الرئيسية / افكار / جناية الأوصياء الجدد

جناية الأوصياء الجدد

ثمة أسئلة حادة لابد أن توجّه عربيا إلى أولئك الذين نصبّوا أنفسهم قضاة غير شرعيين على مجتمعاتنا العربية والإسلامية باسم مثاليات الأخلاق المزيفة أو باسم الغلو والتطرف، وأصبحوا ضمن الموجة الغبية التي يركبونها اليوم بمثابة أوصياء على الثقافة والإعلام العربيين، وعلى مواريثنا التاريخية العليا.. وأسئلة أخرى أشد قوة، لابد أن توجه إلى أولئك الذين تيبسوا داخل شرانق يابسة أو أقفاص مغلقة في عصر غدا كل شيء فيه منفتحا على كلياته وجزئياته.. بكل إيجابياته وسلبياته. إنهم يريدون أن يؤسسوا هوية جديدة للقمع والتخلف والتراجعية وآلية صاعقة للتنكيل بعد أن غدا القمع سيدا مطاعا والتنكيل أمرا مألوفا والإرهاب الفكري تقليدا مباحا لكل المتسلطين، وهم غائبون وكارهون للثقافة الحديثة والفن والحياة ! تساعدهم في ذلك حكومات وقوى تسلطية باسم أحزاب وجماعات دينية وشراذم طائفية وأجهزة راديكالية مفلسة لها ترسانة إعلامية كبيرة، ينفق عليها بسخاء.. تعتني بأحكامهم وفتاواهم ودعايتهم عناية فائقة، وكأنهم أنبياء مرسلون، وأولياء صالحون، وملائكة مقدسون !! لقد تجنى هؤلاء جناية لا توصف على مصائرنا السياسية وليست الثقافية فقط من خلال أدوارهم الوعظية والترديدية والتسويغية والتخويفية والتحريضية التي أثرت بالصميم في الجيل الجديد، ونحن نرى اليوم نتائج ما زرع منذ ثلاثين سنة حتى اليوم.

يحتكرون الحياة
هل يعقل أن تتهافت مجتمعاتنا وتشغل بالها بتوافه الأمور تفصيليا عند بدايات القرن الحادي والعشرين، وما يجوز ولا يجوز ضد الموسيقى والفن والشعر والثقافة ؟ نصوص كنا قد درسناها في مدارسنا قبل أربعين سنة بكل حيادية وأمانة وإعجاب.. يأتي اليوم من يحرّمها !! وهل يمكن لبلد له تراثه المتنوع وله اعتزازه بقيمه التاريخية وبرجالاته المبدعين وبآدابه وعلومه وفنونه مثل مصر ينشغل الجميع بقضايا هامشية…؟؟ لماذا يرتد الناس ضد الحداثة في الفكر والحياة.. وهم يتوهمون أشياء مخيفة ستخلق أجيالا مريضة في قابل السنين ؟ من سمح لرجال التابو أن يحتكروا قنوات تليفزيونية لساعات طوال كي يدخلوا أنوفهم في كل موضوع، ويوزعوا الأحكام والفتاوى على مزاجهم وهم في غيهم مختلفون ؟ هل غابت كل أوراق الواقع المرير بهول تناقضاته الحادة، وعقم أوضاعه المزرية، وبلادة أوزاره المفجعة.. وغرابة أطواره القاتمة، وسماجة صوره ومضامينه وأشكاله.. حتى ينكّل بالتاريخ والتراث تنكيلا مفجعا على أيدي أبنائه الذين نجدهم يتعصبون حتى ضد أنفسهم ؟ هل ضاق أفق التفكير إلى الحد الذي يجعل رجل دين معمما يشتم الرموز على هواه ؟ هل وصل الأمر بهؤلاء إلى درجة لم يجدوا شيئا لقتله إلا مواريث المجتمع، وبكل صفاقة وقصدية ؟ لقد كشف القرن الواحد والعشرين كل الأغطية عن أمراض اجتماعية كانت تخبو عبر التاريخ.. وثمة أيديولوجيات متصادمة تتسابق للتنكيل بمجتمعاتنا تنكيلا قاسيا! هل عرفت مجتمعاتنا أنها تعيش انقسامات مريرة اليوم بين سنة وشيعة، وبين عرب وغير عرب، وبين متخلفين تعج بهم الحياة ومستنيرين مكبلين بالأغلال لماذا تنحر مجتمعاتنا حياتها نحرا بزيادة الاحتقانات.. بين غباء حكومات وبين انهيار مجتمعات.. وبطرق مجحفة ؟

ينحرون الثقافة
لماذا إذن ينحرون أنفسهم بأنفسهم، ولم يكتفوا بالحاضر، بل التفتوا نحو الماضي ليقتلوه بهكذا طريقة مفجعة ؟ هنا، هل يحق للأحفاد محاسبة الأجداد بهذه الطريقة الغريبة لتجريم هذا والانتصار لذاك ! المشكلة إذن ليست مستوردة، بل تكمن في أعماق مجتمعاتنا التي تتشظى اليوم بأمراضها القاتلة. إنها مجتمعات لا تدرك معنى الحرية، فكيف يتشكل الوعي بها؟
المشكلة ليست سياسية فقط، بل تتجاوزها إلى الرؤية والتفكير والسيكولوجيات الصعبة ! إن المشكلة لن تبقى على حالها في حاضرنا، بل ستتفاقم مخاطرها على المستقبل. مشكلة مجتمعاتنا اليوم مأزومة ومتقرحة ضد كل الحياة المدنية الدنيوية والدينية الخلاقة ؟ تاريخ طويل جدا متنوع المضامين، ومتعدد الأضداد ومجتمعاتنا عاشت طبيعة الأشياء من دون أن تكبل نفسها داخل أقنية، أو تحشر أنفاسها في توابيت ! ونسأل : هل يقف ديوان شعر معين، أو فيلم سينمائي محدد، أو أغنية رومانسية حالمة، أو رواية قصصية غير مألوفة، أو مسلسل تليفزيوني جريء، أو أفكار تحررية غير محنطة، أو حقائق تاريخ خفية.. حجر عثرة في طريق الأخلاق الفاضلة والتربية السامية باعتبارها مسئولة مسئولية كاملة عن خدش الحياء والإفضاء إلى الانحراف الخطير ؟ هل غدت مجتمعاتنا مثالية ومستقيمة وملائكية من كل الأدران والموبقات والسلوكيات الطفيلية والمزيفة والمنافقة بمختلف تناقضاتها المتصادمة.. حتى يضحك على الناس بإدخال كل الحداثة والاستنارة الحديثة داخل شرانق وأقفاص وتوابيت بإشهار السيف، أو بضرب السوط ، أو برجم الأحجار رحم الله القدماء أنهم عاشوا عصرهم وحضارتهم وثقافاتهم ولم يكونوا في شرانق قاتلة قبل ألف عام.
هل فهم أولئك الأغبياء قيمة الماضي حتى ينكلوا به تنكيلا بشعا ؟ المستنيرون اليوم عاجزون وهم منشغلون بالقضايا السياسية لا الفكرية.. وقد تراجع بعضهم ليكونوا وعاظ سلاطين، أو وعاظا فى حلقات يجتمع من حولهم المتخلفون ! والحكومات مرعوبة من هذا المد الكريه، وهى غبية فى قراراتها، إذ تجعل من التافهين أبطالا لهذا العصر !

ماض منفتح وحاضر منغلق
نسأل أيضا : لماذا هذا الارتداد الفكري والارتكاس الثقافي اليوم ؟ ومجتمعاتنا تواجه مدا صاعقا يتسلط من خلاله المشعوذون والجهلة الذين لم يكتفوا بتسويق بضاعتهم باسم الدين، بل إنهم يجهرون على الملأ ضد التاريخ وتشويه حقائقه، والنيل من رموزه، وقتل كل القيم العلمية والأخلاقية! إنهم لا يؤمنون بأي علوم ولا بأية فلسفات، ولا يعرفون أية مناهج في التقويم، كي يقولوا ما لهم وما عليهم.. ولم يسمحوا للعلماء والمفكرين الأحرار أن يحددوا مواطن القوة والضعف.. إنهم قد تجاوزوا كل الحدود، ليبثوا سمومهم وقناعاتهم البليدة ضد الحياة.. إنهم وجدوا الساحة لهم وحدهم، ليبشروا بالانقسامات وتوظيف خطايا التاريخ من أجل أهداف فاضحة.. إنهم مدعومون من حكومات وأجهزة، وممولون، كي يقتلوا كل روح علمية، وكل مفاهيم إنسانية.. إنهم يريدون إشعال النار لحروب عرقية وطائفية ودينية باسم سياسات ومبادئ عفا عليها الزمن.. إنهم لا يؤمنون بأن الحياة لها إيجابياتها وسلبياتها، وللتاريخ منجزاته وأخطاؤه.. إنهم لا يؤمنون بالقطيعة مع تاريخ مضى، كي تتشكل الحياة الحديثة على ضوء تجارب علمية وصريحة، بل يتشبثون بكل الخطايا في الضد منها أو للتصفيق لها ! إنهم لم يكتفوا بالنيل من رجال الفكر والنهضة والعلم، بل راحوا يشتمون كل الرموز.. من دون أن يوضحوا إيجابياتهم ومثالبهم معا ! إنهم لم يكتفوا بما يكتبونه من الغثاثة والتفاهات، بل راحوا يذيعون قناعاتهم في الفضائيات أو على صفحات الإنترنت واليوتيوب ! لم يكتفوا بشتم شعراء ورواة وقصاصين ومتصوفة وفقهاء ومتكلمين ومغنين وفلاسفة قدماء ومحدثين، بل راحوا يشتمون خلفاء وصحابة وأمهات مؤمنين؟ هل عدم التراث العربي والإسلامي كله على امتداد تاريخنا الحضاري وسلاسل أجيالنا من نماذج متعددة وتسميات متنوعة تتوزعها عشرات، بل مئات من أمهات الكتب وهى تتضمن ترجمات ورحلات وشروحات وأفكارا وفلسفات ومفاهيم ونظريات.. حتى نشطب على تاريخنا بسهولة، وكأننا مجتمعات عاشت متناحرة لا تعرف إلا شريعة الغاب ؟ كأن مجتمعاتنا لا تعرف إلا الهمجية، ولم يمثلها إلا الرعاع؟ كأنها لم تنجب الزهاد والمتصوفة والمتبتلين.. وكأن لم يولد في أعماقها المصلحون والمفكرون والشعراء والفنانون؟ كأنها لم تعرف التعايش يوما، وقد امتدت بثقلها عبر مئات السنين في مدنها العريقة وأسواقها الثرية وعلاقاتها المسالمة كأنها لم تعرف المعاني الإنسانية، ولا العشق والهيام والحب.. ولا حتى التجليات الروحية ؟

هل من رؤية جديدة ؟
كم أتمنى لو كان بيننا اليوم رجال أمثال : الزهاوي والرصافي وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومارون عبود وعباس العقاد وأحمد أمين ولويس عوض ومصطفى عبد الرازق وعبد الرزاق السنهوري وغيرهم من المثقفين الحكماء الأقوياء ليسمعوا ويروا ما حل بمجتمعاتنا وثقافتها من بعدهم، وخصوصا عندما استباح ميادينها الجهلاء، وانفلتت الأمور في الثلاثين سنة الأخيرة من عقالها، بحيث لم تعد الناس تحترم التخصصات، واستغلت الظروف التي تمر بها الحياة اليوم، لكي يفتى كل شخص حسب مزاجه ويحلل ويحرم حسب هواه.. وسيبقى الأمر سجالا بين المثقفين الحقيقيين وبين المنغلقين الخياليين، خصوصا عندما بدأت تتأسس في تفكير مجتمعاتنا منذ قرابة ثلاثين سنة : آليات وعناصر ووسائل غريبة في قمع الثقافة والفنون، والتنكيل بتراث ضخم، والجهالة بالتواريخ.. والمصيبة أن يتم كل ذلك دون أي اكتراث للزمن، ولا أي احترام للتاريخ، ودون أي توازن ووسطية بين الدين والدنيا، وبين الواقع والمثال، وبعيدا عن أي منهج علمي ونقدي لدراسة النصوص وتوظيفها.
إنه للأسف الشديد تأسيس غبي لا يقتصر على اقتحام ما يكتبه المعاصرون من نصوص، بل يحاول البعض من خلال توظيف بعض نصوص الدين، إثارة النعرات وتهشيم القيم، وتوظيف النصوص في السياق المطلوب، وإسكات من يعترض إلى الأبد، ومهاجمة كل رموز اليوم مهاجمة رخيصة ! ولكن هيهات أن يحدث ذلك، فهذه الفيروسات سيكون مصيرها الزوال ولو بعد حين.. إن التاريخ سيعيد توازنه من جديد عاجلا أم آجلا، وستدرك مجتمعاتنا في يوم من الأيام كم ضيعت من الزمن، وكم صرفت من الأتعاب، وكم تلفت من الجهود.. وكم ساهمت في خلق تناقضات لا حصر لها ضد بناء مستقبلها.
إن ما نشهده اليوم من هجمات تنكيل، يشكل آلية غير مسبوقة في القمع والإرهاب الفكري على امتداد تاريخنا، خصوصا أنها ترتدي زى المتعبد الناسك الذي يريد أن يصف أحجار الحياة ويلونها على مزاجه، والحياة متعددة الألوان ومتنوعة الأغراض والمشارب والصنوف والاتجاهات. إن الأمر مفجع عندما يتحول من مجرد شعارات فئوية سقيمة إلى قرارات حكومية نافذة، فهذه السلوكيات التي انتقلت من طور المنغلقين على ذاتهم في أقفاص المجتمع إلى قرارات حكومية في بلاد لها تاريخ اجتماعي وحضاري حافل. يبدو الأمر خطيرا، إذا ما ضاعت الدولة ولم تعرف كيف تعالج الأمور بحكمة متناهية، وهى تمنح كل الجناة شهادات حسن سلوك ! والمشكلة أنها لم تدرك أبدا أنها بعملها هذا إنما تزيد من وتيرة التخلف وهول التناقضات، بل وستقف مجحفة ليس ضد جيل كامل، بل ضد سلاسل الأجيال القادمة.

نشرت في مجلة روز اليوسف ، العدد 4297 – السبت الموافق – 16 اكتوبر 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …