جدوى مؤتمرات القمة العربية؟
لم يبق من الزمن إلا القليل على انعقاد مؤتمر القمة العربي بدورته الـ 37 في بغداد، كما أعلن عن ذلك رسميا، هذا إن تمّ انعقاده حقا، وباستثناء عودة العراق إلى الصف العربي ـ كما يصفون،، فلا ادري، أي دور سيقوم به هذا ” المؤتمر ” وفي مثل هذه الظروف؟ وينقسم الرأي العام في العراق إزاء هذا الحدث إلى قسمين أثنين، أولهما يبارك المؤتمر ويصفق له، ويهّرج من اجله، لأنه وجد الحكومة العراقية تسعى له سعيا حثيثا، وسينتظر البعض المقسوم من كعكته، وثانيهما، يعارض حدوثه وينتقد انعقاده في بغداد، لأنه يعتقد أن المؤتمر سوف لا يقدّم أو يؤخّر شيئا. لقد انعقد أول مؤتمر عربي للقمة بين ملوك ورؤساء عام 1946، وانعقد آخر مؤتمر للقمة في شهر آذار 2010، إذ بلغ عدد مؤتمرات القمة العربية حتى الآن قرابة 36 مؤتمرا.. وكان أن انعقد اثنان منها في بغداد على أيام العهد السابق، كان أولهما عام 1978 وانعقد ثانيهما عام 1990.. وكان كل منهما قد قادا إلى كوارث وحروب. وكانت كل مؤتمرات القمة العربية قد خرجت بتوصيات وقرارات يكرر بعضها بعضا من دون جدوى.. وكانت تلك المؤتمرات ساحة لتبادل الاتهامات، أو التراشق بالشتائم، أو نوم بعض المشاركين، أو تنقلب مجاملات اليوم الأول إلى الاحتجاجات في اليوم الثاني.. وتأخذ طابع الصدامات والتشهيرات الإذاعية والتلفزيونية في اليوم الثالث.. وحركة الكاميرات التلفزيونية وهي تعلن للعالم في القاعات الكبرى عن اجتماع أصحاب النياشين مع امتلاء منتجعات وفنادق الدرجة الأولى وولائم وعزائم وفود وانشغال إعلاميين وكتّاب ومهرجين ومذيعين ومراسلين وحفنة من الشياطين.. ليشغلوا بال الناس واهتمامهم بالقرارات المصيرية والاتفاقات على خطوات إستراتيجية.. ولكن لن تجد إلا الفشل الذريع ينتظر الجميع في نهاية المطاف!
العراق والعرب
لقد قرأت قبل زمن ليس بالقصير مقالا رائعا للصديق الأستاذ جاسم المطير ينتقد انعقاد هذا المؤتمر على طريقته الساخرة، ولكنني تذكرته وأنا اكتب مكاشفتي اليوم عن موضوع يشغل بال المهتمين باعتباره تعبيرا عن موضوع اكبر يعتني بجدلية يزداد الفرقاء حولها، ذلكم هو موضوع العراق والعروبة ! وهو موضوع يعتبره البعض مشكلة العراقيين العرب، ويغالي البعض باعتباره معضلة تنكر العرب للعراقيين.. بل ويصل تقويم البعض الآخر إلى حد اعتبار العروبة جريمة، وخصوصا عند أولئك الكارهين للعرب كراهية عمياء، ولكننا نجد بالضد من هؤلاء، بعض آخر يعتبر القومية العربية واحدة من المبادئ الأساسية للعراقيين ! وعليه، فان انعقاد مؤتمر القمة في بغداد سوف لا يحلّ مشكلة، ولا يعالج معضلة، ولا يخفف من غلواء بعض، ولا يحدّ من تعصب بعض آخر.. إن مؤتمرا للقمة في بغداد لن يكون عصا سحرية بيد هذا الرئيس، ولا صولجان بيد ذاك الملك أو هذا الأمير أو الوزير أو مهرجان الأمين العام.. كي يقدموا الحلول السحرية ليغدو العراق بين عشية وضحاها، بلدا يقبله الجميع، وهو في نظر بعضهم كسيح ومريض، وفي نظر آخرين محتل وموبوء، وفي نظر آخرين شاذ عن الطريق قد خرج عن بيت الطاعة ! إن مؤتمرا كهذا، لا اعتقد انه سينعقد في بغداد بلا مشاكل إن انعقد أصلا، وحتى إن انعقد، فمن قبل وزراء أو جوقة سفراء.. واعتقد أن القادة العرب، سيعتذر أغلبيتهم في الوصول إلى بغداد، تحت حجج وأعذار واهية عدة.. وسيجد العراق نفسه في وضع لا يحسد عليه ! وحتى إن مرّ الحدث، فكأن شيئا لم يحدث.
المؤتمر صفقة لانفاق الملايين
إن هذه الحقيقة يدركها كل الأذكياء في العراق، ولكن بدا الحدث يشكّل صفقة ثمينة أو بقرة سمينة، فلقد حدثّني قبل أيام احد رجال الأعمال العراقيين من الذين لهم اطلاعهم على ما يحدث، بان أكثر من 350 مليون دولار فقط قد رصدت من قبل الحكومة العراقية لإعادة إصلاح 4 أو 5 فنادق من الدرجة الأولى لاستقبال الضيوف ، ورست المبالغ على ثلاثة أسماء كبيرة ، لم تقم إلا ببعض الترميمات كي تبتلع الأموال .. وحدثّني احد الأصدقاء السياسيين قائلا إن عدة ملايين قد رصدت لصبغ الشوارع وطلاء العمارات في الشوارع، وتوزعت الأموال على هذا وذاك.. لا ادري كم ستنفق الحكومة العراقية على انعقاد مؤتمر القمة قبل أن ينعقد؟ وكم ستنفق على تأمين المؤتمر والوفود أمنيا خوفا عليهم من أي هجوم إرهابي ينتهي بكارثة تاريخية لا سمح الله.. وسواء انعقد أم لا، فهو صفقة مالية كبيرة.. هنا نتساءل : أليس من الأجدى أن تنفق هذه الأموال من اجل تقديم الخدمات للشعب العراقي؟ هل أن مؤتمرا للقمة ينعقد في بغداد خلال يومين، تلقى فيه الخطب الكاسدة، وتجري فيه المشاكسات وتقام فيه الولائم ويستجم فيه الإعلاميون.. سيحل مشكلة العراق مع العروبة؟ أو سيعيد العراق إلى الصف العربي؟ كما يتشدق بذلك البعض من المسؤولين !
حدث بوجهات نظر مختلفة
إنني لست ضد انعقاد مؤتمر القمة في بغداد، فهو كأي مؤتمر قمة عربي سبقه، سوف لا يقدّم ولا يؤخر أي شيء من الأشياء.. ولكنني ضد أن يتنطع البعض من القادة العراقيين كونهم حققوا انجازا قوميا كبيرا.. وضد أن يكون المؤتمر وسيلة من وسائل تبذير المال العام على مجموعة من الذين يعتبرون الحدث برمته صفقة لزيادة ملايينهم تقودها خلايا الفساد المنظم.. وضد من يقول أن المؤتمر سيكسر شوكة الإرهاب في العراق، لأن العراق سيستضيف البعض من مصدري الإرهاب إليه كما يقول المسؤولون العراقيون أنفسهم ! وضد البعض في الخارجية العراقية الذين سينجح بعض الشياطين من خداعهم، كونهم ينتصرون للعراق بتفضلهم عليه عقد هذا المؤتمر.. وضد كل أولئك والمصفقين العراقيين لانعقاد المؤتمر، كونه سيحلّ من وجهة نظرهم، ليس مشكلات العراق مع الأمة العربية، أو مشكلاتها مع العراق، بل انه سيحل معضلات الأمة العربية نفسها ! اعتقد أن الشيء الوحيد الذي سيخرج به المؤتمرون أنهم سيجدون أنفسهم في عاصمة منكوبة، بعضهم سيتشفى بها ويرقص على جراحاتها، كونه ساهم في سحقها، وبعضهم سيقول أبقوني في كردستان انعم بنسيمها العليل بدل أن تبقوني في بغداد الكئيبة.. وبعضهم سيبكى حقا حرقة وألما على مدينة السلام سيدة البلاد الأولى عبر العصور.. وبعضهم سيقول خذوني اقرأ سورة الفاتحة على قبر أخي الرئيس السابق الذي كنّا نعتاش من اكرامياته!
العراق جنة ام خراب؟
إن مؤتمرا كهذا سوف لن ينتصر للعراق الذي كان يعتاش عليه الآخرون في الماضي، ليجدونه اليوم على غير ما كان عليه.. إن مؤتمرا للقمة كهذا سوف لن ينقذ الشعب العراقي من محنته، فمحنته لا يمكن أن يحلّها إلا من هيمن على مقاليده أولا، ومن يسوس أمره ثانيا ! وهنا اتفق مع أولئك الذين انتقدوا الدعوة إلى انعقاد القمة العربية في بغداد، وانتقد كل المسؤولين العراقيين الذين لا ادري ما الثمن الذي سيكسبونه من هذه الصفقة؟ ولا اعتقد أن العراق بأوضاعه الحالية بقادر على أن يسهم في إدارة السياسة العربية، أم أن الأمر مجرد جعل رئيس الجمهورية رئيسا لمؤتمر القمة العربي؟ وإذا كان المسؤولون العراقيون أنفسهم ليس باستطاعتهم ان يمشوا في شوارع بغداد، ويتمتعوا بمناظرها، فهل باستطاعة الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ العرب أن يمروا بشوارع بغداد العتيقة والجديدة؟ وان مروّا بها، فهل سيكتشفون بغداد وأوضاعها؟ هل سيكونون عونا في وضع حلول لمآسي العراق؟ هل سينعمون بصفارات الإنذار؟ هل ستبهجهم المفخخات والعبوات الناسفة وقذائف الهاون التي سيتطاير شررها في كل اتجاه.. وهي تعصف على ارض بغداد وسماواتها؟ أي سلام وأي أمان هذا في بغداد حتى ندعو إلى مؤتمر للقمة العربية؟ لماذا هذه الديماغوجية؟ لماذا نريد القول للعالم اننا في حالة ممتازة من كل النواحي بدليل عقدنا لمؤتمر قمة عربي في عقر دارنا.. في حين لا نعلن كم يقتل من العراقيين كل يوم؟ وسواء يقتل عراقي واحد أو ألف عراقي.. فالإرهاب لم يزل يلعب لعبته بالعراقيين؟ وهنا اطلب من الأخوة المسؤولين العراقيين إن انعقد مؤتمر القمة في بغداد أن يؤخذ الملوك والرؤساء في جولة حرة ببغداد كي يكونوا صادقين مع أنفسهم ومع العالم.
سحب للدعوة : خيار خدمة العراق
دعوا أيها العراقيون فلسفتكم في السياسة الخارجية واهتمامكم بالقمة العربية، وعودوا إلى شعبكم المنكوب.. دعوا هذه السفسطة وعودوا لخدمة العراق.. فالعراق ليس له إلا أهله.. كفى تتنطعون على العراقيين بانعقاد مؤتمر سوف لا يقدّم ولا يؤخر من حياة العراقيين، ولا يرجع إليهم كرامتهم، ولا يعمل على إسداء خدمة لهم، ولا يقّدم لهم شيئا ! أرسلوا قصاصة من الورق وقد كتبتم عليها : العراق يعتذر عن استقبالكم حتى يكمل سباقه مع الزمن، وسيقبل استضافتكم بعد أن تطلبوا منه أن يدعوكم على أرضه، لا أن يستجدي الدعوة منكم إليه !
نشرت في جريدة الصباح البغدادية ( عمود مكاشفات عراقية ) ، فجر يوم 8 كانون الثاني / يناير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …