الانفجار
نعم.. بدأ تاريخ جديد لعالمنا العربي مذ انشدّت من جديد، الأسماع والأبصار العربية بقوة إلى «قلب الأمة» النابض بالحياة كما أعيد وصفه من جديد ، والعالم كله يرقب لأول مرة هذه الملايين العربية، وهي ترقب وتتابع سلسلة التغييرات التي طال موعدها، وتأخر انبثاقها.. وبدأ التاريخ يغّير نفسه، وهو يسير على خطوط متوازية مرة، ومتعرجة أحياناً.. المسألة ليست في نضوج واقع عربي متهرئ، كان مؤهلا للانفجار لأسباب نعرفها جميعا وكتب الناس عنها طويلا، ولكن الأهمّ هو حدوث مفاجآت أثبتت للعالم كله أن تاريخنا العربي له شراكته، وأن مجتمعاتنا العربية لها نسيج واحد، وليس كما يتشدق البعض من الذين لا يؤمنون أبدا بتكوين العرب الحديث والمعاصر، والذين لا يدركون أبدا أسرار تكوينات هذا التاريخ المتشابك مع بعضه ، والذي يسجل اليوم حلقات متصلة، بل وعضوية في طبيعة الأحداث والتشكيلات من مكان عربي إلى آخر بالرغم من كل التمايزات والخصوصيات التي تتصف بها كل بيئة عربية عن غيرها .. إنه الالتقاء بعد الافتراق.. إنه التواصل مع حلقات الماضي..
2009 : ذروة النضوج
كل هذا وذاك، يعلمنا بما لا يقبل الشك، أن تاريخا جديدا قد بدأ ـ في نظري ـ منذ نهاية عام ?2009، أي إثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من هذا القرن، وسيلحظ الناس اختلافا مباشرا عما ألفوه في القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار.. إنني أجد أن إرادة الدولة كانت سابقا أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذي لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعليته في الحياة السياسية، وكان على خطأ كبير في التقدير. وخصوصا بعد مرور القرن العشرين الذي عاش مختلف البدائل التاريخية، بولادة العديد من الإيديولوجيات والعقائد السياسية وقوتها وجبروتها، حتى كنستها اليوم عمليات ما سمي «تغيير العالم»، إذ غدا هذا «المشروع» هو المهيمن على هذا العالم، لا يسمع فيه إلا صوته، ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج والخطط والعمليات.
لقد بدا واضحا أن كل ما تعبت عليه دول ومنظومات وتكوينات سياسية وعسكرية، وأجيال ممثلة بأحزاب ومنظمات وكتل وجيوش وجماعات ونقابات ونخب وهيئات واتحادات .. فضلاً عما تربت عليه الشعوب من قيم ومبادئ انسانية ووطنية وقومية ودينية وأعراف وظيفية ونقابية ومهنية، ناهيكم عن أعراف وقوانين ومؤسسات ومنظومات.. كلها لا نفع أبدا فيها، ولا قيمة لها. ولم تتمتع بأي نوع من السيادة والكبرياء وشرف المواطنة وفعل أي شيء.. لأنها غدت جزءًا من تقاليد الماضي المحتقر بسبب عقم أداء السلطات، فغدت تواريخنا في القرن العشرين، بمثابة موروثات مركبة وتالفة، لا دور ولا نفع لها في ظل تغيير العالم المعاصر.
لا بد من التفكير في الأرض العربية جمعاء ومصيرها تاريخياً.. نفكر قليلا، وندع أبناء (الأمة ) ـ كما يسمونها ـ كلهم يفكرون ملياً، خصوصاً عندما نسترجع ما كنا قد تربينا عليه نحن في القرن العشرين من القيم والثوابت والمبادئ والأصول.. أفكر اليوم كم أصبحت كلها هشة قابلة للانكسار والتفتت في أية لحظة من زمن جائر، وعلى أيدينا! كيف كانت فكرة الإنسان والوطن والسيادة وعلم البلاد والنشيد الوطني وجيش البلاد وحرمة الشبر من الأرض والمقدسات والشهادة ودور المثقف والتغني بالإنسان والحريات؟.. أذكر كيف كانت قيمة الأوطان في وجداننا، وهدف التوحّد من أسمى أهدافنا.. والمال العام حرام على من يعبث به، والخيانة لطخة سوداء لا يمكن أن تمحى عنه أبدا، ويكون صاحبها قد سجل نقطة مشوهة في تاريخنا أمام كل العالم وتحاسبه الأجيال على ذلك! علمونا كيف نحافظ على أسوار الوطن وأسراره من العاديات.. وكيف نعتني بالإنسان وحقوقه.. وكيف نكون أذكياء ويقظين ومنتبهين.. لا يمكن أن يجرّح أحدنا الآخر في دينه ومذهبه وعرقه وثقافته وأسلوب حياته وتفكيره! كنّا نتعامل مع الآخرين بمهارة وحذاقة، من أجل النفع العام والصالح العام، بعيدا عن دكاكين البارود في ساحات الهرج والمرج، ونحرص ألا نعرض أوطاننا للتمزق ووهج الحرائق، إذ ينبغي اتقاء النار بأي ثمن كان.. فمن سيقي حرماتنا وأجسادنا وجلودنا في هذا الزمن الصعب؟
رحم الله الآباء الأوائل، كم كانوا شرفاء يقدسون الوطن والإنسان والصالح العام! كم سجّلت الأجيال الماضية أيضا إنجازات نهضوية وسياسية وثقافية واجتماعية من أجل المستقبل! وكم انسحقت مجتمعاتنا جراء سياسات بليدة وتسلطية قمعية، مارسها بعض الحكام الجهلاء الذين جعلوا من أنفسهم فراعنة وقياصرة وأكاسرة! كم أضاعت جامعة الدول العربية دورها الحقيقي وأداءها في ممارسات شاذة عن تطلعات (الأمة )، وابتعدت عن تحقيق أمنيات كل العرب!
الهزات التاريخية : قرع اجراس
إن الهزات التاريخية اليوم هي قرع أجراس أمام الأجيال الجديدة، كي تكون ذكية وحرة في اختيار طريقها السليم نحو المستقبل، مستفيدة من تجارب الأمس الصعبة ومتعلمة دروس الماضي بكل إيجابياتها وسلبياتها. إن مجتمعاتنا بحاجة إلى تغييرات وتحولات في تكويناتها وبنيوياتها وأفكارها، وفي أنشطة دولنا ومؤسساتها وأجهزتها، وفق أساليب حديثة تتسق ومنطق العصر وحقوق الانسان في عيشه وحريته وكرامته وتقدمه نحو الأمام .. ولينظروا إلى ما يجري في كل العالم من تغييرات، ويتعلموا من انتصارات بعضها وإخفاقات الآخرين. فهل باستطاعتنا أن نتعلم شيئاً من دروس الآخرين وتحولاتهم الجوهرية، من أجل نفض مجتمعاتنا الراكدة ولتكون مسيرة التاريخ في طريق صحيح؟
إن مجتمعاتنا العربية اليوم كلها تمرّ بمخاض تاريخي صعب ، يفتقد فيه أبناء الجيل السابق بقوة لينتهي عمر جيل كامل ، ويتدفق بشر جديد من خلال ولادات جديدة لبشر من الأبناء والأحفاد . فكم يا ترى سيحتفظ بإرث السابقين في القرن الواحد والعشرين ؟ وكم يا ترى سيحدث من متغيرات على أيدي الجيل الجديد ( من ولادات نهاية السبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي ) ؟ وما سيتلوها من متغيرات على أيدي الجيل القادم الذي نشهد ولاداته الآن ؟ ما الذي سيقولونه عن أجيال القرن العشرين ؟ كيف ستكون حياتهم في ظل الصعقات الكبرى التي تجتاح العالم .. من دون شك أن الرموز التي رحلت حتى الآن ، ستلحق بها مع توالي الأيام رموز أخرى على مر السنوات 2011 حتى 2015 . ثمة سؤال آخر يطرح دوما عند وداع أي رمز من الرموز قائلين : ما الذي قدمه هذا الرجل لمجتمعه ؟ وما درجة قوته أو ضعفه ؟ وما الذي سيبقى ويمكث في الأرض عندما سيرجع إليه الناس كي يستزيدوا من المعرفة أو يثمروا شيئا من الإبداع ؟ وهل سيبقى اسم أي احد من الراحلين حيا بين الناس نظرا لما أعطاه أو أبدع فيه .
التأسيس لمستقبل عربي جديد
يبدو أن الشباب الذي نجح في تغيير الانظمة غير مؤهل أبدا لانجاز المهام أو الأهداف التي يريد الناس الوصول إليها .. وعليه ، فهو يحتاج الى من يرسم له خارطة طريق في ظل مبادئ تختلف نهائيا عما كان في القرن الماضي ! وكثيرا ما ينقسم المجتمع بانقسام السياسات ، علما بأن ليس هناك أي سياسة أفضل من أخرى ، إلا بقدر تعّلق الأمر بحسابات ذكية في وصول أصحابها لتحقيق ما يريدون بأقصر الطرق وارخص الأثمان .. صحيح أن من لا يريد التفريط بالحقوق يصمد ويناضل حتى أنفاسه الأخيرة ، وهو يعتبر صموده بمثابة انجاز تاريخي إزاء خصمه المتغطرس الذي لا يهمه إلا أن يسحق ويقتل ويدمر ويشرد كما يحدث في ليبيا على عكس ما حصل في مصر من نضال سلمي استوعبته الدولة بمؤسساتها المدنية والعسكرية ..
لقد كنا قد طالبنا بثورة اصلاحات او تغيير جذري لكل البنى في منظومتنا العربية ، ولم نجد اية استجابة تذكر ، بل وتوقعنا حدوث التغييرات في العام 2009 ، ونشرنا ذلك في أكثر من مكان منذ نهايات القرن العشرين ، وصولا الى جملة ” المقالات ” التي نشرناها في العديد من امهات الصحف العربية منذ العام 2000 ؟
صحيح أن أنظمة سياسية عربية عديدة طرحت شعارات ” الإصلاح ” ، ولكنها كذبت ، كونها أرادت إقناع العالم أنها مع تحولات القرن الواحد والعشرين .. فعادت إلى المربع الأول حيث لا يمكن مقارنتها اليوم، بما كانت عليه في الماضي القريب.. صحيح أن جميع العرب ( باستثناء العراق المهزوم عام 1991 شر هزيمة ) قد صفقوا لمؤتمر مدريد ، وشاركوا فيه ، ولكنهم لم يكونوا على استعداد إعلامي للاعتراف بإسرائيل ، علما بأنهم معترفون بها خفية كل على انفراد .. إنهم عاشوا زمنا طويلا يشتهون إسرائيل، ولكنهم يستحون من الاعتراف بها .. يتعاملون سرا مع إسرائيل ، ولكنهم يبيعون الوطنية على شعوبهم .. هذا الانفصام العربي خلق لدى إسرائيل استهانة كبيرة بالعرب الذين يتكلمون بأكثر من لغة معها أو ضدها في آن واحد !
تكوين خارطة طريق
إن أي نظام عربي بحاجة إلى جملة شروط حقيقية لتأسيس حياة سياسية جديدة بعيدة عن كل المألوفات التي أصابها الوهن والعفن معا .. إن تأسيس إستراتيجية عربية لا يمكنها أن تولد من منظومة جامعة دول عربية لم تعد لها أي نفع أبدا ، فإذا كانت قد أخفقت في الثلاثين سنة الأولى من حياتها ، فقد كانت هناك مشروعات عدة للتغيير والانقلابات والتحولات التي لم تكن الناس تتصور أنها ستفشل جميعا .. في حين أن إخفاقاتها المتتالية في الثلاثين سنة الثانية قد قادت إلى أن تكون ميدانا لتصفية الحسابات العربية ولم تعد تنفع إزاء حروب ومشكلات وغزوات وحصارات واحتلالات .. الخ
ما الحل ؟
فما الحل إذن ؟ هل الإسلام هو الحل ؟ هل (الديمقراطية) على طراز الفوضى الخلاقة هي الحل ؟ هل صعود مستبد عادل هو الحل ؟ هل الشيوعية هي الحل ؟ هل العسكريتاريا هي الحل ؟
إن من يريد تأسيس نظام عربي جديد ، لا يتعاون لوحده مع أي نظام دولي أو إقليمي بمعزل عن الإرادة الموحدة .. إننا أمام حالة تاريخية هشة ، لا نعرف كيف نرسم خارطة طريقها ، فبسبب هشاشة الحلول أخشى أن تصبح متغيراتنا في أزمة ! كما إننا أمام حالة تاريخية هشة لا تتمتع بأي ثقل في مواجهة العالم الذي لم يزل يبحث عن مصالحه على أرضنا ووجونا كون عالمنا العربي واحدا من أهم المجالات الحيوية في العالم .. السؤال الأهم الذي نواجهه : هل سيبقى العرب يدورون في دوامتهم من دون أي نظام جديد يحدد سيرورتهم التاريخية إزاء العالم في القرن الواحد والعشرين ! هنا أدعو العرب قاطبة للعودة إلى بيان الإسكندرية للإصلاح والتغيير ليكون منهج فكر وعمل من اجل بناء نظام عربي جديد يقوى على الحياة .
واخيرا : عالمنا يمر بزمن الفوضى
استطيع القول في نهاية هذه الجولة ، إن حياتنا العربية تزداد يبوسة وجفافا يوما بعد يوم ، ليس بسبب واحد يخص دواخلها فقط ، بل علينا أن نعاين العالم كله وما أصابه من شحوب ، وما كثرت فيه من مشاكل ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين .. لا يمكننا أن نتخيل فرنسا وهي موطن الحرية ومبعث الفكر الحر تزداد فيها العنصرية إلى درجة كبيرة ! ولم يخطر ببالنا ان أوروبا ستغدو بيئات متوطنة للمافيات عقب سقوط المنظومة الاشتراكية ! ولم نتخيّل أن أميركا ستبدأ بفقدان بعض عناصر قوتها بتوزيع الفوضى في كل مكان .. ولم نعد نحدد مواطن غسيل الأموال في بلدان عديدة في العالم ! ولا يمكن أن نتخيل زيادة أجهزة المخابرات في العالم ، بحيث باتت الأحداث التاريخية لا تمر إلا من خلالها ! ناهيكم عما أحدثته ثورة المعلومات من اضطرابات واسعة جدا في كشوف للوثائق فاجأت كل العالم ! إن العالم كله يمر بأزمات قاتلة ، ولكن مجتمعاتنا تصعق بتحديات ليس لها القدرة على مواجهتها ، بسبب ما ابتليت به من القهر والمشكلات بسبب ابتعادها عن حياة العصر وانغمارها في الأوهام ، فكيف السبيل إلى معالجتها ؟ هل سنشهد ولادة جيل جديد يمكنه التعامل مع هذا العصر بعد رحيل آخر أجيال القرن العشرين سنة بعد أخرى ؟
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …