دوما أقول أن حياتنا العربية المعاصرة بدأت مع العام 1909 .. وها هي ذي مئة سنة رحلت عنّا مع 2009 . مئة سنة رحلت من الزمن المتاح والطاقات الجديدة والوسائل الممكنة والثروات الطائلة التي ذهبت هباء منثورا ، لأن اغلب مجتمعاتنا القديمة لم تستقم وكياناتنا الجديدة ؟ مئة سنة مرت ولم نعرف كيف نتعلم من مستويات بعضنا الآخر .. مئة سنة مرّت ولم نعرف حجمنا وقدراتنا إزاء الآخرين .. مئة سنة مرت وسياساتنا وثقافاتنا ، تتقاذفها رياح حربين ساخنتين وحرب باردة بين معسكرين عالميين .. مئة سنة مرت وقد عجّت بالانقلابات والاضطرابات السياسية والانقسامات وحرب الإذاعات والحروب الفاشلة مع إسرائيل .. مئة سنة مرت ولم نعرف كيف نعالج قضية فلسطين التي غدت قضية شرق أوسطية ! مئة سنة مرت ولم نحاول ولو لمرة واحدة أن نغّير مناهج تربوياتنا ولا قوانين مؤسساتنا القضائية . ولا تطوير أحوال خدمات مجتمعاتنا وبلدياتنا ( باستثناء تجربتين أو ثلاث ) .. مئة سنة مرت ولم نسمع إلا الأقوال والخطابات والشعارات والمصطلحات المستوردة .. بل ونقرأ ونسمع تنظيرات فارغة عن أفكار وأيديولوجيات يستحيل تطبيقها على أوضاعنا .. مئة سنة مرت وقد دفعت أحزابنا وتياراتنا السياسية العديد من أبنائها قرابين وضحايا ، ذهبت دماؤهم هدرا ، ناهيكم عمّن عّذب في السجون والمعتقلات ، أو من شرّد وهجّر إلى الشتات ! مئة سنة مرّت بكل انقلاباتها وثوراتها وحركاتها ، والحياة لا تنتقل أبدا نحو الأحسن .. بل انتقلت اليوم نحو التوحش . لقد تبين اليوم أن ليس لكل ما رفع من شعارات ومانشيتات .. أية مضامين حقيقية لدى كل من حملها وتاجر بها من اجل السلطة والقوة والمال والنفوذ .. الخ وأتمنى أن لا يخرج علينا من يتهمنا بجلد الذات وهو غارق في غيّه وجهالته التي يتنّعم بها ، ولا يدري من أمر التحولات شيئا ، وليس له الا سذاجته التي لا يعلل من خلالها الاوضاع الا برمي كل الأسباب على الآخرين وما فعلوه بنا .
مجتمعاتنا اليوم تعيش ، ويا للاسف الشديد ، مرحلة عتمة فكرية ، وتشوش ذهني ، وهزال ثقافي ، وانقسامات اجتماعية ، وانعدام ارادة سياسية .. كي تدخل مرحلة توحش حقيقي ، ولم تزل مجتمعاتنا تسحب مشكلات الماضي إلى حاضرها ، كي تزيد من تناقضاتها ! لقد أصبحنا أسرى لها وستنقلنا إلى الزمن المتوحش الذي تفتقد فيه كل المعايير وكل ما تبقى من قيم وثقافات ! إن مجرد كوننا مجتمعات مستهلكة غير منتجة لأغذيتها ، فسنكون عالة متطفلة على الآخرين ، إذ ليست كل مجتمعاتنا غنية تبيع البترول . وسيزداد حجم التناقضات في ظل تفاقم أحقاد وكراهية شعوبنا مقارنة بما كانت عليه في الماضي القريب ، وخصوصا بعد أن انعدمت الثقة بين دولنا ومجتمعاتنا معا ، وهي تنتمي إلى منظومة عتيقة تبدو بائسة ، اسمها ” جامعة الدول العربية ” . هذه ” المؤسسة ” التي باتت ميتة لا حراك فيها في ظل التوحش العربي .. بل وستموت عاجلا ام آجلا بسبب ما تتبعه من أساليب بالية لم تعد تجدي نفعا في مثل هذا العصر !
ولقد ساهم الإعلام ولم يزل في إشاعة التنكر والكراهية بين هذا وذاك ، فضلا عن إثارة دعاوى أيديولوجية مذهبية وطائفية وسياسية وإعلامية .. إنها لم تزل تعاني من شقاء العنصرية والشوفينية وتهوى الانفصالات بديلا عن التكتلات ، فضلا عن السياسات الغبية التي خلقت طوابير خامسة وسادسة مضادة في دواخل مجتمعاتنا .. إن أمثلة متعددة اليوم تشهد على عظم المأساة ، وأخشى أن تنسحق مجتمعات المنطقة بالكامل كما حدث في أكثر من بلد . المشكلة الحقيقية اليوم أن نمضي نحو الزمن المتوحش بإرادتنا ، كوننا تركنا مرحلة الشعارات ودخلنا مرحلة الهذيان ! فهل من هزة سوسيولوجية هائلة أو صدمة فكرية كبرى تنقذنا من هذا الاستسلام وتخرجنا من الهذيان ؟ بل وتجعل مجتمعاتنا تدرك أي نوع مدمّر تمارسه من الغيبوبة ؟
إن الماضي مسيطر علينا ، وقد غدا مقدسا في عواطفنا بعد أن كان مجيدا في عقولنا ، فهو اليوم ، فوقنا دوما وليس من السهولة جعله يتساوق معنا اليوم ليمشي وراء الحاضر من اجل المستقبل .. إن متغيرات هذا العصر لا نجدها في كتب الماضي . وعليه ، فلابد من حصول إدراك متبادل بين مجتمعاتنا ومتغيرات العصر ، فالماضي سوف لا يطعمنا أو يسقينا وهو لا ينقذنا ولا يحيينا .. قد يحفزنا ويعلمنا .. يرشدنا ويهدينا ، ولكن أن يصبح دكتاتورا علينا ، فهذا ما سيضرنا كثيرا ، خصوصا إذا اختلطت مثالبه مع صوالحه في الأذهان .. إننا لا نعالج الأمر ، بأن ننفي دراسة التاريخ وتدريسه في مدارسنا وجامعاتنا ، بل ينبغي معرفته لا للاندماج معه ، بل للاستفادة منه ! إن أحياء اليوم لا تنقذها عظام الماضي ، وأجد من يؤمن بذلك إيمانا جارفا من دون أي شعور بما سيؤول إليه المصير .. ولا اعتقد أن أحدا سينتقدني إذا وجدني انتقد بعد مئة سنة من التحولات ما نجده من غرائب تعويذات ، وتقديس أضرحة ، وبكائيات مولولين ، وثارات ماضويين ، ورقص مشعوذين ، ومواعظ دجالين ! هناك من يختزل حياته بهذا من دون أن يعلم أنها بحاجة إلى فقه جديد ومصالح مرسلة جديدة .. بل والى تغيير جوهري كبير .. والفرق كبير بين انقسامات فرق الملل والنحل في مجتمعاتنا وبين تجليات فلسفتنا وترجماتنا وعلومنا وآدابنا في تاريخنا !
ما العمل ؟
لا يكفي أن ندرك أين هو إيقاع العصر ، وليس لنا أن نردد معه ، أو نرقص على وقعه كما حدث في القرن العشرين .. علينا أن لا نضحك على أنفسنا ونتوهم الأخيلة حقائق .. ليس مطلوبا منّا أن نتواطأ مع الأفكار المضادة لنا ، ولكن المطلوب منّا أن نتعّرف عليها لنجادلها ونحاور أصحابها من موقع القوة .. ليس مطلوبا منّا أن نصفق للإصلاح ولا نفعل شيئا ، ولا نغّير شيئا ! ليس مطلوبا منّا أبدا أن نبقي الأجيال الجديدة تعيش نفس ما عانينا من مسلسلات وكوارث ونكبات ! ليس مطلوبا أن تبقى كل موجودات القرن العشرين تسري في أعضائنا ، ولا أن نبقي أفكاره وشعاراته تلغي وجودنا .. ليس مطلوبا بعد اليوم أن تبقى المدارس ورياض الأطفال وحتى الجامعات كسيحة في تربية أجيال جديدة لها القدرة على التغيير من خلال تحرير التفكير من انغلاقاته ، والأذهان من جمودها وتراكيبها .. ليس مطلوبا منّا أن نبقى كما نحن اليوم ، فذلك ليس تهميشا لنا فحسب ، بل عزلنا وإنهاؤنا ، بل علينا التغيير لمزاولة تفكيرنا على حلبة الحياة القادمة .. والتغيير صعب ولكن من السهولة أن يبدأ من حيث يقبل أي واحد منّا بالآخر .. التغيير هو العدو اللدود للمحافظين على القديم البالي ، ولكنه أيضا ليس مجرد مبادرة عادية لفنتازيا أمريكية يصفق لها المهرجون !
نشرت في البيان الإماراتية ، 20 يناير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
اللوحة المرفقة للصديق الفنان التشكيلي محمد سامي .
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …