المبادئ الثلاثة
بالرغم من تبلور الهوية الكندية بعد ان تأسس كيان سياسي بإسم كندا في شمال القارة الاميركية ، فأن ثمة مخاوف كان يتوجس الشعب منها ، خصوصاً ما يتعلق بتصادم الثقافات وخصوصاً الانكلوسكسونية مع الفرنكفونية ، ولكن بدا واضحاً ان السيطرة قد تمت على مسألة الهوية الكندية التي إنتصرت من خلال ثلاثة مواضيع أساسية : أولا إحباط أية تعارضات بين الانكليزية والفرنسية بالتأكيد على الضرورة الكندية من أجل البقاء الثقافي واللغوي ، وثانياً توثيق العلاقات مع كندا الأُم بعيداً عما كان يجري سابقاً من تجسيد للعلاقة مع الإمبراطورية البريطانية وإبقاء العلاقة رمزية ، أي إخراج العملية السياسية تدريجياً نحو الإستقلال التام عن السلطة الإمبريالية ؛ وثالثا ، التشبث بقوة في نهاية المطاف بالوطن الجديد بعيداً عن تأثيرات عسكرية وإقتصادية وثقافية للولايات المتحدة الاميركية . هكذا ، وضع الكنديون هذه المبادئ الثلاثة أساساً لبناء قوميتهم الكندية مع إبقاء إحتفاظ أي مواطن بدينه او إنتمائه الثقافي .. فكان من نتائج ذلك ان تبلورت قومية كندية مسالمة وناضجة ومنفتحة في القرن العشرين .
القومية الكندية : ظاهرة إنسانية
ولعل من ابرز نتائج ذلك التبلور التاريخي إستقبال كندا للملايين من المهاجرين القادمين من اوروبا وآسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي ومن الامريكيتين ، اذ ضمت كندا عشرات الجنسيات المتنوعة من هذا العالم من دون ان تشعر بأي خطر لا على هويتها ولا على قوميتها الكندية ، بحيث يمكنني إعتبارها قومية حضارية لا تعرف الشوفينية ولا التشدق بالعنصرية ولا بأية أمراض عانت منها الشعوب الاخرى . ولعل من أبرز العوامل على نضوج القومية الكندية حداثتها التاريخية ، فهي غير مبتلية بأمراض إجتماعية ولا بترسبات تاريخية ولا تمتلك تواريخ صراعات عميقة مع غيرها من الامم . ان القومية الكندية لم تزل تطور نفسها ، واعتقد ان مخاضها في القرن الحادي والعشرين سيزيد من تفاعلاتها الحضارية بإعتبارها عملية مسالمة ومنفتحة ومستمرة اليوم على كل العالم ، وهي تستوعب ثقافات أُخرى مع وصول أعداد كبيرة من المهاجرين من خلفيات متنوعة ، فضلاً عن إهتمامها بالإنسان الى جانب العناية بالحيوان والنبات والبيئة والمستقبل . لقد بدا واضحاً للعالم ان موضوع التعددية الثقافية في كندا لم يؤثر أبداً لا على الهوية ولا على القومية .. وثمة من يقول ان التسامح في ذلك سيؤثر في المستقبل سلباً على الحياة المتقدمة ، ذلك ان بعض الثقافات متوحشة وضارة مؤذية وملتوية على القانون ، ان لم تكن هناك روادع من أجل حماية مكتسبات التاريخ الحديث كله . وثمة حوارات وكتابات حول ذلك ليس في كندا حسب ، بل في العديد من المجتمعات الغربية . بإختصار ، ان مبادئ قومية كندا قد تبلورت عنها هوية كندية معاصرة من الناحية السياسية ، ولقد حددت كندا كبلد له شخصيته القومية التي تحددها سياسات حكومية وهي من اولوياتها ، التي يعتقد أنها تعكس القيم الثقافية العميقة.
القومية الكندية ، مسألة كيبيك القومية والنزعة الثقافية الكندية
لقد تم التأكيد على الاحتفالات الوطنية في كندا بعد ان كان الناس في الماضي يحتفلون بأعياد فرنسية وبريطانية سنوية ، مع بقاء الاعياد الدينية رموزاً .ان القوميين الكنديين قلقون للغاية – كما يبدو – بشأن حماية السيادة الكندية والولاء للدولة الكندية بوسائل تجعلهم في فئة القوميين المدنيين أصحاب السلم الاهلي . ولقد تراخى حجم العداء الذي كان سارياً في المجتمع ضد اميركا بعد ان كان كبيراً ، بفعل التقدم ونضوج العلاقات السياسية والثقافية ورحيل جيل كانت له تجربته المريرة ومشاعره بالضد من أميركا ، أو على الأقل تجاه الولايات المتحدة ، وهذا ما جرى على الطرف الآخر كما وجدته . لقد ساهم في إحباط الكراهية التي توالدت عبر تاريخ الصراع ، ذلك ان الأيديولوجيا القومية الكندية قد توجهت كي تلعب دوراً موحداً ، في العمل القائم على ثنائية ثقافة التسامح و سيادة كندا أولاً ، فكان ذلك مصدر إلهام للعديد من المؤدلجين القوميين الكنديين . ربما نجد أفراداً يتعصبون تعصباً كريهاً ضد الآخرين ، ولكن أمثال هؤلاء موجودون في كل مكان .. ولكن من إبدع ما تميزت به كندا إستيعابها كتلة بشرية كندية كبيرة تعتز بقوميتها الفرنسية الكندية دون حرج او تكلفة او كره او إيذاء ، بل وجدت العكس بدلاً من ذلك فمن يريد دعم كندا عليه ان يحافظ على هويتها القومية التي تتنوع في دواخلها كل الثقافات ..
ان القومية الثقافية في كندا ، قد بدأ بالتطور منذ منتصف القرن العشرين ، معتمدة على أنماط واعية من قبل المجتمع ، وان كل الحكومات الكندية التي مارست ادوارها السياسية عملت على تعزيز الإنتاج الثقافي القومي الكندي والحد من تأثير الثقافة الأمريكية إلى حد كبير مع وجود لغة مشتركة مع الولايات المتحدة في ما يخص مصالح الطرفين ، بالرغم من ان كندا تواجه مواقف صعبة فيما يتعلق بإنتشار الثقافة الأميركية وأختراقها كندا سواء عن طريق السوق الكندية أو النشر الإعلامي بالرغم من ان العالم كله غدا معولما ، بينما تحاول كندا جاهدة الحفاظ على الاختلافات الثقافية في دواخلها المتسقة في إطار قومي يعتز به الكنديون إعتزازاً كبيراً ، بل ان هناك من ينفي حجم التأثرات الاميركية ويعتبر ذلك تضخيم مبالغ فيه فالقومية الكندية لا يمكنها ان تتأثر ببعض الترتيبات التجارية مثل الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة ( الغات) واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ( نافتا ) .
واخيراً : الاعتبارات الاربعة
خلاصة القول ، ان تجربة كندا القومية هي حديثة التكوين تاريخياً مقارنة بأمم أُخرى لها تكوينات قومية عريقة تمتد الى آلاف السنين اولا .. ولكن أجد ان القومية الكندية تخلو من المشكلات الصعبة التي تعاني منها قوميات أُخرى ، وخصوصاً تلك القوميات القديمة التي أُبتليت بأوبئة وأمراض تاريخية لا يمكن الخلاص منها بسرعة ثانياً.. أيضاً يمكنني إعتبار القومية الكندية جامعة لكل الثقافات في العالم ، فهي متلونة وممتزجة من كل الاطياف ، ولكن كل الكنديين يحملون هوية واحدة وورقة قبقب حمراء واحدة ، ثالثاً .. والامر الاخير ان أروع ما تمتاز به القومية الكندية انها تعمل بصمت وإبداع من دون شعارات براقة ولا تشدقات ولا محطات ولا مهرجانات .. وانما تتمثل بعشق بلد عظيم الابعاد يمتد من الاتلانتيك الى الباسيفيك رابعاً .
انتظروا الحلقة 18 القادمة عن الرموز الكندية ، وهي فصلة دراسية من كتاب للمؤلف
نشرت الحلقة السابعة في مجلة المدار الكندية ، 22 آب / اغسطس 2014
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
الرئيسية / الرئيسية / القومية الكندية فصلة من كتاب سيار الجميل : دومينيون كندا من الاتلانتيك الى الباسيفيك
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …