واستنادا إلى أفكار عالم الاجتماع كارل مانهايم، فإن المجتمعات تتقبل بسرعة ما يدغدغ أحلامها، فتعيش سرابا، إذ تتفجر عواطفها، وتشحن سايكلوجياتها بمشاعر القوة المزيفة، وهى تعتقد أن رجال الطوائف فوق الجميع.. في حين أن اغلبها تمثله قوى متطرفة ومتعصبة جامدة، لا تدرك معاني الحياة المدنية، ولا تمتلك أية عقلية نسبية في التفكير، وهي تقف إزاء العالم مواقف متهرئة ومتهتكة ولا تعرف معالجة أوضاعها إلا من خلال شعوذات سيكولوجية، أو من خلال صراعات هرطقية! إنها قد خرجت من إطار عملها، ومن أماكن تقديم خدماتها للناس والمجتمع لتمارس أدوارا لا شأن لها بها ابدا! نعم، لقد انتقلت من دور الواعظ للسلوك إلى دور صانع القرار.. وهنا تصادمت التوجهات بفعل تعدد الانتماءات المذهبية في المجتمع.. كما تصادم المجتمع نفسه مع الدولة التي وجدت نفسها ضائعة بأيديهم، فلا هي بمؤسسات مدنية صرفة، ولا هي بمؤسسات يحكمها رجال طوائف وجماعات قلبا وقالبا!
لقد أفرغت الموجات والجماعات المتعصبة مجتمعاتنا من كل ترسبات الأيديولوجيات اليسارية وفراغات التنظيمات الحزبية سياسيا، وانحسرت القوى القومية العربية بالرغم من وجود بقاياها لدى من تبقى من جيل الماضي، وهو جيل سيرحل خلال السنوات القادمة، ولم يخّلف من ورائه إلا التعاسة! لقد قادت جماعات الإسلام السياسي بالضرورة إلى انقسام طائفي فاضح بين السنة والشيعة في عموم منطقتنا وبدرجة اقل أو اكبر في العالم الإسلامي، أي بمعنى تفكك المجتمعات واقعيا.. ولم يكن بوسع أي فكر سياسي ليبرالي أو اشتراكي معاصر أن يسد الفراغات الناتجة عن أفول الانتماءات الوطنية والقومية، بحيث كانت الامتلاءات الطائفية والانقسامية أكبر بكثير من أفكار الأحرار المدنية، ذلك أن نخب الأحرار المستنيرين هي قليلة ومحاربة، بل إنها اتهمت بالعمالة للأمريكان ظلما وعدوانا سياسيا وإعلاميا، وشوه الإعلام العربي سمعتها.. علما بأن السياسة الأمريكية قد ساهمت بإشعال حروب المنطقة، وإذكاء روح الطائفية والكراهية بين الأعراق والملل وشرائح المجتمعات، وهى بالأصل مجتمعات معقدة جدا. فتحولت من صراعات سياسية عرفناها في القرن العشرين إلى تصدعات اجتماعية سيعانى منها الجميع في القرن الواحد والعشرين، وفى هذا خطورة لا يشعر بها إلا من يتأمل طويلا في متغيرات المعادلة في الصراع من الخفي الصامت إلى المكشوف المتحول، واللعبة الدموية هنا، هي بين الأكثريات لا بين الأقليات. وعليه، ينبغي على الأقليات ألا تتدخل في الصراع إزاء هذا أو ذاك أبدا لأنها سوف تحترق مباشرة!
إن الانقسام بدأ يترسخ شيئا فشيئا في مجتمعاتنا قاطبة، بعد أن استثمرت خفاياه ومسكوتاته طويلا لتنفضح علنا.. إن من يراقب ثقل المركبات الاجتماعية والتعقيدات التي تتفاقم الانقسامات من جرائها.. سيجد أنها تزداد ثقلا ودموية بفعل ازدياد التعصبات يوما بعد آخر.. وكأن ثمة سياسة، قد خطط لها أن تكون، وتغدو مجتمعاتنا المفككة في رعايتها تماما. إن ازدياد الشروخ ومشروعات التمزق وعمليات القتل وكل عمليات الإرهاب المنّظم والتفخيخات والأعمال المضادة… هي في الحقيقة تنفيذ لخطط موضوعة على الأرض من أجل تمزيق نسيج المجتمعات في المنطقة، أو الإسراع بخلق الصراعات الداخلية وتفاقمها سريعا إلى حيث المواجهة الكبرى من خلال حروب أهلية مسعورة! إن على من يبحث عن المسبب والمنفذ عليه أن يبحث عن المستفيدين الأساسيين من ذلك. وعليه ، لابد من كل الحذر إزاء متغيرات صعبة تحدث في أي بلد من بلداننا ، كيلا يصبح فريسة للإرهاب والتشظي أو يغدو لقمة سائغة بايدي الطوائف والجماعات المتطرفة .
إنني أعتقد أن انقسام مجتمعاتنا وتشظياتها سياسيا واجتماعيا اليوم:
أولا: سيخرجه بعد مضى أزمان بأوضاع مختلفة تماما عما ألفه تاريخنا منذ مئات السنين.. وان تلك الاوضاع ليست سهلة أبدا، بل تتخللها المصاعب والتحديات.
ثانيا: إن البشرية جمعاء ستستفيد من ذلك وخصوصا من النواحي الاقتصادية، إذ ربما سيطول أمد التغيير لثلاثة أجيال قادمة على امتداد القرن الواحد والعشرين.
ثالثا: اليوم، نحن أمام ضرورة الوعي الجمعي لمجتمعاتنا وإيجاد بدائل مدنية عن تقاليدها الرثة، بعد معرفة التناقضات التي تسحق تلك المجتمعات، كي ندرك مواطن الخلل على الأقل ونعمل معا على درء المخاطر القادمة.. وعسى تنتهي مهزلة العصر.
نشرت في البيان الاماراتية ، 15 يناير / كانون الثاني 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
sayyarjamil1@hotmail.com