إن منطقتنا مجتمعة اكبر من حجم الولايات المتحدة ، واكبر من حجم أوروبا أيضا . تحيط بها البحار المهمة وتزدحم بالخلجان والمدن العريقة . مواردها كبيرة إن أحسنت أساليب إنفاقها ، ومجتمعاتنا حيوية وتمتلك تاريخا حضاريا مزدهرا في العالم . كان العام 2005 قد دق جرس إنذار صاخب ببلوغ عدد سكان هذه المنطقة 386 مليونا من البشر ، مع تناقص في معدلات النمو في الشمال الإفريقي مقارنة بارتفاعها في أماكن أخرى . ويتوقع العديد من الخبراء أن سكان المنطقة برمتها ، سيرتفع إلى 585 مليونا في العام 2030 . وعلى الرغم من بلوغ الدخل القومي الإجمالي 910 مليارات من الدولارات ، بفعل النفط والغاز عام 2004 ، مع متوسط دخل للفرد 360 ,2 من الدولارات ، وان ارتفاع أسعار النفط سيرفع الرقم إلى 1،710 مليارات دولار في عام 2030 ، ولكن ثمة توقعات من نوع آخر ، تقول بأن الإرهاب والحروب الباردة والأهلية والخارجية ، وسياسات الاحتواء ، والإنفاقات العسكرية والإعلامية وازدياد المافيات وتفاقم الفساد الإداري والسياسي والإعلامي .. الخ كلها ستسفر عن انخفاض في الدخل القومي الإجمالي *.
إن اغلبية مجتمعات المنطقة تتغذى على موضوعات غير واقعية وتشغل تفكيرها بتوافه الأمور ، وترّبي أولادها على قيم وسلوكيات لا تتفق والواقع وحياة العصر . كما أنها غير قادرة ـ كما يبدو ـ على تغيير رؤيتها للعالم ، وتظهر وكأنها منفصمة الشخصية عن هذا العصر . كما أنها غير قادرة على استيعاب مفاهيم عامة ، كالحريات والتمدن والقانون والثقافة العامة . إنها تتسلح اليوم برؤية خاطئة إزاء الحياة ، وتتصرف في كثير من قضايا الواقع على أساس الأحلام والأخيلة .. بل وتتغذى مع أجيال جديدة على مفاهيم خاطئة للدين والتاريخ والمستقبل والآخر .. إنها عادمة لنفسها بنفسها ، نتيجة ما تضيّعه من أزمان سدى ، من دون أي فعل حضاري حقيقي .
لقد حددت مشكلات المنطقة الجديدة حتى العام 2030 ، ومنها : الإرهاب ، والتعصب ، والفساد الكبير ، والدكتاتوريات ، والهجرات السرية ، والانقسامات الاجتماعية في المجتمعات المتنوعة ، مع الانتشار والتهديد للعالم . وضمن هذا السياق ، فان حلولا جاهزة ومعلبّة أثبتت التجربة أنها لم تنفع ، فمن غير المثمر المناداة بالديمقراطية لشعوب لا تعرف معناها ، ولا تتمثلها إلا في صندوق انتخابي ! وعليه ، تستوجب الضرورة إعادة تأهيل كامل للمجتمعات على مفاهيم التغيير والإصلاح تربويا وإعلاميا والاستفادة من تجارب العالم ضمن هذا السياق ، كما تم تنفيذه في مجتمعات أخرى نالها الخراب ، ثم استعادت طبيعتها . لقد أثبتت التجارب التاريخية ، أن التدخلات الخارجية سببت كوارث لمجتمعاتنا ، فكل مجتمع منها منشغل اليوم بملهاة أو مأساة ستأخذه حتما إلى الدمار من حيث لا يشعر . إن مجتمعاتنا الجميلة والمتنوعة ، لا تستحق كل ما جرى فيها من بوهيميا الخراب ، ولا تستحق ـ أيضا ـ هذه الحياة التعيسة التي تثوي فيها ، وهي لم تزل منغلقة ومكبوتة وضائعة ، ونخشى على مستقبلها القريب كيلا تعيش مآسي جديدة من دون أن تجد طريقا جديدا تنطلق فيه نحو المستقبل .
وأخيرا ، دعوني أقول بان الدعوات للإصلاح والتغيير ، لابد أن تبقى مهما تجاهلتها نظم الحكم ، والرد القوي على من يشيع أن تلك الدعوات لم تعد تنفع . إننا لسنا هنا في معرض لتقديم وصفات علاجية سريعة ، كما يفعل بعض الطارئين على المنطقة من الذين لا يدركون فحوى مشكلاتها الصعبة ، ولا يفهمون طبيعة مجتمعاتها .. ولكن ليس هناك من سبيل إلا العمل على تأسيس خطوة جادة على طريق طويل ، يختزل بتبديل السياسات الداخلية وتغيير المناهج الدراسية وتطوير الإعلاميات ( وخصوصا المرئية منها ) وقبل هذا أو ذاك ، العمل على أن يكون المشروع مشتركا بين الدولة والمجتمع ، مع تجسير العلاقة بين المسؤولين والمثقفين ، وتشجيع أي تجربة ناجحة تكون نقطة مضيئة وضيئة على طريق المستقبل .
* ( لقياس معايير الجودة انظر جداول وإحصائيات البنك الدولي : www.worldbank.org / وبصدد بيانات إحصائيات السكان عن الأمم المتحدة : www.un.org/esa ).
نشرت في البيان الاماراتية 10 فبراير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com