في يوم الاثنين 24 شباط / فبراير 2014 ، نشرت لي صحيفة المدى الغراء مقالة بعنوان ” نصيحتي لرئيس وزراء قادم ” ، متمنيا ان تعاد قراءته من جديد ، واكتب اليك اليوم ، وانت تخطو خطواتك التي اتمنى عليك مخلصا ان تكون خطوات مباركة وتصاحبها قرارات ذكية بانتشال العملية السياسية ، ومعالجة ما اقترفه سلفك الراحل ، كما واكتب اليك رسالتي عسى توفق في خدمة وطن ذبحه الاشقياء ،ومزقته الضغائن والاحقاد ، وعبث به الارهاب والمليشيات ، وسرقه اللصوص ، واخترقه الطارئون القادمون من كل حدب وصوب مع تشتت اهله الامنين وضياع قيمه ومعانيه .. ان كل انسان يخطئ ، ولكن ما اجمل انسان يتولى المسؤولية ويعترف بأخطائه ، ويتعلم من تجاربه ويستشير خبراء عقلاء ولا خاب من استشار والعبرة في النهايات .
اتمنى عليك ايها الرئيس الجديد ان تبقى مواطنا عراقيا حقيقيا ترعى شؤون الجميع بعدالة وانصاف وتتواضع امام الجميع ولا تفرق بين الناس ، وأتمنى ألا تنام ليلتك وفي ارض العراق قتيل وجريح وجائع ومشرد ومظلوم ومخطوف وسبيّة .. وألا تسمي نفسك بأسماء مفخمة ولا تجعل من نفسك ” ظل الله في الارض” او ” مختارا للعصر ” او ” قائدا ضرورة ” او ” زعيما اوحد” او ” دولة رئيس” .. الخ واطالبك مخلصا ان تتجرّد من حزبيتك حتّى وان كانت قد اوصلتك الى سدّة الحكم ، فالله وحده يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء .. واتمنى عليك ألا تنظر الى مدينتك وحدها دون النظر الى بقاع ومدن العراق الاخرى .. وان تكون منصفا وعادلا في حكمك لا تميزّ مذهبك على مذهب آخر ، ولا تقدّس أي دين على حساب تهميش آخر ، وألا تجرح العراقيين بحيث تجعل اجندتك تقوم على الاكثريّة والاقليّة ، فلا فرق بين عراقي عن آخر ، الا بذكائه ونظافة سيرته وبما يقدّمه من خدمات لبلده ، وانتم ادرى بما يمتلكه العراق من قوى فاعلة متخصّصة ومبدعة في دواخل العراق وفي شتات العالم .. وهنا يأتي دورك في رعاية المبدعين والعلماء والمثقفين ، وان تمنح المرأة العراقيّة مكانتها ، فهي امرأة متميزة عانت الكثير على امتداد تاريخ طويل واراها من افضل النسوة في العالم .. واسمح لي بأن اطلب منك ألا تحيط نفسك بحاشية فاسدة ، وألّا تنصّب معارفك واهلك في مناصب ومواقع هم ليسوا اهلا لها ، باستثناء من كان وطنيّا مخلصا ومتجرّدا ونزيها ونظيف اليد ..
ان أيّ زعيم عراقي سيدخل قلوب العراقيين ان تواضع امامهم ، واخلص لهم ، وخدمهم بما يرضي الله ، وألا يفرّق بينهم لأيّ سبب من الاسباب ، وان يعمل ليل نهار من اجل رخاء البلاد واسعاد العباد .. وان يضحّي من اجل امن البلاد واستقرارها ، وان يضرب بيد من حديد على ايدي كلّ الفاسدين والعابثين والقتلة والمجرمين .. وان تكون مستقل الارادة في صنع قراراتك يوميا بما يمليه عليك ضميرك الوطني ولا شيء اخر .. وعليك بالحفاظ على ارواح كلّ العراقيين ، وان تقدّس أيّ شبر من العراق ، وان تدافع عن ترابه وانهاره ومدنه وافيائه ومفازاته ..
لقد قلت في مقالتي قبل اشهر بالنص : ” في عام 2003 ، تمنيّت ظهور اي زعيم عراقيّ وطني ذكيّ متواضع ، يتمتّع بمؤهّلات قياديّة ، وكاريزما رياديّة كي يعيد بناء المؤسسّات من خلال ارادة وطنيّة مستقلّة ، وان يمرّ العراق في مرحلة انتقاليّة حقيقيّة ، فتعاد الثقة بين ابناء المجتمع ، ويتحدّث باسم العراقيين كلّهم ، وينادي بمبادئ عراقيّة محررّا شعبه ومستقلا ببلاده عن أي محتل او غاصب ، وعليه ان يحسن اختيار الاذكياء لإدارة المؤسسّات واعادة بنائها ، ويضبط امن البلاد ويحافظ على اموال العباد ..” وثق ايها الرئيس الجديد بأنّ من يتّخذ مثل هذه المبادئ ويرسم خارطة طريق لأربع سنوات قادمة ، ولا يقبع في جدران مكتبه ، بل ينزل الى الشارع ويزور المدن والقرى ، ويجالس الناس ويتعاطف معهم ، فسوف يثمنه ويعشقه ابناء شعبه ، وسيكتب التاريخ عنه سيرته وقصّته بأحرف من نور ، اما من يسلك سلوك الطغاة ، فسوف يرحل او يقتل او يشنق غير مأسوفا عليه .
ونؤكد على ان تقدّم الاهم على المهم ، واتمنّى عليك ان ترى اين هي الضرورة التي يحتاجها العراق في مثل هذه المرحلة العصيبة ، وان الحاجة تستدعي علاقات وثيقة مع كلّ جيراننا والمحافظة على استقلالنا ، وألا يسمح بتدخّل الاخرين في شؤوننا ابدا الا من خلال اتفاقيّة رسميّة ، نظرا لما تطلبه مصالح البلاد العليا .. وألا تفسد علاقاتنا مع أيّ جار عربي ، فالعراق عمق لهم وهم عمق له . كما وارى بأنّ العناية بكردستان كونها رئة العراق والتي اثبتت للعالم انها ملجأ للعراقيين ضرورة تاريخية .
.. لقد وجدت كيف كانت تجربة من سبقك في الحكم ، وما الذي جرى في عهده ، ويتمثّل أخطرها في اللعب على وتر الطائفيّة وانعدام الحكمة والكياسة وعدم الاستجابة لمطالب الناس بقمع التظاهرات وملاحقة الاحرار وتزوير المواقف والكذب المفضوح ، وسرقة المال العام ، والتغطيّة على العصابات والمافيات ، فضلا عن اشغال الناس بقضايا تافهة واتهامات باطلة لشخصيات وطنيّة خدمت العراق ، فكان ان غدت العمليّة السياسيّة مهترئة وقميئة بحيث طالبت القوى السياسية المتنوعة بالتغيير الحقيقي ، وعليه ، فأنني اتمنى عليك مخلصا ان تكون ابا للعراقيين منهيا علاقتك ومسؤوليتك في حزبك الذي انتميت اليه ، ومن الجنون في العراق ان يوظف سيّد البلاد نفسه لدى حزبه او كتلته بعيدا عن هموم كلّ العراقيين بكل تياراتهم واتجاهاتهم .. والمرور بهم في مرحلة انتقاليّة ناجعة . واسمح لي بأن اطلب منك ألا تقهر معارضيك ومنتقديك ، فهم لا يعرفونك ، ولكن ان استمعت اليهم وجالستهم وحاورتهم من اجل مصلحة البلاد ، وأعدت النظر في ما يريدونه، فسوف يحملونك على اكتافهم وتكون قد كسبت الجولة وضمنت مكانك في التاريخ .
اتمنّى عليك ايضا ان تكون متدّرجا في تنفيذ برنامجك الذي قدّمته يوم الاعلان عن تشكيل مجلس وزرائك .. كما اتمنّى عليك ان تكون الموصل من أولوياتك ، فهي مدينة عريقة منكوبة عاش اهلها كوارثا واهوالا ، وان تشعر بمعاناة اهلها بكل اطيافهم وتنوعاتهم واديانهم وتعمل على انقاذها من انسحاقاتها وانت تعرف بأنها من اقدم المدن في العالم..
واتمنى عليك ان تجدّد افكارك ، وترسم لك مشروعك الوطني ضمن مبادئ عراقية صرفة لتقف بالضدّ من نقائضها اليوم ، وهي: الوطنية بديلا عن الطائفية .. النزاهة بديلا عن الفساد .. الامن بديلا عن الارهاب ، النظام بديلا عن الفوضى .. المصالحة بديلا عن الصراعات .. الاعمار بديلا عن الدمار !
وعليك الاستفادة من تاريخ وتجارب بعض حكام العراق السابقين كلهم كي تختطّ لك طريقا.
لقد قلت مخاطبا من ستسند اليه السلطة قبل اشهر : تعلّم من فيصل الاول الحكمة والتواضع واستشارة الحكماء ، ولكنه كان يثق بالآخرين .. وتعلّم من غازي الوطنيّة ، ولكنه زجّ العسكر بالسياسة . وتعلّم من نوري باشا الدهاء والظرافة وسرعة البديهة والاعمار ، ولكن لا تأخذ عناده ومحاربته الاحرار واليسار .وتعلّم من عبد الاله الكتمان والصبر ، ولكن لا تأخذ عزلته عن الناس.. وتعلّم من فيصل الثاني دستوريته وثقافته وابتسامته ورقته ، ولكنه أخطأ عندما وثق بجنرالات جيشه ! وتعلّم من عبد الكريم قاسم حبّه للفقراء والمحرومين ، ولا تكن مهووسا بحبّ نفسك وزعيما اوحد مثله ، وتعلّم من عبد السلام عارف شجاعته ، ولكن لا تأخذ تهوّره وسوقيته . وتعلّم من عبد الرحمن عارف سماحته وطيبته ، ولكنه اعتمد علىى حاشية خانته ! وتعلّم من عبد الرحمن البزّاز حنكته ورزانته ، ولكن لا تكن مطيعا للعسكر مثله . ولا تكن ضعيفا امام نائبك مثل احمد حسن البكر ، ولا تكن مستبدّا بسياستك ، ولا مخيفا ، ومرعبا مثل صدام حسين . وتابعت اقول : تعلّم من اياد علّاوي سماحته وانتقاليته ، ولكن لا تضيّع الفرص السانحة كما ضاعت عليه . وتعلّم من مسعود بارزاني كيف نجح في بناء “دولته ” ، واوصيك مخلصا ألا تأخذ ايّ شيء قط من المالكي ، فليس له ما يمكن الاقتداء به بالرغم من اطلاقه صفة ” مختار العصر ” على شخصيّته !
واخيرا : ان تعمل لتغيير العملية السياسيّة الحالية ، وكن صاحب مشروع وطني في التغيير الجذري والقضاء على آثار كل ما افرزته نتائج عشر سنوات عجاف مضت .. فربما ساعدك ذلك على حكم العراق ، واخراجه من المأزق الذي وضع فيه . فهل ستنجح في ذلك ؟ الايام القادمة طالت ام قصرت ، ستكشف عن المفاجأة التي بات ينتظرها اغلب العراقيين .
نشرت في صحيفة المدى البغدادية ، يوم الاثنين 15 سبتمبر / ايلول 2014 ،
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=11230&IssueID=566
ويعاد نشر المقال على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وعلى صفحته في الفيس بوك وتويتر
كما يعاد نشرها على العديد من الصحف والمواقع
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …