عدّت زيارتها الأولى، ظاهرة فنية واجتماعية وثقافية معا، إذ إنها أثارت قرائح الشعراء العراقيين، فنظموا القصائد، وكتبت المقالات في مدحها، وبقيت حديث المجتمع البغدادي لفترة طويلة، وهى تشّنف الآذان من خلال الكرامافون الذي كان قد انتشر في المقاهي والبيوتات البغدادية.. ولعل من أشهر الشعراء والأدباء الذين مدحوها : محمد رضا الشبيبى وجميل صدقي الزهاوى ومعروف الرصافى ومحمد بهجة الأثري وإبراهيم أدهم وغيرهم.. لقد حياها الزهاوى بقصيدة على مسرح الهلال يوم 15 نوفمبر 1932 بقوله :
الفن روض أنيق غير مسؤوم وأنت بلبله يا أم كلثوم
بعد استراحة قصيرة غنت «سلوا كئوس الطلا» على مدى ساعتين، وغنت «غنيلى شوى شوى»، وأغنية «وكل الأحبة اتنين اتنين» لقد صدحت ما ينوف على الثلاث ساعات، وهى تغنى أجمل وأصعب القصائد والأغاني وتقود الفرقة الموسيقية وتتنقل في عالم الأنغام من دون أي خطأ أو تحريف. وامتدت الحفلة حتى الساعة الثالثة صباحا.. وكانت الست وحدها نجمة الحفل حتى آخر الليل، وقد لوحظ أن الملك الطفل وخاله الوصي على عرشه قد تأخرا قليلا، إذ خرجا يطوفان أرجاء بغداد ليشهدا فرحة الناس بأم كـلثوم، فلـما عـادا قــال الأمــير عبد الإله : لو أنى وزعت على كل عراقي كيسا مملوءا بالذهب، لما استطعت أن أدخل هذا السرور على قلوب أهل العراق.
أصبح الصباح، فإذا بأم كلثوم فى ريجنت بالاس، مليكة الفن وجموع الشعب والهيئات الفنية والمعاهد بأعلامها تهتف لها ولمصر في طرقات بغداد والكبراء والعظماء ورجال الصحافة يتوافدون على الفندق لتحيتها. وقبيل الظهر اتصل بها القصر الملكي «تلفونيا»، لتجد الطفل فيصل الثاني على الخط يثنى عليها قائلا : ” سّتي نحن في انتظارك على الغداء”!
وتناولت طعام الغداء على المائدة الملكية، حيث قال لها جلالة الملك: أنت كنت الليلة زينة أكثر مما سمعتك في الإسكندرية. وبعد ظهر اليوم نفسه، حضرت أم كلثوم حفل استقبال من قبل السيدة حرم الباشا نورى السعيد في دارها، حضرتها صفوة سيدات العراق، فما أن دخلت عليهن حتى قوبلت بعاصفة من التصفيق واحتفى بأم كلثوم.. حتى أذن ببدء الحفلة الساهرة التي أقامها وزير مصر المفوض في العراق بدار المفوضية المصرية، وشرفها الأمير والوزراء ورجال السلك السياسي ووجوه القوم، وقد أعد بدار المفوضية جناح خاص لجلالة الملكة الوالدة وصاحبات السمو أميرات العراق وكرائم العقيلات.
في فجر 14 يوليو 1958 استيقظ العالم على انقلاب عسكري ببغداد، ولحقت به ثورة شعبية عارمة أبيدت خلالها الأسرة المالكة كلها: الملك وخاله عبد الإله وجدته الملكة نفيسة وخالته الأمير عابدية وكل الحاشية والخدم.. تتابع الأميرة بديعة كلامها قائلة: «كان من المقرر أن تغنى أم كلثوم في حفلة زواج الملك فيصل الثاني عام 1958 وقد وعدتنا فعلا، غير أنه قتل قبل أن يزف إلى عروسه، ولم تسأل عنا أم كلثوم بعد مقتله، ولم تتابع أخبارنا بالرغم من أننا قضينا فترة من حياتنا في مصر بعد الانقلاب. ربما أتلمس لها الأعذار، في أنها لم تعزني بمقتل صديقتها أختي الأميرة عابدية، رغم أنها لا تستحق ذلك..” .
نعم يتلمس العراقيون لأم كلثوم الأعذار كونها واقعة تحت ضغوطات الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان عدوا للعائلة المالكة العراقية . كانت أم كلثوم قد غنّت ( أنشودة بغداد ) قديما للعراق ، ولكن بعد تغيير النظام الملكي ، فلقد غنت أم كلثوم لثورة العراق وبغداد العهد الجمهوري أحلى أغنياتها القومية مباركة التغيير الذي حصل في العراق عام 1958 من خلال «ثوار ثوار لآخر مدى» وقصيدة «بغداد يا قلعة الأسود يا كعبة المجد والخلود ».. الخ من الأغنيات التي كانت تصدح عبر الإذاعات ليل نهار، واتخذت الحكومات الجمهورية موسيقاها عزفا لتقديم الأخبار عبر الراديو والتلفزيون ردحا طويلا من الزمن ! وتلفت أم كلثوم النظر حقا، عندما تزور سوريا والسودان والمغرب وتونس والكويت وغيرها من البلدان العربية، ولكنها لم تعد لزيارة العراق أبدا طوال العهد الجمهوري الذي غنت لثواره من الضباط الأحرار.. وأنها لم تقتصر على مباركة ثورة 1958 ضد الملكية التي احتفت بها احتفاء عظيما، بل باركت أيضا انقلاب البعثيين على حكم العسكريين والزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 فغنت لهم أيضا ! لقد كانت هناك أغنية أخرى للعراق غنتها أم كلثوم من تلحين الموسيقار رياض السنباطي يقول مطلعها :
شعب العراق الحر ثار وعلى العراق طلع النهار
أعتقد أن السيدة أم كلثوم – رحمها الله- لم تتنكر لجميل ملوك العراق، بقدر ما كانت خاضعة لظروف مصر الرئيس جمال عبدالناصر الذي اعتبرته رائدا وبطلا وغنت له.. كما كانت قد مدحت وغنت للملك فاروق من قبل ! ويعّلق احد المسؤولين العراقيين القدامى الذين شهدوا قوة العلاقة بين أم كلثوم والبيت الهاشمي الملكي الذي حكم العراق ، ومدى احترام ذلك البيت لها .. إنها طوال حياتها ، كانت تفخر بالأوسمة التي منحها إياها ملوك ورؤساء عرب ، ولكنها لم تذكر يوما وسام الرافدين العراقي الذي منحها إياه الأمير عبد الإله ، بعد أن صدر تشريع خاص يخولّه بمنحها لها ذلك الوسام كونها امرأة ، وكان يمنح للرجال فقط ! ويبدو أن أم كلثوم كانت تراعي ظروفها كاملة ، كي تحافظ على مكانتها قبل أية اعتبارات أخرى ! ولكن ينبغي أن اذكر للتاريخ إن حبّ العراقيين لأم كلثوم وصل إلى حد تأسيس مقاهي باسمها ، وأشهرها مقهى أم كلثوم الشهيرة بشارع الرشيد ببغداد التي استمرت عقودا من السنين لصاحبها السيد عبد المعين الموصلي الذي جمع ثروة نادرة من تسجيلات أم كلثوم الصوتية الكاملة ، ولا يضاهيه أي أرشيف غنائي لأم كلثوم أبدا ، ولا ندري ماذا حلّ بذلك الأرشيف النادر لأعمال كوكب الشرق أم كلثوم . رحم الله السيدة أم كلثوم، فلقد كانت كوكبا مضيئا وضيئا في عالمنا.. وكان دورها ناصعا في جمع الكلمة، وكانت مبدعة كل الإبداع.. وستبقى ذكراها وكل إبداعها ذخيرة حية على امتداد التاريخ؟
نشرت في روز اليوسف المصرية ، العدد 4275 – السبت الموافق – 15 مايو 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com