مقدمة : متطلبات وضرورات
إن التشكيل الحضاري والوطني لأي عراقي في القرن الواحد والعشرين ، يعني بكل بساطة ووضوح : مجموعات هائلة ومركبة ليس من منتجات عاطفية ودعوات كاذبة لأحزاب دينية ، أو نزعات طائفية ، أو تشددات شوفينية ، أو انسلاخات اجتماعية ، أو استعراضات الذات التاريخية .. كما يتصور البعض ، بل انه منتج نظام فكري وتربوي وأخلاقي للتمدن ضمن رقعة من الأرض في هذا الوجود يسمونها بـ ” الوطن ” او بالأحرى تعرف منذ القدم بـ ” العراق ” ! انه الالتزام بالإنسان ضمن حقوق وواجبات ما منحه الدستور إياه ، كي يناغم بين هذا العصر ومواريث المجتمع وعاداته وتقاليده وفولكلورياته وآدابه وفنونه وإبداعاته .. فضلا عن دور ذلك ” التشكيل” في إغناء مؤسسات الدولة بالمشروعات الدستورية والقانونية والمدينية والعمرانية والخدمية والسكانية والإعلامية .. الخ فلا تمدن حياة من دون نظام يتشكّل وطنيا وحضاريا ، والذي تختفي عنه كل أمراض التاريخ ومشكلات الماضي .. انه لا يقبل البقاء نتغنى بالأمجاد كوننا أهل حضارات ، ونحن غرقى في أعماق الجهل والتخلف .. انه لا يقبل قوى سياسية متناحرة على سلطة أو نهب مال عام ، بل يقبل تلك النخب التي تعمل على تطوير المجتمع وتربوياته وعلومه ومعارفه وأساليب حياته وتنمية تفكيره ومدارسه وجامعاته وأنديته وملتقياته ومعارضه ووسائل راحته وملاعب أطفاله وتوفير خدماته ووسائل اتصالاته ورخاء اقتصاده .. إضافة إلى دور ذلك ” التشكيل ” في تحديث الحياة الاقتصادية ومجالاتها النفعية والأسواق والاستثمارات والبنى التحتية وعمليات التبادلات والمواصلات والاتصالات والتسويق والبنوك واحترام ساعات العمل .. الخ
نظام حياة ينقد العراق والعراقيين معا
إن ما نجده في العراق اليوم ـ مثلا ـ لا يمّت لما أتينا على ذكره بصلة ، فكل ما وجدناه في عدة تجارب مريرة على امتداد سبع سنوات من الاحتلال والخروقات والتهجير والإرهاب والصراع الطائفي والنهب المنظم للمال العام .. ولم يقم أي تكتّل سياسي حتى اليوم بتقديم أي مشروع وطني حتى اليوم .. ومن دون شك ، فان الزعماء السياسيين الذين لهم القدرة على صنع الاحكام بعد تقويم التجارب ودراستها ، يعّدون من النادرين اليوم في أية أمة تحترم نفسها وتاريخها ، وحتى إن وجد بعضهم ، فمن الأهمية بمكان أن يكون الإنسان المناسب في المكان المناسب ، وان من يجده ينتخبه الناس ليكون على رأس ذلك ” التشكيل ” ، فالمطلوب مشاركتهم في إعادة تكوين الحياة العراقية التي لا أجد إلا القليل من المتفائلين بها .. وان اغلب العراقيين اليوم من المتشائمين بصدد ما اسمي بـ ” العراق الجديد ” الذي فوجئ أهله به وهو يلبس بدلة ليست على مقاساته .. وان من خاطها له ، لم يدرك حجم العراق ولا حجم عضلاته المتراخية ، ولا جملة من الاعتبارات عنه ..
إن الولايات المتحدة الأميركية التي غدت مسؤولة عن العراق مسؤولية كاملة عام 2003 ، لم تنجح بعد إسقاطها النظام السابق بإتباع منهج يلائم كل العراق تبعا لمصالحها .. بل أوجدت نموذجا من بلد يصلح تماما للفوضى الخلاقة .. خصوصا عندما عرفت من يكون هؤلاء الذين يصفقون لها على ما فعلته ، بل ويخافون تبعات ما كانت ولم تزل تأمر به أو تنهى عنه . ومع كل الهجمة القاسية التي عاشها العراقيون ، فلقد انتصرت أميركا باللعب على انقسامات العراقيين ليس سياسيا فقط ، بل اجتماعيا .. وقد وجدت بيئة خصبة لذلك كالتي قال بها بعض الخبراء الذين استفادت من آرائهم وبعض أولئك الذين اعتمدت عليهم من مستشارين ومؤرخين .. كانوا يعملون على تفكيك بنية العراق في مراكز بحوث لهم ، وهم الذين ساعدوا على ولادة عراق منقسم ، وما زالوا حتى هذه اللحظة يغذون هذا الجانب تغذية يومية كما يبدو ذلك واضحا لكل المراقبين ومن خلال أوراقهم ومؤتمراتهم ودوائرهم التي تصدر الاحكام والخبرات عن العراق بالذات .
الانتصار : اعادة تشكيل الانسان
السؤال الآن : كيف نحاول إعادة تشكيل للإرادة العراقية وسط هذا البحر من الفوضى والغلو والتجني والتعصب ؟ كيف نحاول بالأحرى إعادة تشكيل للإنسان في العراق بعد انسحاقاته المريرة ؟ كيف نحاول أن نعيد الثقة بين فسيفساء المجتمع العراقي ، وقد انقسمت وتشظت على نفسها منذ أزمنة ؟ كيف نحاول أن نعيد اللحمة الوطنية ليس لمن يهوى الانفصال ، بل لمن لا يريد أية قواسم مشتركة ؟ كيف يمكننا محاصرة المشاكل الهائلة في العراق إلى مجرد تصنيفها أولا ، لكي نتقدم بالأهم منها على المهم فيها ؟
إن أي عراقي بالرغم من طيبته وحسن معشره وذلاقة لسانه وحدة ذكائه .. لكن لا يمكنه أن يقتنع مباشرة بما يواجهه ، فهو معدوم الثقة بكل الأشياء وبكل الأفكار وبكل الآخرين .. وربما يقول شيئا ويفعل نقيضه .. انه لا يقتنع بالشيء حتى وان شعر بقبول الشيء ، لأنه لا يتبع ذاته بقدر ما يبحث عما تريده مجموعته أو عشيرته أو طائفته أو عائلته .. انه لا يتواضع أبدا ، فهو يحب نفسه بشكل لا يمكن وصفه ، فالأنانية طاغية لديه ، تجده يريد دوما أن يتقدم الصفوف حتى وان اعتدى على الآخرين .. انه يبحث عن زعامة دوما حتى وان لم يجد نفسه زعيما ، انه يعشق السلطة والقوة والغطرسة ويعشق الناس تمجّده وتطري عليه وتفاخر به .. بل ويجن جنونه إن وجد أحدا يتقدم الصفوف .. وقد تصل درجة الانوية وحب الظهور والزعامة إلى الدرجة التي يدفع لها أثمانا مادية أو معنوية كأن يتوسل أو يذل نفسه على الأعتاب ..
هؤلاء الذين يخرجون علينا ليل نهار من ساسة جدد وهم لا يعرفون تركيب جملة مفيدة .. نماذج حقيقية لكل هؤلاء الذين يعج بهم العراق في الداخل والخارج .. إنهم جميعا لا يستطيع المرء أن يقف أمام طموحاتهم ، فالحق مشروع لكل مواطن أن يسعى لتحقيق طموحاته ، ولكن ما نشهده على امتداد تاريخ العراق المعاصر ، إن القوي يأكل الضعيف من اجل المناصب والجاه والشهوات وجمع الثروات .. ما نشهده في أي طغمة حكمت العراق بروز نماذج لا تعد ولا تحصى من أناس وصلوا السلطة ، وانكشفت حقائقهم على الملأ .. وقد شهدنا كم كان ذاك مجنونا بأحاديته ، والآخر مهووسا بشوارعيته ، والآخر يهزج بغنائمه ، والآخر يرقص على فرديته ، والآخر يتشفى على تعذيب زملائه ، والآخر يعشق تأليه ذاته .. وصولا إلى من يهوى حصده المليارات وآخر لا يكف عن الاستعانة بالأعداء .. وآخر يصلي ليل نهار في محراب طائفته .. وآخر لا يؤمن إلا بعراق منقسم على نفسه .. وآخر سيبقى لا يعرف إلا البكاء والولولة .. وآخر لا يعرف إلا البطش والاختلاسات .. وبين هذا وذاك يمرق كل المنافقين والمهرجين والراقصين على جراح هذا أو مأساة ذاك ..
كيف نعيد للعراقي عراقيته ؟
عندما نعيد إليه كرامته وحقوقه المهضومة .. عندما نشعره بأنه عضو نافع في المجتمع ، وان المجتمع صديقا له لا عدوا لدودا له .. عندما نعلمه بأن الدولة هي له وليست ضده .. عندما يشعر بأنه عراقي حقيقي لا مزيّف ونحن نعلم كم ابتلي العراق بالمزيفين في القرن العشرين .. عندما يشعر انه لم يخلق لسلطة رجل دين أو سلطة زعيم دولة أو سلطة شيخ قبيلة أو سلطة عنصر مخابرات .. أو سلطة مدير مؤسسة ، أو سلطة مسؤول حزب .. الخ نعيد للعراقي قيمه واعتباراته عندما نقدّم الخيرين من العراقيين على غيرهم من الأشرار .. وعندما لا نثير حساسية أحد بتصنيف الناس على أساس مادي أو سلطوي بل على أساس كفاءة وخبرات .. عندما لا نزرع الفتنة في المجتمع كي نسعى إلى تكريس الفرقة بين العراقيين تحت أية واجهة من الواجهات .. عندما يكون المسؤولون الكبار قدوة في عمل الخير والقناعة والتواضع حتى يعرف الناس طبيعة الأشياء ويتمثلون بها .. عندما تنتصر إرادة المجتمع على الاعتماد على الدولة .. فليست الدولة ستبقى غنية إلى الأبد ، ولن تبقى قوية إلى الأبد .. إن المجتمع ينبغي أن يتحرك ليس سياسيا كي نستعرض العضلات السياسية ، بل يتحرك اجتماعيا واقتصاديا من اجل نمو حضاري يفرضه على الدولة فرضا .. لا يمكن أن تبقى الحقوق مضاعة في العراق بين جوقات من النهابين والمختلسين والمرتشين وأصحاب الكومشنات الحرامية .. فالعراق ليس مشروعا للنهب .. على الحكومة العراقية أن ترعى مصالح العراق الداخلية قبل أن تستعرض عضلاتها على الاخرين في الخارج !
ماذا نريد ؟ نريد نظام حياة جديد لكل العراقيين
إن العراقيين بحاجة إلى نظام حياة جديد ، وديمقراطية حقيقية ، ومناخ فكري حر ، وليس إلى مجرد انتخابات شكلية ليصعد هذا وينتصب ذاك أو ينتخب هذا ولا يعّين ذاك .. نظام حياة يستعيد القيم العراقية الأصيلة في المدارس ورياض الأطفال ليس على النسق المغلق الذي تمارسه الأحزاب الدينية اليوم ، بل على النسق الحضاري المنفتح على العالم كما كان عليه حال العراقيين ونحن أطفالا في عقد الخمسينيات .. نظام حياة يستند على ركائز أساسية نعرفها نحن جميعا كالتي سجلتها قبل قليل .. نظام حياة يقدس العمل والمال العام والأمن والنظافة والدوام والمجتمع بكل أطيافه .. نظام حياة منفتح على الآخرين ليتعلم منهم الثقافة والفن وأساليب التطور .. نظام حياة يعتني بالإنسان وقدراته وإبداعاته ومنطلقاته وآرائه وأفكاره .. نظام حياة يعتني بالمرأة ويحترم مشاعرها ويحافظ على حقوقها .. ويجعلها أختا له في العمل وكل مرافق الحياة .. نظام حياة يعتني بالجيل الجديد وتربيته على أسس حضارية ووطنية وإنسانية بعيدا عن زرع الأحقاد والكراهية والعنف والتمزق .. السؤال الأخير : هل ستتحقق الأحلام في ظل واقع متخلف لا يتزحزح عن أجندته ، ولا يتململ عن بقاياه وترسباته ولا يترك تقاليده وعاداته السقيمة ؟ هذا ما ستجيب عنه الثلاثين سنة القادمة !
نشرت في مجلة الجديدة ، 19 كانون الثاني / يناير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …