيين ..
نشرت في المدى البغدادية ، الاحد 7 ايلول / سبتمبر 2014 ،
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=11089&IssueID=559
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وعلى صفحاته في الفيس بوك وتويتر
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …