ما كان ليحدث كل هذا في العراق ، لو كانت العملية السياسية الحالية ، وطنية ونظيفة في أسلوب الحكم والطرائق ، وبعيدا عن بنود دستورية لا تستقيم والديمقراطية التي لا يؤمن بها ، بل ويجهلها اغلب العراقيين ! إن الأجندات الخفية المتحكمة في مسيرة الحياة السياسية العراقية اليوم ، سوف لن تخرج العراقيين من مأزقهم التاريخي الذي يأمل البعض انه مجرد عنق زجاجة ، ولكن هناك بعض آخر يعتقد أن حبل مشنقة قد التف حول رقبة العراق ، منذ أن كّبل العراقيون أنفسهم ببنود دستور صنعته قوى سياسية معينة ، ولم تصلّح تلك ” البنود ” منذ أكثر من أربع سنوات . وهي نفس القوى التي كانت وستبقى في الحكم ، إذ لم يتوفر حتى الآن ، البديل الحقيقي الذي يمكن التعويل عليه ، مختلفا تماما عن أسلوب النظام السابق ، وعن أسلوب النظام اللاحق ..
إننا نسمع من يدعو البرلمانيين الجدد إلى ” ضرورة تغيير بعض القوانين التي أصبحت لا تتلاءم والتطور الذي تمرّ به البلاد ” ، ولكن دون أن يفصح عن أية قوانين تلك ، وعن أي تطور سياسي قد حدث في البلاد ، باستطاعتنا القول انه منقذ للبلاد والعباد من مأزق تاريخي ينقسم العراقيون بشأنه إلى قسمين أثنين ، أولهما متفائل كالعادة بصعود واحد من الأسماء التي سيتفق عليها أولا ، ثم يتم جمع الأصوات في البرلمان عليها ، كي يخرج العراق من عنق الزجاجة ، كما يعتقدون ، لنكون كما كّنا ، لأربع سنوات قادمة . وثانيهما متشائم جدا كالعادة ، كونه يعتقد أن العراق قد التف حول رقبته حبل مشنقة .. وبالتالي فهو ينفي وجوده ، وعلى الناس أن تنسى شيئا اسمه العراق !
فما الذي يمكن عمله إزاء أهواء وصراعات لقوى وأشخاص .. لم يفكّروا أبدا في ما يمكن عمله لبلد محطم ومحتل وبحاجة إلى مشروع وطني حقيقي لا مزيف ، وبحاجة إلى جملة هائلة من الإصلاحات ، وبحاجة ماسة إلى إن يكون مستقل الإرادة وديمقراطي المسار معا ؟ وما العمل إزاء عراقيين لم يؤمنوا حتى اليوم بمسارات التغيير ؟ وكيف يقتنع كل العراقيين أن العراق لا يمكن التعامل معه بالأساليب التي حكمته في القرن العشرين ؟! إن العراق يحتاج لمشروع وطني حقيقي ، يخرجه بالضرورة من عنق الزجاجة ، ويبعده تماما عن حبل المشنقة التي يعدّ لها كل الأعداء ! إن غيبوبة العقل عند هذين الطرفين المتصارعين ، ستبقى العراق أسير هذا ” الصراع ” الذي تنفذه قوى سياسية معينة ، ويخطط له من له القدرة على تحريك تلك ” القوى ” هنا أو هناك ! إن ارتهان الإرادة العراقية في يد هذا الطرف دون ذاك ، والتحسّب لما يريده هذا أو ذاك في الإقليم .. أو كما تريد رسمه والتخطيط له الولايات المتحدة الأميركية .. سيبقى الوضع على ما هو عليه في العراق ، دون أن يتقّدم خطوة حقيقية إلى الأمام .
إذا كان مجرد تكوين حكومة سيأخذ عدة شهور ، كما حدث في الدورة السابقة ، وكما سيحدث في مرات أخرى ، فان الحياة السياسية والإدارية العراقية ، ستبقى معطلة أو شبه معطلة ! إن بقي العراقيون ينتظرون هذا الانتظار الممل لتأليف سلطة سياسية ، فكم من الزمن هم بحاجة إليه كي تلتفت تلك الحكومة أو السلطة لتصريف شؤون البلاد ، وحل مشكلاتها ، وتطوير مرافقها ، والتخطيط لما سيأتي به المستقبل ؟؟ إن بقاء القوى السياسية الحالية تتصارع حول دست الحكم ، ليس فقط من اجل مصالح شخصية أو ذاتية ، بل لترتيب أولويات وأجندة طائفية أو قومية أو إقليمية ، سيدفع في اتجاه انشداد الحبل حول رقبة العراق ، ولا يدفع بخروج عنقه من الزجاجة ، كما يريد ذلك العراقيون ، فالشعب العراقي قد ملّ من الانتظار الطويل وهو يأمل خيرا من هذا أو من ذاك ! وإذا كان قد اندفع في اتجاه اختيار هذا دون ذاك ، فهو مضّيع الإرادة الوطنية ضمن عملية بلا مبادئ ! وبالرغم من ذلك كله ، فهو ينتظر أي توزيع عادل للثروة ، ويأمل بشراكة حقيقية في السلطة ، ويتمنى أن تنقذه حكومة مخلصة تراعي الخدمات ، وتبني ، وتعمل من اجل الصالح العام ، وتخلق فرص العمل لملايين العاطلين .. وكله لا يتوفر إن لم تكن هناك إجراءات صارمة من اجل الأمن والاستقرار ، وضد كل الفساد المستشري في كل مرافق العراق ..
ان ما يحتاجه العراق اليوم وغدا هو اكبر من تنازلات أو توافقات .. وليس المهم الإسراع بتشكيل أية حكومة ، ولكن المهم ما نوعيه تلك الحكومة ؟ ليس المهم أن يجمع البرلمان الجديد الأصوات لهذا أو ذاك ، بقدر ما يعمل لإحداث تغييرات دستورية مطالب بإجرائها منذ سنوات ! ليس المهم أن يتم الإصرار على يحكم هذا ( المكون ) لا ذاك ، كما نشهد اليوم ، بل المهم البدء في أي مشروع وطني ، لا يصادر من قبل طائفة معينة ، ولا من قبل إقليم معين ، أو دولة مجاورة .. ولا من قبل حزب سياسي واحد ، ولا من قبل دكتاتور صغير أو كبير كالذي يطالب به اليوم بعض العراقيين ! ليس المهم المضي في الإجراءات القانونية للتأكد من نزاهة الانتخابات ، فالشعب ينتخب ثم يندم على ما صنعه بعد أيام ، بل المهم أن تتم محاسبة كل المقصّرين ، وان يمثل أمام العدالة كل الفاسدين والمفسدين بعد أن ترفع كل الحصانات عنهم ، دون أن تشفع لهم أية ضمانات . عندما يحدث ذلك ، سنصفق للخروج من عنق الزجاجة !
نشرت في البيان الإماراتية ، 2 حزيران / يونيو 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …