الرئيسية / افكار / لماذا أصبحت مجتمعاتنا كسولة؟

لماذا أصبحت مجتمعاتنا كسولة؟

لقد طرحت السؤال التالي على نخبة من الأصدقاء المثقفين، في حوار متنوع، وعالجنا الأمر بأسلوب ديمقراطي، والسؤال هو:
لماذا غدت مجتمعاتنا كسولة، وثقافاتها أبجدية رخوة أمام العالم؟ كانت الإجابات متنوعة للغاية بين من يقبل التوصيف ومن يرفضه، بين من يضع العلة على الأجنبي ولا يجد في دواخلنا أي سوء! بين من يذهب لأقصى الاتجاه كي يلغى وجود هكذا مجتمعات ويطالب بأن تفنى وبين من يحاول إيجاد علاجات لها.. بين من يقول إن الدين سبب كل البلاء «كذا» وبين من يقول إن السبب كون مجتمعاتنا ابتعدت عن دينها الحنيف.
دعونا نتوقف قليلاً عند بعض الآراء من أجل أن نجد قواسم مشتركة لنخبة تجاوز عدد المشاركين فيها الخمسين مشاركا.. تساءل أحدهم: هل المشكلة من الدول المركزية التي لا تريد التقدم لمجتمعاتنا، وأن الاستقلال مجرد طابع شكلي؟ ويتشاءم آخر قائلا: إن مجتمعاتنا محبطة وقد فقدت الأمل بحكامها وزعمائها الذين لم يكن لهم إلا شعاراتهم، وغدا الأمر سيان عند الناس سواء عملوا أم لم يعملوا! هنا تدخلت وقلت: إن الاستقلالات الوطنية قد كانت حقيقة تاريخية لأولئك الذين ناضلوا طويلا من أجلها، إن علينا أن نبحث عن أسباب أخرى، ذلك أن مجتمعاتنا نفسها تحمل عوامل انسحاقها.. دخل محاور آخر على الخط ليقول : إن ديغول قال للجزائريين: خذوا استقلالكم واذهبوا للجحيم! ويعقب قائلاً: إن مجتمعاتنا منهمكة بإعادة إنتاج التخلف، وأنها تعيش انسدادا تاريخيا! هنا دخل أحد المعلقين قائلاً: إن دودة الخشب من الخشب، إن شعوبنا تصنع جلاديها! عاجله آخر ليقول: ليس لدينا مجتمعات بالمفهوم المعاصر، فهي مجتمعات متشظية تحكمها نخب سياسية متخلفة مهووسة بعمليات النهب والتخريب المتواصل لما تم بناؤه بعد سنوات الاستقلال! عاد الأول ليقول إنه منذ الحرب العالمية الأولى ونحن تجتاحنا الأوبئة! دخل محاور آخر على الخط ليقول: لم تتبلور عندنا ثقافة بالمعنى الصحيح بحيث يمكن مقارنتها مع ثقافات العالم، كل ما لدينا هو خطاب ثقافي هش ارتبط بتوجهات الطبقات الحاكمة ونفذ برامجها في إشاعة التخلف والتضليل وهذا الخطاب ظل مترنحا بين المفاهيم القومية اليمينية وبين مفاهيم رجال الدين، وكلا الاتجاهين لديهما أفكار منغلقة وكسولة وغير قابلة للنقاش في وقت أن البشرية تتقدم بمزاوجة وتلاقح الأفكار! أجبته قائلاً: نعم أشاركك التفكير، ولكن اسمح لي ألا أقبل برؤيتك.. إننا لسنا أصفارا على الشمال.. عندنا تاريخ عمره مائتا سنة أنجب العديد من الرموز والقادة والمفكرين الأكفاء الذين استفاد العالم من بعض آرائهم ومواقفهم.. وليسوا كلهم عنصريين وشوفينيين متخلفين، هذه الأحكام أجدها صعبة جدا في أن تطلق جزافا من أجل خلط الأوراق، وتضييع الفرص على من قدم الكثير، وخصوصا من المستنيرين الممتازين الرائعين بإبداعاتهم ونتاجاتهم ومواقفهم.. أي ليس في خطابهم وحده..!!
انبرى آخر قائلا: إن العرب هم وحدهم الكسالى في المنطقة مقارنة بغيرهم، وأن تاريخ الأمجاد العربية محض هراء! «كذا» قاطعته قائلاً: كلا، ليس العرب لوحدهم كسالى ومنغلقين، بل بالعكس كانوا روادا للنهضة في كل المنطقة، وإذا كنت أنت ابن المنطقة، تطلق الأحكام على سجيتك من دون أن تقرأ تلك الأمجاد التي كتب عن مفاخرها العظيمة المستشرقون والمؤرخون، فكيف جعلتها محض هراء؟ واستطردت قائلاً: لا أشك أبدا في قدرة شعوبنا ومجتمعاتنا ليست العربية فقط، بل التركية والإيرانية أيضاً في أن تجدد نفسها، ولكن سيطول أمر ذلك لثلاثين سنة قادمة حسب توقعاتي، في حين أن العالم سيمر بتطورات مذهلة.. نحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً حتى وأن قرأت كل الملايين أفكارنا.. فقرار واحد من حاكم أو نخبة حاكمة تغير كل المجتمع.. وعليه علينا أن نسعى أن يكون هناك أناس أذكياء وأكفاء ومتجردون كي يحكموا ولكن ضمن انتماء حضاري واحد لا عدة انتماءات تؤثر على كل الحياة.
سألني أحدهم: وماذا نفعل؟ قلت: صحيح أنه ليست عندنا مجتمعات معاصرة كالتي نجدها في العالم المتقدم.. ولكن المجتمعات أصناف في عالم اليوم.. صحيح أنها متشظية اليوم ولكن لم يأت ذلك من تلقاء نفسه، بل بفعل أجندات وأيديولوجيات.. مجتمعاتنا كانت متماسكة ومتعايشة ولها قيمها وانفتاحها على العالم في الماضي، ولكنها اليوم ممزقة ويزداد تخلفها يوما بعد آخر. صحيح أنها ليست كسولة بطبيعتها، ولكن ثمة عوامل جعلتها هكذا بثقافة رخوة غير منتجة،وأنها بالأحرى لم تتلق تربية ممتازة.. علما بأنني قد صنفت في بعض دراساتي أساليب تفكير وأنماط الذهنية في مجتمعاتنا.. لقد وجدت أن المصريين يستخدمون مياه النيل في الزراعة أكثر مهارة وفنا من السودانيين. أن الاثنين من سكان وادي النيل.. ووجدت الإنسان في شرق دجلة هو غير الإنسان في غربي الفرات! ووجدت مجتمع شرقي نهر الأردن هو غير مجتمع غربي نهر الأردن، ووجدت كل مجتمع يتمتع بصفات بيئته، فأهل السواحل هم غير أهل الدواخل! وتابعت قائلاً: أعتقد أن مجتمعاتنا قد أطاحت بها عوامل داخلية أكثر من كونها نتاج مؤامرات خارجية؟ صحيح أن الفتن الداخلية قد استغلت من قبل القوى الكبرى، وكل الطارئين والمحتلين والقادمين، ولكن كان هناك استعداد داخلي للشظى والتمزق.. ذلك أن مجتمعاتنا قد أخفت ترسباتها وبقاياها التي تتضمن مواريث من الاحتقانات والأحقاد والكراهية لأسباب تاريخية ومذهبية وطائفية وعرقية.. مما ساعد على نخر مجتمعاتنا الأساسية من دواخلها!

هنا، تدخل أحد المتحاورين قائلاً: ألا تعتقدون أن علاقات الإنتاج التي كانت وراءها سياسات مضطربة تعد سببا في خضوع الناس للكسل؟ قلت: نعم، علاقات الإنتاج لها دخل كبير في تحديد مسار المجتمع وما فعلته قرارات ارتجالية وسياسات عاطفية.. إنني اتفق معك في السياسات الخاطئة التي تتبعها أنظمة الحكم والأجهزة التنفيذية في بلداننا، بحيث خلقت هوة كبيرة بين أبناء المجتمع، ونجح الطفيليون الجدد باختراق ليس المجتمع وحده، بل حتى مؤسسات بعض الدول! نعم.. دعوني استرسل قائلا: إن بعض البلدان سينتهي أمرها إلى حيث المجهول لخمسين سنة قادمة بفعل ما فسد في حياتها من خلال الدولارات والبترودولار.. مع شمول مجتمعات أخرى لدينا بالحروب والمآسي!

تدخل آخر قائلاً: مجتمعاتنا ليست كسولة لكن محصولها لا يوازى مجهودها، نعم أغلب المشاريع الجبارة في بلدان الغرب هي قطاع خاص وتلعب سوق الأوراق المالية في المشاركة فيه، ويكون البنك هو الرحم المحتضن لمثل هذه المشاريع في حين أن الدولة عندنا ريعية لم تزل.. قلت له: صحيح أن مجتمعاتنا لم تكن سابقا كسولة، بل غدت هكذا بفعل تراكم عوامل مختلفة منها ما ساهمت الدولة وسياساتها فيها، ومنها ما ساهم المجتمع نفسه في خلقه! مجتمعاتنا اليوم كسولة، وأصر على ذلك نتيجة ثقافاتها التي غدت رخوة جدا.. أتمنى عليك فقط أن تزور كل مجتمعات المنطقة لتحكم على طبيعتها.. هناك من يصرف الساعات الطوال يعلس القات! وهناك من يصرف الساعات الطوال يتسكع في الشوارع والمقاهي والمولات!! وهناك من يضيع وقته في مشاهدة الأفلام والمسلسلات.. وهناك من لا شغل يشغله إلا السياسة والشعارات والكلام الفارغ، وهناك من لا يعمل إلا موظفا في الدولة.. الخ. من النماذج، فكيف تغدو مجتمعات غير كسولة إذن؟
ظهر آخر ليقول: قبل كل شيء، علينا أن نغير الأنظمة السياسية المتخلفة والتي ليست لها علاقة بالتطور ولا يهمها النهج التربوي السليم، أننا ضد النظام السياسي المتخلف والقائم على أساس الفكر العشائري والديني والاثنى والطائفي.. ذلك هو حجر الزاوية في تخلفنا وإنعاش كسلنا، قلت له: إن الأنظمة السياسية هي تعبير أي مجتمع عن وجوده، ومادامت مجتمعاتنا قد تراجعت كثيرا، فلا يمكن الرهان على تغيير الأنظمة، بل أعتقد ينبغي البدء بتغيير المجتمع! ولكن هذا لا يأتي من فراغ بل أنه بحاجة إلى وعى وثقافة.
قال: مجتمعاتنا تنقصها حكومات.. قيادات.. أشخاص تعي معنى الثقافة والتطور والوعي الحقيقي لتنشره بدورها للشعوب وتنتشلهم من محنة الجهل الفكري لا فقط الكسل.. وقلة الإنتاج. تدخلت إحدى السيدات لتقول: هناك أسباب عديدة لتأخر مجتمعاتنا، أولها أنها مجتمعات تعيش بالماضي دون أن تحاول أن تجعل ماضيها ذلك متناسباً مع الحاضر، وثاني الأسباب أنها مجتمعات لا تثق بنفسها وتتعصب لرأى أولياء الأمر فيها، كما أنها مجتمعات لا تفهم الدين على حقيقته! فأجابها آخر: نحن نعبد ما وجدنا عليه آباؤنا، ولا نشغل العقل بما يشغله الآخرون، ونعيش عالة عليهم ونلوى أعناقنا عنهم ونسعر لهم النار كأننا أمناها، الله يقول «لا إكراه في الدين» ونحن نقول – من بدل دينه فاقتلوه – ونتفاخر بذلك! وتدخل آخر ليقول: أعتقد سيدي أن الاحتلالات منذ المغول حتى اليوم قد دمرت الشخصية الوطنية، لقد جعلوا الإنسان يكره بلده وعندما تتاح السلطة كفرصة لأي شخص يذبح الآخرين! انطلق صوت متأخر قائلاً: مجتمعاتنا أصبحت كسولة لأننا ابتعدنا عن الإسلام وأخلاق هذا الدين العظيم بالإضافة إلى ترك «المكارم العربية الأصيلة » .
اختتمت الحوار بالقول: إن مسألة مثل هذه لم يتفق فيها المتحاورون على خلاصة موحدة لإشكالية «الموضوع»، فأن هناك أزمة عقل يعيشها أغلب المثقفين الذين يعيشون اضطرابا واسع النطاق في خلط أوراق متعددة، بالهروب من الواقع وعدم مواجهته، أو رمى العلل والعوامل على الآخرين من المتآمرين، أو بسبب الدولة، أو بسبب الدين، أو بسبب الابتعاد عن الدين، أو بسبب الاحتلالات الخارجية.. إلخ.. بطبيعة الحال لم يتعرض أحد إلى الثقافة الرخوة.. ولماذا تشظت ثقافتنا، وضاعت العديد من مقوماتها الأساسية على أيدي الأجيال الجديدة، أن المهم في كل هذا وذاك: كيف تسترد مجتمعاتنا حيويتها وإبداعاتها ونشاطاتها وتغدو كما كانت قبل خمسين سنة؟ هذا لا يتم إلا من خلال ثقافة لها قوتها المعرفية وانفتاحها الديمقراطي ومصداقيتها في العالم.

نشرت في مجلة روز اليوسف ، العدد 4299 – السبت الموافق – 30 اكتوبر 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …