يبدو واضحا من خلال عملية الانتخابات العامة التي جرت في العراق مؤخرا ، أن العراقيين تقدّموا خطوات واسعة للأمام ، مقارنة بما كانوا عليه في تجربة الانتخابات السابقة . ورغم كل الهنات والأخطاء الإجرائية ، ورغم كل الأمراض السياسية ، وغيبوبة الإصلاحات الدستورية التي وعد بها كل العراقيين .. ورغم بقاء الانقسامات السياسية والاجتماعية التي فّتت في عضد المشروع الوطني حتى اللحظة ، إلا أن زحف ملايين العراقيين إلى صناديق الاقتراع ، لاختيار خارطة طريق جديد لمستقبلهم .. وما حصلنا عليه من نتائج حتى الآن ، يمنحنا القدرة على القول أن العراقيين ، بشكل عام ، أدركوا كم الحاجة الملحة والضرورية لحياة سياسية جديدة ترعاها قوى وأحزاب مدنية ، وتختفي منها كل أشكال التحزبات الدينية والطائفية والشوفينية الفاشلة .. سعيا لتأسيس مشروع جديد ترعاه قيم وطنية ، ويكون بديلا عن كل التجارب الصعبة التي مرت بالعراقيين في نصف قرن مضى ، وبالأخص التجربة المؤلمة التي مروا بها على عهد الاحتلال .
إن تجربة انتخابات 2010 التشريعية ، ورغم اعتمادها دستورا نختلف مع بعض بنوده ، ورغم كل ما أشيع عن تزويرات وخروقات ، إلا أن مجرد زحف العراقيين لاختيار ممثليهم ضمن قوائم مفتوحة ، قد منحنا الأمل في أن الشعب العراقي لا يمكنه البقاء متقوقعا على نفسه . ولا يمكنه أن يستمع من دون أن يقول كلمته ، وانه قد تعّلم كثيرا من التجارب القاسية التي مرت عليه ، بكل ما تحمّله من فواجع ومآس . صحيح انه اليوم منقسم على نفسه طائفيا وقوميا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا ، جراء السياسات الصفراء التي مورست بحقه ، إلا أن الانتخابات الأخيرة أوضحت أن العراقيين يرفضون كل القوى السياسية التي جاءتهم بعباءة دينية ، أو بعمامة طائفية ، أو بأجندة شوفينية . لقد سقطت أسماء معينة بذاتها ، كونها لم تكن مؤهلة منذ البداية لأن تكون في أية سلطة تشريعية أو تنفيذية ! ولقد توّضح جليا أن إرادة العراقيين هي أقوى من كل من يريد أن يجعل العراق رهينة للمحتل ، أو ميدانا للفوضى ، أو ساحة للإرهاب ، أو مثوى للجهالة ، أو منطلقا للطائفية .. إن مجرد الوصول لتحقيق النسب التي أفرزتها الانتخابات في 2010 ، يكفي للقول أن العراقيين بدأوا يفكرون باختيار خارطة طريق لمستقبلهم ، وأنهم يرفضون رفضا باتا أي طريق آخر قد يأخذهم إلى الدكتاتورية ، أو يوصلهم إلى الفناء والعدم.
لقد علمتهم الريح الصفراء كثيرا ، وسحقهم الإرهاب طويلا ، وعرفوا أن بلادهم التي بقيت موحدة وعصية على الانقسام حتى الآن .. لا يمكنها أن تكون أبدا مستلبة ولقمة سائغة في أفواه الآخرين ، ولا يمكن أن تبقى مشاعا للفساد والمفسدين ، ولا يمكن أن تغدو مع توالي الأيام أوصالا مبعثرة ومتفسخة بأيدي الانقساميين . إن العراقيين ، بشكل عام ، ورغم انقساماتهم اليوم ، فهم بحاجة أساسية إلى مشروع وطني متمدن ، يجمعهم من خلال تشكيل حكومة ذكية وقوية ومدنية مهما كان نوعها ، إلا أنها تأتي وفي يديها برنامج واضح ، وخطط عملية لتحقيق الأمن في الداخل ، وللعمل من اجل تلبية ضرورات العراقيين الذين هرعوا بالملايين للتعبير عن إرادتهم .. وقالوا كلمتهم ، واختاروا من يرونه الأصلح لقيادة البلاد . وسواء كان هذا أو ذاك قد وصل من اجل مصالح ذاتية ، أو مكاسب مادية ، أو أهداف شخصية ، إلا أن المشكلة الآن ليست في الشعب الذي أدى مهمته ، بل المشكلة أساسا في القوى والأحزاب التي ستحكم البلاد لمرحلة مقبلة !
اعتقد بأن العراق سيمر في مخاض عسير آخر ، وهو يواجه تحديات من نوع آخر ، وأمامه خطوات صعبة أخرى ، ولكن العراقيين يطالبون بتحقيق الحدود الدنيا من فرص العيش الكريم ، والضرب بيد من حديد على كل المتجاوزين والمفسدين والقتلة والمجرمين .. ويطالبون أيضا بالتحقيق في كل ما ارتكب من جرائم ، وإظهار كل الحيثيات والأدلة ، ومحاسبة كل الذين تجاوزوا واعتدوا وكانوا من الآثمين . إنهم يطالبون أيضا بتعديل كل المواد والبنود التي تضمنها الدستور ، والتي وعد بتعديلها ولم تعدّل حتى اليوم ، كي تبدأ صفحة جديدة من حياة العراق المدنية . إن واقع العراقيين ، بكل تشظياته وانقساماته اليوم ، لا يمكن إصلاحه في سنة أو سنتين. انه بحاجة إلى بداية حقيقية يقوم بها قادة وإداريون اختارهم الشعب ليحققوا أهدافه ويصلحوا واقعه ويهندسوا حياته ، ويحققوا أحلامه .. وليس زعماء ليس لهم إلا التفرقة والطائفية والتحزب والتخندق والمصالح الخاصة .
لقد اختار العراقيون في تجربة الانتخابات الأخيرة ، طريقا جديدا لهم ، واختاروا ممثليهم بالأسماء ، وجسدوّا مطامحهم بمنطلقات مدنية لا غيرها أبدا . فمطلوب من الفائزين تجسيد إرادة شعبهم ، والاتفاق على نهج جديد للبلاد ، ومطلوب من كل نخب العراقيين التخفيف من غلواء الانقسام ، والخروج من أثواب التعصب ، والتوقف عن زرع الكراهية وبث الفتنة .. على من يتولى أمر العراق محاسبة نفسه قبل محاسبة الآخرين ، وعلى العراقيين أن يحترموا بعضهم بعضا ، بلا تنكيل ، وبلا تجريحات ، وبلا إقصاء ، ولا تهميش .. لتطوى ذكرى الماضي الكسيح ، وتراعى حقوق الجميع وواجباتهم .. وان يعالج الواقع القائم معالجات عملية ومدنية ، بلا شعارات طائفية ، أو مانشيتات إيديولوجية ، أو أكاذيب إعلامية . ربما لا يتفاءل البعض بالمستقبل ، ولكن دعونا نشعل شمعة لتنير الظلام ، كيلا يبقى العراق مزرعة للفوضى ، أو محرقة للأجيال القادمة .
نشرت في البيان الاماراتية ، 24 مارس / آذار 2010 ، ويعد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …