في خضم متغيرات زمن “الربيع العربي” اليوم، نسيت مأساة العراق، فالعراق تحوّل من حالة رديئة إلى حالة أردأ، ولم تزل تحفّه المخاطر، وتكتنفه المشكلات، وتنال من أهله التفجيرات، ويزداد يوماً بعد آخر المطالبون من العراقيين بتقسيم العراق إلى “أقاليم” منفصلة عن المركز وحكومته في بغداد، أسوة بما فعله إقليم كردستان العراق، الذي اجتمع بثلاث محافظات وانبثق تحت غطاء أميركي منذ العام 1991، ولكنه أخذ سمته الرسمية بعد العام 2003 إثر احتلال العراق.. وعندما نودي بفدرلة العراق قبل تسع سنوات، اعتبر العراقيون ذلك من جملة الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، إذ إن العراق سيؤول مصيره للتشرذم لا محالة، إزاء القوى الإقليمية الكبيرة في المنطقة.ورغم سنّ نصوص قانونية تضمنّها ما يسمى بـ”الدستور العراقي” عام 2005، بإنشاء أقاليم بدل المحافظات، وتشكيل الفيدراليات بدل الحكم المركزي، فإن العراقيين أعلنوا اشمئزازهم من تلك “النصوص” التي لا مصلحة للعراقيين منها أبداً، رغم تصفيق البعض لها وتهريجهم من أجلها، لأسباب طائفية أو إثنية أو جهوية أو عشائرية.. الخ. وكم نشرنا من انتقادات صارخة ضد تلك البنود التي تضمنها دستور العراق، ولكن دون جدوى، فالكل يدرك أن ذلك “الدستور” يحتوي على بنود مشوهة تضرّ بمصائر العراقيين، ولكن صمتت الأغلبية صمتاً بليداً بسبب التحالفات السياسية، وبسبب الإرادة الأميركية التي كانت ولم تزل تطبق ما كانت قد رسمته للعراق منذ سنوات!
اليوم، يطالب البعض من محافظات نينوى (الموصل وملحقاتها) وصلاح الدين (تكريت وسامراء وأطرافهما) والأنبار (الدليم وتوابعها)، بتأسيس أقاليم شبه منفصلة عن المركز في بغداد، أسوة بما يتمتع به كردستان.. وبالتأكيد ستطالب محافظات أخرى بذلك لنفسها أيضاً، ولكن رئيس الحكومة المركزية أعلن امتعاضه واعتراضه على هذه “المطالبات”، بل وبدأ بكيل التهم لمن يطالب بذلك، ووصف تلك المحافظات بالإرهاب والبعث والطائفية..وهو يدري حقيقة ما يتضمنه الدستور الذي صفقوا له جميعاً قبل سبع سنوات! بل وهو الدستور نفسه الذي أتاح لهم البقاء في السلطة حتى اليوم.. وهو يدري كم نادى المخلصون الوطنيون بتعديله، خوفاً على مستقبل البلاد ومصير هذا الشعب دون جدوى، بل واتهم المنتقدون بشتى التهم الجاهزة! بل ويتهم رئيس الحكومة بأنه مناطقياً يمّيز منطقته على مناطق العراق الأخرى، إذ ورد قبل أيام أن المالكي تكلّم عن عودة البعثيين، وقال: إنهم منتشرون حتى في “مناطقنا”.. ويقصد الفرات الأوسط والجنوب!
وتعلّق إحدى النائبات البرلمانيات العراقيات بقولها: “ياللهول! رئيس وزراء في دورته الثانية يعتبر منطقته جزءاً من العراق، والأجزاء الأخرى ليست مناطقه”!! وأقول ان كل مواطن يعتز بمنطقته، ولكن متى ما أصبح ذاك “المواطن” مسؤولًا كبيراً أو أتاح له القدر أن يكون سيدّاً للعراق، فعليه أن يتجرّد من مناطقيته، أو جهويته، أو طائفته، أو قبيلته، أو إقليمه، أو قوميته.. ليكون عراقياً حقيقياً يعتبر العراق كله بيتاً له، ويعتبر العراقيين كلهم أهله.
إنني لست مع تقسيم العراق أبداً، بل وأعارض الدستور الذي أقر بذلك منذ سنوات، ولست مع الذين ينادون بصناعة أقاليم لا يمكنها أن تقوى على الحياة، إذ ستعيش مرتهنة بيد هذه القوة الإقليمية أو تلك.. ولكن، لماذا وصل الناس إلى النقطة الحرجة التي اختاروا فيها مثل هذه “الصناعة” على حساب الوطن كله؟ لماذا وصل الأمر ببعض العراقيين حد القناعة بالانفصال عن بغداد؟بل لماذا ينادي البعض بالمناطقية علناً على حساب الوحدة الوطنية؟ بل ويعتقد البعض من العراقيين أن انفصال إقليم كردستان عن العراق بات ضرورة ملحة! وما معنى قناعة الأكثرية في الموصل وغربي العراق، بالتهميش والإقصاء من قبل الحكومة المركزية؟وما معنى أن يجد بعض العراقيين أنفسهم أمام رئيس حكومة يعلن عن ولائه لمناطقيته بعيداً عن وطنيته؟ وما معنى أن يتمترس رئيس دولة بحصن إقليمه بعيداً عن هموم وطنه؟ وما معنى إبقاء المحاصصة الطائفية والعمل بها بشكل علني مفضوح؟ وما معنى أن تحرم محافظات عراقية معينة من حقوقها المادية بالإنفاق والصرف عليها، أسوة بغيرها؟ وما معنى اصدار قرارات كيدية من دون اية حيثيات ؟ وما معنى اظهار التمايز بين العراقيين على اسس الولاء الجهوي او الطائفي او الحزبي ؟
هذه أسئلة مطالب كل وطني غيور شريف بالبحث عن إجابات حقيقية عليها، لمعرفة عوامل التفسخ العراقي الذي يعيشه هذا “المجتمع”، الذي عانى كثيراً وطويلًا، ليس من الاستبداد والطغيان وحدهما، بل من التجاهل والتهميش والإقصاء والظلم والتحيزات والتمايزات والصراعات والمكبوتات والتفرقة.. وسحقته الحروب والحصارات والإرهاب المنظم، ومشروعات التمزق والتفتيت كي يبقى متناحراً متمزقاً..
عودوا إلى أسّ المشكلة الحقيقية، وعالجوا الرؤى البليدة والركائز العقيمة التي تمنح الآخرين حق الانقسام، واستأصلوا روح الانقسام.. عودوا إلى وطنكم الحقيقي وبيتكم العراقي، وأصلحوا مواقفكم وسياساتكم الكيدية، وازرعوا قيماً جديدة ولا تنابزوا بالطائفية والجهوية، فكلكم طائفيون ومتحزبون وجهويون وانقساميون.. واعلموا أن كلّ ما تمارسونه في ظل هذا الدستور العقيم، لا تنفع معه أية إجراءات آنية، ولا أية مصالح مؤقتة، ولا أجندات من وراء الحدود، ولا أية مناورات قبلية..إن سياساتكم البائسة التي أنتجت كل هذه المأساة، قادت إلى الضرر بمصالح العراق الوطنية، التي لا بد أن يدافع عنها الجميع ليؤسسوا ربيعاً عربياً في العراق.. ان الربيع العربي سيجتاح العراق لا محالة ، عندما تنضج الظروف ، واعلموا أن العراق لن ينقسم أبداً، بل هو يمّر بأزمة تاريخية صعبة جداً وقد تطول كثيراً، وستنتهي عاجلاً أو آجلاً، ولكن بعد أن يكون قد دفع أهله كلهم المزيد من الأثمان الباهظة.
نشرت في البيان الاماراتية ، 7 نوفمبر / تشرين الثاني 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …