القسم الأول
نصف قرن على مأساة الموصل
8 آذار / مارس 1959
نظرا لما يسود من صمت وخفايا حتى يومنا هذا على ما حلّ بالموصل من انقسامات ومآس وكوارث وصراعات منذ بدء الحكم الجمهوري في العراق في 14 تموز / يوليو 1958 حتى يومنا هذا ، فقد وجدنا من الضرورة البدء بهذا ” المشروع ” ، ودعوة كل من يمتلك أية معلومات أو أوراق أو صور وشواهد عن أحداث الموصل المأساوية عام 1959 وما سبقها وما تلاها .. يمكنه ان يشارك بها ضمن هذا ” المشروع : المفتوح لذاكرة تاريخية عراقية . لقد اخترنا ان يكون هذا ” الموضوع ” عن مأساة الموصل ، بداية أولى بعد مرور نصف قرن على الاحداث المريرة التي عاشتها .. ومن اجل تصويب بعض المفاهيم والمعلومات والافكار والآراء لكل الاطراف وعند كل ابناء العراق ، كي لا يتهم هذا الطرف ذاك بما حدث من دون كشف الحقائق الموضوعية بكل امانة وحيادية عن كل الفرقاء .. فضلا عن ادراك طبيعة الظروف الاجتماعية وحقائق تاريخ الصراع وعوامله واسبابه ، بعيدا عن الاهواء السياسية والجهوية والايديولوجية التي كانت ولم تزل احدى اسباب دمار العراق .. ان هذا ” المشروع ” سيعمل على حفظ ذاكرة تاريخية لم تزل حية ترزق ، قبل ان يرحل شخوصها رحلتهم الابدية الى رحاب الله .. يأتي هذا ” المشروع ” خدمة للمعرفة التاريخية العراقية وللاجيال القادمة كي تعرف كل التفاصيل .. ولكي نتعّرف على جذور كل النتائج والتداعيات التي تركتها تلك الايام . ان هذا ” المشروع ” سيستقبل اية معلومات ، او تفاصيل ، او ذكريات ، او شواهد ، او اوراق ، او صور عن هذا ” الموضوع ” بالذات ، وبكل دقائقه وظروفه .. من اجل توثيقها جميعا باسم صاحبها او مرسلها دون أي تغيير ، راجيا أن تكون مطبوعة على الكومبيوتر ، وستنشر كما هي بإشراف هيئة من المؤرخين المختصين .
الموصل القديمة
كنت قد نشرت مقالا في شهر آذار / مارس 2009 لمناسبة مرور نصف قرن بالضبط على الأحداث التاريخية المأساوية التي حّلت بالموصل في شهر آذار / مارس 1959 ، التي أسميت بثورة الموصل ، او بحركة الشواف والتي اندلعت يوم 8 منه .. وكان عنوان المقال : ” التاريخ الصامت لم يكتب بعّد : خمسون سنة على أحداث الموصل المأساوية ” ( الزمان ، 15/ 3/ 2009 ) ( تجدون نسخة منه في أدناه ) . وازعم أنني سجلت جملة من الملاحظات التاريخية على تلك الأحداث التي لم تزل تثير جدلا واسع النطاق بين الفرقاء السياسيين منذ ذلك الوقت حتى اليوم .. وكنت أتمنى أن تقرأ أحداث الموصل الدموية بتفصيلاتها الواسعة لما قبل 8 آذار / مارس 1959 وما بعدها باهتمام كبير ، كما حدث مع ثورة 14 تموز 1958 ، ولكن هذا لم يحدث ويا للأسف ، إذ لم تزل الذاكرة صامتة حول الموصل . إن ما حدث بعد 14 تموز / يوليو 1958 يعد كله من نتاجها وافرازاتها .. إن خمسين سنة مضت على تلك الأحداث ، ولم أجد حتى الآن أي اهتمام يذكر بكل ما حدث ، ليس بسبب ما حدث من تعتيم رسمي وحكومي مقصود عبر أكثر من أربعين سنة فقط ، بل أيضا لأن كل القوى السياسية والاجتماعية التي ساهمت في إذكاء تلك الحرب لم تزل ثابتة عند مواقفها ، إذ كل يدافع عن دوره من شتى المنطلقات من دون أية حيادية .. وهذا ما وجدته من ردود وردتني بعد الذي نشرته قبل أشهر مضت ! إنني اسميه حتى يومنا بـ ” التاريخ الصامت ” الذي لم يفصح عن حقائقه كلها .. صحيح أن هناك من كتب بعض ذكرياته عن الأحداث التي شهدها أو ساهم في صنعها ، ولكن لم أجد أي اهتمام يذكر بكل ما حدث من قبل الشيوعيين مثلا مقارنة بما سجله البعض من القوميين ، ومنهم الاساتذة المؤلفين : محمود شيت خطاب ومحمود الدرة وحازم العلي وصديق الكتبي وعبد الله الجبوري وابراهيم خليل احمد ونبيل الكرخي وغيرهم ( وليعذرني ممن نسيت ذكر اسمه ) . ينبغي القول ان قراءتنا لما سجله المؤرخ حنا بطاطو في كتابه المعروف عن الطبقات الاجتماعية في العراق من معلومات حول احداث الموصل عام 1959 ، تنبؤنا عن جملة أخطاء كبيرة وانتهاكات خطيرة ارتكبها حنا بطاطو ، وينبغي على المؤرخين والباحثين العراقيين الانتباه لها .. كما ان انحيازا واضحا يعلنه بطاطو لطرف على حساب أطراف أخرى !
لم يزل تاريخنا القريب صامتا !
كلنا يدرك لماذا الصمت ؟ ولماذا يلزم المرء نفسه بالصمت ؟ وتلك من أقسى حالات القسر السايكلوجي .. بحيث يصمت المرء مخافة لما قد يحسب عليه سياسيا واجتماعيا ! ومخافة تبدل الاوضاع ! ومخافة سطوة المجتمع وقسوته قبل السلطة وتبدلاتها وما عانى منها الناس ! كنت أتأمل أن يعالج مثل هذا ” الموضوع ” بمنتهى الحيادية على أيدي مؤرخين يتمتعون بالموضوعية والجرأة والأمانة .. ويبدو ان موضوعا كهذا يتصف بحساسيته المفرطة ، وان الخلاف لم يزل مستمرا حتى اليوم بين العراقيين أنفسهم حول ما حدث في الموصل ، والتصفيق لطرف على حساب طرف آخر من دون معرفة ما جرى على الارض ، ومن دون ادانة كل الاطراف التي عملت تقتيلا ونهبا وسلبا وحركة اغتيالات وموجة نزوح .. علما بأن الرأي العام في المدينة نفسها له موقفه الشاجب لكل الأعمال البربرية التي مارسها الطارئون على البلد من قتل للناس ، وسلب للحريات ، ونهب للبيوت .. وينبغي اليوم معرفة تفاصيلها التاريخية الدقيقة ، وخصوصا إن الذاكرة العراقية لم تزل مشحونة بها ، وقبل أن يرحل الناس الذين كانوا شهود عيان عليها .. فضلا عن كونها واحدة من الأحداث المريرة في تاريخ ليس مدينة كبيرة من مدن العراق ، بل في تاريخ العراق المعاصر كله . إن المسألة ليست من البساطة أو التفاهة بمكان ، بحيث تصنّف الأحداث كونها تعبير عن صراع سياسي بين قوميين وشيوعيين .. ولا كونها حركة لقيطة مأجورة قام بها عبد الوهاب الشواف ضد زعيمه قاسم ، بل أنها أعمق من ذلك بكثير .. وأنها تعبير عن احتدام اجتماعي ساهمت فيه عوامل اجتماعية داخلية ، فضلا عن عوامل سياسية خارجية .. اننا بحاجة ماسة الى التعمّق في شخصية عبد الوهاب الشواف الذي سمّيت الحركة او الثورة باسمه وقد قتل وسحلت جثته في شوارع الموصل .. من يكون ؟ وهل كان كما وصف باوصاف مقذعة من قبل خصومه الالداء الذين يمثلهم كل الشيوعيين والقاسميين ، او كما وصف باوصاف الشهيد الثائر من قبل كل حلفائه الذين يمثلهم كل القوميين والناصريين ؟ علما بأنه لم يكن بقومي النزعة ، بل عراقي التوجهات ، وانه كان يدافع دفاعا مستميتا عن قاسم في الشهور الاولى من توليه آمرية موقع الموصل ؟ وما حجم الشراكة والتآمر مع كل من الطبقجلي ورفعت الحاج سري .. حتى يعدما مع نخبة من خيرة ضباط العراق ؟
مدخل الجسر الحديدي في الموصل
هنا في هذا المجال ، ينبغي على المؤرخ أن يفاتح كل الذين كانوا يعملون في السياسة أو من المنتمين لأحزاب ، أو المنخرطين في الجيش أو الدوائر المدنية .. فضلا عن روايات ما حدث في قضاء دهوك وقضاء تلعفر وناحية تلكيف وقضاء سنجار وقضاء عقرة .. إذ أن وقائع ما حدث في المدينة له علاقاته وتداعياته على أقضيتها سواء شرق دجلة أم على غربه .. ومن الأهمية بمكان أن نسمع لكي طرف من الأطراف السياسية التي كانت متصارعة لوجهة نظرها ن وما الذي تراه في كل ما حدث منذ خمسين سنة . صحيح أن الدمار قد حاق بمركز المدينة ، ولكن وقائع مأساوية قد سجلت في الاقضية والنواحي التابعة للموصل أيضا .
إن تاريخ تلك الأحداث لم يسجل كما حدث في بضعة أيام ، عندما تبخرت السلطة فجأة ، واختفي الامن الرسمي وتشرذم الجيش وسيطرة مليشيات المقاومة الشعبية على الشوارع ومراكز الشرطة فتعرضت البلدة إلى الاستباحة التي دامت أياما .. ولكن كان لها تأثيرات كبرى على مجتمع ( لواء ) الموصل .. بحيث كانت تداعياتها قد شغلت كل عهد الزعيم عبد الكريم قاسم بحيث الكل يعلم ان سلسلة اغتيالات قد حدثت في شوارع الموصل على امتداد سنتين تاليتين .. والسؤال الذي اعتقد ان من الاهمية الاجابة عليه : لماذا سكت الزعيم قاسم على موجة الاغتيالات الرهيبة التي طالت العشرات بل المئات في مدينة الموصل بعد فشل حركة الشواف .. خصوصا وان كلا من آمر الموقع الجديد الزعيم حسن عبود ومدير شرطة اللواء اسماعيل عبّاوي كانا يعلمان يقينا من كان يقوم بتلك الاغتيالات في وضح النهار وفي قلب المدينة واحدا واحدا ؟ وكان من السهل عليهما ان يقبض عليهم ويصفدوا بالاغلال ويرسلوا الى بغداد !!
إن خمسين سنة مرت ولم تزل الأحداث الصعبة التي شهدتها الموصل ، تسبب جروحا لم تندمل بسبب كل ما حصل من تجاوزات من قبل الأطراف الحكومية والسياسية والعشائرية العربية والكردية .. ودور دول المنطقة أولا ، ودول خارجية ثانيا في إذكاء سعير قوى سياسية ضد أخرى ، فالانقسام قد حدث بين طرفين اثنين : قاسميون من شيوعيين وديمقراطيين وانصار السلام .. وقوميون من ناصريين وبعثيين وقوميين عرب .. وكلها ترجمة حقيقية ضمن ما اسمي بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي وقت ذاك .. ان علينا ان ندرك ما الأسباب الحقيقية التي قادت الى تمرد العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في الموصل على سيده في بغداد ؟ ثمة أحداث مأساوية حدثت على هامش الأحداث الكبرى ، وخصوصا بعد انفلات الأمور عندما غدت المدينة بأيدي عصابات ودخلاء وأجراء .. وجرت تصفية حسابات اجتماعية وعبر البعض عن أحقاده وثاراته قتلا وتدميرا .. نهبا وتشنيعا .. ناهيكم عن ان الصراع السياسي على السلطة قاد الى نضوج صراع إيديولوجي على جملة مبادئ .. وانتهاء بصراع اجتماعي فاضح بين الناس على أساس التمايز لما هو ديني او قومي .. الخ
دعوة للمساهمة في ” المشروع ” :
ان مشروعا كالذي اسميته بالذاكرة التاريخية العراقية ويتبنى اليوم مسألة اغناء تاريخ تلك الأحداث بالمزيد من المعلومات التاريخية مهما كانت دقيقة وتفصيلية .. سيمنحنا الفرصة لمعرفة المزيد من الإجابات على التساؤلات التي سيطرحها كل المؤرخين والباحثين على أنفسهم لزمن طويل .. كما ان كل المعلومات ستنتج بعد دراستها تاريخيا فهما واضحا للأجيال القادمة عن كل القوى السياسية والاجتماعية معا .. ناهيكم عن تحديد مسؤوليات كل المشاركين في الأحداث سواء من داخل المدينة ام من خارجها .. وما نتج عنها من تداعيات مريرة اثرّت بشكل كبير على تغيير البنية الاجتماعية للمدينة من خلال هجرة الالاف المؤلفة من ابنائها الى بغداد وغيرها من المدن ، ومن ثم دخول نازحين طارئين عليها من ابناء الاطراف عليها في اسوأ تغيير ديمغرافي شهدته مدينة قديمة من مدن الشرق العريقة . ان الساحل الايسر من مدينة الموصل لم يكن فيه اي وجود سكاني قبل ثمانين سنة من اليوم باستثناء قرية النبي يونس التي كان يقطنها البيغمبارغ التركمان ، وتلول قوينجوق العالية التي تقوم في احشائها اطلال العاصمة الآشورية القديمة نينوى ، ولم يكن يقم عليها الا معملا لصناعة العرق منذ القدم !
لقد تلقيت بعد ان نشرت ذاك ” المقال ” جملة كبيرة من الرسائل التحريرية والالكترونية .. يشرح فيها اصحابها وجهات نظرهم ، وما لديهم من معلومات احتفظوا بها طوال هذه السنين .. كما ان ذلك قد حفزني على ان اطالب مشكورا بعض شهود تلك الاحداث ان يكتبوا بامانة وحيادية ما شهدوه بأم اعينهم ، او ما سمعوه .. وبالرغم مما تجمع عندي من معلومات واسعة ، فلا يمكن المجازفة بنشرها من دون ان تكتمل معلومات الفرقاء كلهم لكي تقارن .. او ان يدّقق في مدى وزنها التاريخي ومقاربتها للحقيقة . كما اعتقد ان الباب ينبغي ان يبقى مفتوحا للجميع ، أي لكل التيارات السياسية كي يعبر شهودها عن معلوماتهم ويقولوا كلمتهم قبل ان يرحلوا وترحل معهم ذاكرتهم التاريخية ..
انني ادعو كل من يمتلك معلومات او صور تاريخية عن كل ما حدث في الموصل عام 1959 وما قبل ذلك وما بعده ، ان يرسلها الى مشروع الذاكرة التاريخية العراقية من خلال بريدي الالكتروني ، كي تعرض في سياقات الاحداث تحت اسم صاحبها مع ذكر اسمه كاملا وعنوانه ومركزه الوظيفي او السياسي ( ومن يريد ان يبقى اسمه مجهولا لاسباب خاصة ، فليفعل ذلك ) . متمنيا على الجميع ان يسجلوا ما لديهم من معلومات وشهادات بعيدا عن الشتائم او استخدام الردح انني واثق ان الضباط الذين اشتركوا مع الشواف في حركته ليست لديهم اية اوراق كون اغلبهم من الشباب ، وقد اندفعوا للحركة بوازع ديني او قومي .. ولكن ثمة اصدقاء لهم ما زالوا على قيد الحياة ، وهم يعرفونهم حق المعرفة ، فمن الامانة ان يستذكر هؤلاء اصدقاءهم واخوانهم لما قبل المحنة او اثناءها .. وبالرغم من كل ما قاله القوميون عن احداث الموصل ، فاننا بحاجة الى تفصيلات اكثر يقدمها من تبقى من الضباط الاحرار الموصليين ومن شهد الاحداث او شارك فيها من القوميين . ومن جانب آخر ، اطالب كل الشيوعيين الموصليين ان يقولوا كلمتهم في ما جرى من احداث ، خصوصا وانها قد غدت تاريخا اليوم .. واتمنى على القياديين منهم في ذلك الوقت ان يقدموا مذكراتهم ، واخص بالذكر الاستاذ عدنان جلميران وكل رفاقه الذين كان لهم دورهم في الاحداث .. اذ لا تكفي ابدا شهادات بعضهم التي قدمت على التلفزيون عام 1963 وبعد انتصار القوميين والبعثيين في حركتهم الانقلابية ضد عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط / فبراير 1963.. لقد تغير الزمن اليوم كثيرا عمّا كان عليه الزمن قبل خمسين سنة .. وان الأجيال تطالبنا اليوم وغدا بإحياء ذاكرة تاريخية عراقية .
جسر الحرية في الموصل
لا يسعني المقام هنا الا ان اشكر العديد من الاصدقاء الذين شهدوا تلك الاحداث بأم اعينهم ، سواء كانوا مدنيين ام عسكريين ، وكتبوا او حكوا لي معلوماتهم عنها ، واشير الى كل من الاساتذة ( رحم الله من رحل منهم واطال بعمر الباقين ) : سعيد الديوه جي ومحمد صديق الجليلي ومحمد علي السلمان والوزير السوري الاسبق هاني الهندي وعبد الباسط يونس وصديق اسماعيل الكتبي وسعد علي الجميل وجوزيف جاقماقجيان وعبد الرزاق حديد وحامد الحمداني وحازم الصراف والدكتور البير رسام والدكتور احمد الحسو والاب الدكتور يوسف حبّي والسيدة مقبولة صباغ والشيخ مدلول المطلك والحاجة وهبية الشبخون والمهندسين سامي بنّي وسمير سعيد وسهيل زكر عبد النور ومنان دلال باشي وغيرهم من الذين لا يتسع المقال لذكرهم.. متمنيا على كل من يريد ان يسجل اية معلومة تاريخية حول ” الموضوع ” أن يرسلها ليكون جزءا من ذاكرة تاريخية عراقية معلنة وليست صامتة ..
نشرت مختزلة في الف ياء الزمان ، 4 كانون الثاني / يناير 2010، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
ملاحظة : ترسل اية مواد او معلومات او شواهد الى العنوان التالي :
Sayyarjamil1@hotmail.com
القسم الثاني
التاريخ الصامت لم يكتب بعد !
خمسون عاما على أحداث الموصل المأساوية ذكريات تاريخية صامتة ومؤلمة
في الثامن من شهر مارس / آذار الجاري 2009 ، مرت ذكرى تاريخية صامتة على أحداث الموصل .. إنها ذكرى مرور 50 عاما على أقسى الأحداث التاريخية التي مّرت قبل أيام ، ولم أجد عنها أي كتابات ولا أي اهتمام يذكر بالرغم من أهميتها البالغة في تاريخنا المعاصر .. إذ أنني اعتقد إنها واحدة من أهم إفرازات أحداث ثوران 14 تموز / يوليو 1958 ، كما كانت هي نفسها واحدة من عوامل أحداث 8 شباط / فبراير 1963 .. علما بأنها من الدروس التاريخية التي ينبغي أن يتوقف ، عندها ، ليس بعض المختصين والمؤرخين حسب ، بل لابد أن يتعلم منها كل الناس في عموم العراق بعد انقضاء نصف قرن على مآسيها المفجعة .. وعلينا ، منذ البداية أن نكون منصفين وحياديين وموضوعيين .. ومتجردين من أية عواطف سياسية ، أو أية علاقات أيديولوجية في تقييم ليس هذه الأحداث فحسب ، بل في كتابة كل التاريخ ، وخصوصا تاريخنا العراقي الذي يلازمه الانقسام دوما .. إن جناية الصراع السياسي الذي ولد في العراق المعاصر قبل خمسين سنة ، إنما يتمثّل بالانقسام الاجتماعي الذي أنتجه ، وكان واحدا من أهم تداعياته التي يتجاهلها الجميع !
إننا نصمت دوما على ما يعتري واقعنا من اضطرابات وانقسامات ، فكيف بهذا الذي مضى عليه خمسة عقود زمنية كاملة بقضّها وقضيضها ، صحيح ، انه لما يزل من تبّقى على قيد الحياة يتذكر ما جرى جيدا ، ولكن ثقل ما حل بالعراق من مصائب ونكبات ، جعلتنا لا نتعرف أبدا على ما كان من ألوان مضطربة ، وعلى أوضاع متهرئة .. إن مجرد مرور نصف قرن على أية إحداث صعبة ، فإنها تصبح مجردة من أية ارتباطات ، وتغدو ملكا لأصحابها من أبناء جيلين سابقين ..
عبد الكريم قاسم
لقد كانت أحداثا تاريخية محلية صعبة جدا ، وهي ثمرة الصراع السياسي العقيم الذي تبلور بسرعة كبرى ، ولكنها ثمرة صراع اجتماعي خفي أيضا .. إنها أحداث انفصال ذاتي عن مركز العاصمة بغداد التي أصّرت بقرار من الزعيم عبد الكريم قاسم إلا بعقد مؤتمر سياسي كبير لأنصار السلام الشيوعيين على ملعب الإدارة المحلية بالموصل ، وإذا كان البعض من الأصدقاء قد علّق سائلا : ولماذا لا ينعقد المؤتمر ؟ وبأي حق إلغاء انعقاده في أي بقعة من العراق ؟ فقد أجبته ، إن اختيار مدينة الموصل بالذات ، والإصرار على عقده فيها هو قرار خاطئ بحكم احتقان أوضاعها السياسية في الداخل ، والانقسام الحاد الذي طرأ في مجتمعها بين قوميين وشيوعيين .. وان كل طرف منهما كان يتحّين الفرصة للانقضاض على الآخر ، إذ سبقتها حرب باردة دعائية وشعاراتية في الشوارع والمقاهي والدوائر وحتى في الجيش . وكانت تخرج مظاهرات للشيوعيين تقابلها مظاهرات للقوميين مع أحداث وتراشق يفصل بينها الشرطة أو الجيش . لقد انقسمت الموصل إلى قسمين اثنين ، أولاهما شيوعي يمتد من منطقة الساعة إلى شارع المكاوي الذي اسماه الشيوعيون بشارع موسكو ( أي في قلب المدينة ) وكانت هناك اسر كاملة محسوبة على الشيوعيين كآل هبّاله وشخيتم والقصاب .. الخ ، وثانيهما قومي يمتد حول الموصل بدءا بباب السراي وانتهاء بباب سنجار مرورا بباب البيض والباب الجديد ، وكانت هناك اسر كاملة محسوبة على القوميين كالسنجري وكشمولة وكرموش الخ .. ووقعت منطقة الساعة المسيحية الكلدانية بين الطرفين ، وكان بعض شبابهم متعاطف مع الشيوعيين ، اذ نزل الى الشوارع لينضم الى مليشيات المقاومة الشعبية التي غدا نفوذها في الموصل اكبر بكثير من نفوذ الجيش النظامي . لقد كانت مليشيا المقاومة الشعبية تستخدم اساليب خشنة وغير لائقة ضد الناس ، بتشكيل سيطرات في الشوارع مع عبارات مهينة بحق المجتمع وتقاليده .. فضلا عن تفتيش المارة باساليب فظة واعلان شعارات مناوئة ، بل ولم تزل الذاكرة تحتفظ بتعابير وكلمات التهديد والوعيد والسحق والسحل .. الخ
إن عدة محاولات جرت لإلغاء مؤتمر أنصار السلام مع الزعيم قاسم ، ولكنه لم يقتنع ، ولم يدع الاخرين ان يتكلموا ، وان تكلموا ، كان لا يسمع لهم ، وأصر إصرارا قويا على انعقاد المؤتمر .. حاول عبد الوهاب الشواف من طرفه لمرتين مع الزعيم قاسم ان يمنع انعقاد المؤتمر حتى اللحظة الاخيرة ، ولكنه فشل ! وكان الشيوعيون في الموصل يرون ان مؤامرة تحاك ضد نظام الحكم ، وحاولوا كشفها للزعيم قاسم من خلال وفد ذهب الى بغداد بهذا الصدد ، وكان برئاسة الاستاذ يحي قاف العبد الواحد ـ كما يذكر الأستاذ حامد الحمداني الذي شارك في عضوية الوفد ـ .. ويعتبر يحي قاف من أوائل الشيوعيين العراقيين ، وهو واحد من ابرز المعلمين والمثقفين بمدينة الموصل ( واذكره جيدا عندما كان مديرا للمدرسة القحطانية التي كنت احد تلاميذها عام 1961 ، وكان يبّرني كثيرا ، وأنا في الصف الثالث الابتدائي ، ويطلق عليّ لقب ” الفارس ” ، اذ كنت اجادل المعلمين وانا في الصف الثاني الابتدائي ) وجرت اتصالات سرية مع الزعيم الركن ناظم الطبقجلي في كركوك ، عندما ذهب اليه السيد عبد الرحمن السيد محمود برفقة آخرين بالسيارة ، وبالرغم من استيائه من زميله قاسم ، لكنه رفض الاشتراك مع الشواف لقناعته بفشل المحاولة ..
المجزرة الدموية
انعقد المؤتمر في أجواء مكفهرة للغاية ، وكان الشيوعيون قد سيطروا على الموصل سيطرة كاملة بوجود الآلاف المؤلفة منهم ، إذ انتقل إلى الموصل ليس أنصار السلام من بغداد لوحدهم بالقطارات فقط ، بل جاءها وانحدر اليها عدد كبير من الشيوعيين من كل حدب وصوب ومن كل الأطراف ، وكانوا قد سحقوا بعض المظاهرات المناوئة التي قام بها بعض القوميين ، ومنها مظاهرة جرت قرب محطة القطار ، وأشعلوا النار في بعض الباصات ـ كما حدثني المهندس سمير سعيد ـ .. كان من الممكن تفادي المجزرة لو أحجم عبد الوهاب الشواف عن القيام بمحاولته الانقلابية في الموصل ، وهو آمر موقع اللواء الخامس في حين لم يشترك معه لا الطبقجلي قائد الفرقة الثانية بكركوك ، ولا رفعت الحاج سري وكان مديرا للحركات العسكرية بوزارة الدفاع ببغداد . كان الجو السياسي ملبدا وقابلا للانفجار في أية لحظة ، وكان الضباط القوميين يحجزون في مبنى الثكنة الحجرية عدد كبير من الشيوعيين ، بل وعدّ قتل القيادي الشيوعي الموصلي كامل قزانجي المحامي في تلك الثكنة الحجرية الشرارة التي بدأت تحرق الجو وتلهب كل الشيوعيين ، ويقال ان قرار اعدام قزانجي لم يكن من الشواف نفسه ، بل من المقدم الركن محمود عزيز مدير ادارة الموقع .. وكان الشواف قد اقر منع التجول بالموصل وقد أعلن بيان الحركة العسكرية على موجة قصيرة ، ومن خلال إذاعة بائسة أرسلها الرئيس جمال عبد الناصر من سوريا لضباط الحركة القوميين مع أسلحة بورت سعيد المصرية !
بقي منع التجول ساري المفعول لكل أبناء المدينة الذين بقوا في بيوتهم بلا أية تجهيزات ، أو طعام ، وكانت مناوشات وإطلاق نار يسمع هنا وهناك .. بعد ساعات على إعلان الحركة ، يرسل الزعيم قاسم سربا من طائرات الهوكر هنتر بقيادة خالد سارة ، ويقصف مقر الشواف في معسكر الغزلاني جنوب المدينة المقابل لأرض المطار، وينقل الشواف إلى المستشفى العسكري بعد اصابته اصابة خفيفة ، ليقتل هناك على يد مضمد شيوعي ، ويتمرد الجيش عليه ، ويفر من كان معه من الضباط ، وينفلت الأمن تماما بسيطرة الشيوعيين على مراكز الشرطة .. ويبدأ مسلسل من أبشع الأحداث ، ويسحل جسد الشواف في الشوارع ، وتبدأ مجزرة دموية غير متكافئة بسيطرة الشيوعيين على المدينة ، ويحدثنا الأستاذ عدنان جلميران عن المآسي التي حدثت، وكان الرجل قياديا شيوعيا في صميم الأحداث ، وقد قال أكثر من مرة للعديد من أصدقائه ، بأن الشيوعيين ارتكبوا أخطاء ما كان لها أن تحصل أبدا ، وكيف قام الشيوعيون بتصفية القوميين وتصفية آخرين من خلال محاكم كوميونات محلية ، واخذ كل من يعتقل يؤخذ ليعدم في منطقة الدملماجة شرق المدينة ! وسحل آخرون احياء واموات في الشوارع ، وقتل العديد من القوميين وعددا من المستقلين وابرياء لا دخل لهم بالسياسة ، فلقد هوجم ـ مثلا ـ بيت السيد قاسم حديد قرب شارع النجفي بقلب المدينة ، ولما لم يفتح الباب أحد ، اطلق النار عليه ، فقتل من ورائه السيد قاسم وهو رجل كبير السن وجرح ابن اخيه نوفل عبد الرحمن حديد ( وقاسم حديد هو عم السيد محمد حديد وزير المالية عهد ذاك ) وتبقى الحالة فوضوية لعدة أيام ، إذ دخل المدينة أهل توابعها الخارجية من اكراد وعربان ، وعاثوا فيها فسادا قتلا ونهبا وتحطيما .. لقد خسرت المدينة بعض أعيانها وشخصياتها من الابرياء قتلا وسحلا ، ولعل قصة مصرع علي العمري وابنته الشابة حفصة من اشهر ما اذيع ، اذ علقّ جسدها على عمود الكهرباء في شارع الغزلاني ! ولقد نهبت عشرات القصور والبيوت نهبا كاملا ، ولم تسلم لا الابواب ولا الشبابيك .. ان اول قصر نهب واحرق كاملا هو قصر الشيخ احمد عجيل الياور في منطقة المنطرد جنوبي الموصل بعد ان دافع عنه بعض من فيه ، وقد قتلوا جميعا وهب كل الغوغاء يسلبون وينهبون .. ومن اشهر البيوتات التي سلبت ونهبت ايضا : دار الطبيب استراجيان وهو قصر بني على الطراز الياباني ، وقصر احمد بك الجليلي ، وبيوت آل المفتي ، وقصر ايرميا براز ، وبيوتات آل السنجري ، وغيرها .. استمرت الموصل في حالة فوضى اياما ، ولم تستقر الأمور حتى أمر الزعيم قاسم بتهدئة الاوضاع ، إذ أرسل العقيد حسن عبود آمرا للموقع .. كي تبدأ بعد ذلك تداعيات أخرى وسلسلة أحداث مأساوية من الاغتيالات أعقبت تلك المجزرة التاريخية .
دعوة الى تشكيل رؤية تاريخية عراقية جديدة
إن دعوتي اليوم ليس باستعادة هذه الذكرى فقط ، بل بالوقوف طويلا ومحاولة البحث عن إجابات لأسئلة مهمة عن أحداث تلك المرحلة الصعبة من تاريخ العراق المعاصر .. ان هناك ضبابية متعمدة من كل الأطراف في عدم الاعتراف بالحقائق القاسية كي لا يطالبوا بالإدانة التاريخية لهذا الطرف او ذاك . إن الرؤية الجديدة تنطلق من حاجتنا نحن العراقيين إلى التأمل قليلا ، بإنصاف وتجرد في كل ما جرى في العراق من انقسامات سياسية ، وصراعات سلطوية ، وانشقاقات حزبية ، واصطفافات إيديولوجية ، ليس بهدف الإثارة ، وتعزيز التخندقات ، وفضح الإساءات ، بل من اجل جعلها دروسا تاريخية ذات عبر ومعاني كثيرة .. إن بعض الأصدقاء يلومونني أحيانا ، أنني أثير مشكلات الماضي في بعض الأوقات ، والحق ليس معهم ، فهم لا يدرون أن كل المجتمعات البشرية ليس باستطاعتها بناء نفسها إن لم تفهم أخطاء ماضيها ، ومثالب تواريخها .. فالحاضر لا يستمر صامتا، بل عليه أن يتكلم بوضوح، وصراحة، وحياد، وشفافية ، وموضوعية ، ويختزل ذلك كله بالمعالجة العلمية من اجل بناء المستقبل وعلى أيدي أجيال اختلفت توجهاتها عن أجيال الأمس . إن العراق لم يكن يعيش لوحده وهو ينتقل من عهد إلى آخر .. وانه لم يكن خال من تأثيرات الآخرين في العالم والإقليم معا .. وانه انتقل 180 درجة مما كان عليه إبان العهد الملكي إلى حالة تاريخية مغايرة تماما إبان العهود الجمهورية يتنازع في تقييمها الناس . إنها حاجة عراقية ماسة لتشكيل رؤية تاريخية جديدة غير منحازة أبدا لا لهذا الطرف ، ولا إلى ذاك . وكم وجدنا من انحيازات عراقية منذ خمسين سنة حتى اليوم .. بحيث لم تنفع معها أبدا حتى اعترافات من كان يقود حزبا ، أو حقائق من كان له ثقلا ، أو ذكريات من صنع قرارا .. لم تنفع أبدا لما كان ولم يزل مسيطرا على الناس من أفكار ونزوعات ، ربما لا تمت إلى الحقيقة بأية صلة !
العراق .. دوما في قلب العالم
كيف نرى العراق وهو الذي اعتبره دوما ، واحدا من أهم بلدان الشرق الأوسط تأثرا بالحرب الباردة في العالم إبان القرن العشرين ! فكيف نبني رؤيتنا لمن يتحمل المسؤولية التاريخية عن الأحداث المريرة ؟ من الذي قاد إلى تفجير الصراعات السياسية لتتحول إلى انقسامات اجتماعية شنيعة ؟ لماذا يغدو العراق ساحة لصراع تيارين أساسيين كانا محتدمين يعيشان على برميل بارود دوما : تيار قومي عربي بكل أحزابه وفصائله ، وتيار يساري شيوعي بكل فئاته وانتماءات أصنافه ؟ ما الدور العربي والإقليمي والدولي في تأجيج الصراع ؟ وما دور الزعيم عبد الكريم قاسم وقراراته في الأحداث ؟ إنني لم اقل الحدث مفردا ، بل الأحداث ، ذلك إن حركة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف بالموصل قد انتهت في 24 ساعة ، ولكنها ارتبطت بأحداث مهمة سبقتها ، وعوامل فجرتها ، ومسببات سارعت في صبغ دمويتها ، ولكن تداعياتها المأساوية استمرت زمنا طويلا ، وارتبطت بها عدة ظواهر مأساوية ، منها : ظاهرة السلب والنهب ، وظاهرة الإعدامات والسحل ، وظاهرة موجة الاغتيالات ، وظاهرة الهجرة الجماعية ، وظاهرة محاكمات ( المتآمرين الخونة ) ، وأحكام الإعدام بحقهم .. ثم ازدياد شرخ الانقسامات ! وهنا ، علينا ان لا ندين طرفا من دون معرفة ما قام به الطرف الآخر .. إنني أجد أن تاريخا مثقلا بالأحداث الجسيمة ، والارتباطات السياسية ، والقرارات الصعبة ، والدعايات الكاذبة ، والحقائق المغيبة ، والروايات المتصادمة والمتباينة .. لم يزل حتى يومنا هذا تاريخا صامتا لم يعلن عن نفسه بجرأة وشجاعة وتجرد.. انه بالرغم من كثرة ما كتب عن تلك ” الأحداث ” من سير ومذكرات وتواريخ عامة وما أذيع من خطب وشعارات وأشعار ، فإنني لم أجد حتى يومنا هذا أية دراسات وكتب وبحوث عالجت الموضوع بدقة متناهية ، وبالتفاصيل الكاملة ، والتوثيقات الرسمية . إن أهم ما نحتاجه والأجيال القادمة الخروج من نطاق التخندق مع هذا أو الاصطفاف مع ذاك .. إذ أنني أرى بأن كل من ساهم في تلك الأحداث ، يتحمّل مسؤوليته التاريخية كاملة .. وأرى بأن الزمن هو الكفيل بجعل الأجيال القادمة تكشف عن الصمت لتقول ما تريده .. خصوصا بعد رحيل ما تبقى من أجيال ومن مناضلي القرن العشرين !
من الاسباب الى التداعيات
إن أحداث الموصل عام 1959 ، قادت أيضا إلى أحداث كركوك المأساوية ، فهي وليدة ما كان يجري وقت ذاك من انفصامات قومية يشهدها العراق لأول مرة منذ تأسيسه بين العرب والكرد والتركمان.. بين المسيحيين والمسلمين ، وكان لابد أن تشتعل تلك الأحداث التي تلازمت أسبابها وعواملها المتشابكة بعضها بالبعض الآخر ، فمنها عوامل الصراع على السلطة من قبل الضباط الأحرار ، ومنها عوامل الاحتدام السياسي بين عراقيين قوميين وشيوعيين نتج عنها حركة عسكرية وثورية فاشلة قادت الى الاعدامات الجماعية لنخبة من الضباط القوميين واغلبهم من الموصل وهو احتدام يولد لأول مرة بمثل تلك القسوة التي استمرت دموية ومتوحشة مرورا بأحداث 8 شباط/ فبراير 1963 وما تلاها من تراجيديات دموية ومأساوية .. لم يكن هناك أية مطالبات عراقية ، بأسس دستورية ، ولا بأطر قانونية ، ولا بحقوق وطنية .. كان استخدام الديمقراطية استخداما أجوفا ، وكان الشغل الشاغل لكل الناس : الاستعمار ، العمالة ، الرجعية ، أعوان الاستعمار ، الامبريالية ، المؤامرة والتآمر والخيانة والوحدة العربية ، والاشتراكية والشعبية والأمة العربية والكفاح والنضال والشغيلة والطليعة .. الخ بل من يراجع كل أدبيات وخطابات تلك المرحلة ، سيجدها مجموعة شعارات حزبية ، وخطابات ضد الرجعية والاستعمار .. وردح بين قوميين يؤمنون بدور جمال عبد الناصر وشيوعيين يؤمنون بدور موسكو .. وكان عبد الكريم قاسم لوحده في الميدان بين الموجات المتلاطمة سياسيا لا يعرف كيف يقود العراق بعدم سماعه للاخرين ، وقد وجد شعبيته طاغية من دون ان يوظفها لتأسيس أي مشروع وطني بالرغم من وعوده التي كان يطلقها من حين الى آخر ! لم يكن فحلا سياسيا باستطاعته ان يقود العراق بعيدا عن الصراعات .. العواطف الوطنية قد تكون متدفقة ، ولكنها قد تخفق ان لم تجد زعماء سياسيين يستثمروها لأي مشروع حضاري .. انني اعتقد ان الرجل كان قد اخطأ خطأ جسيما في اعدامه للضباط القوميين وعفوه عن الشباب البعثيين ! استقباله الهائل للملا مصطفى البارزاني وجعله الزعيم الثاني من بعده .. وبعد ان تمرد الاخير عليه ضربه بطائرات الهوكر هنتر !
قصة معقدة جدا قابلة للتفسيرات
اننا نقول بأن ما جرى في الموصل قبل خمسين سنة بالضبط ، إنما هو قصة دراماتيكية معقدة جدا ، ومتشابكة أيضا ، وهي بحاجة إلى رؤية خاصة بعيدة النظر ، وان تكون الكتابة عنها محايدة ، وبلا أية انحيازات ، وبروح علمية جريئة ومجردة وصبورة .. إن أحداث الموصل لا يمكن أن تختزل بحركة عبد الوهاب الشواف ، إنها اكبر بكثير من حركة ضابط عسكري ربما كان محبطا أو متهورا ، متآمرا أو مندفعا ، او خائنا .. دفعه طلبه للسلطة أن يستغل الاوضاع المحتدمة ليقوم بحركته الفاشلة بمساعدة ضباط قوميين ومحافظين .. ربما كان متهورا ، ولكنه طلب من سيده الزعيم قاسم منع عقد مؤتمر أنصار السلام في الموصل ، لأن الموصل تعيش على بركان قابل للانفجار في اية لحظة ! الزعيم قاسم نفسه ، كان يدرك حقيقة الوضع السياسي وقت ذاك ، ولكنه ربما لم يكن يدرك طبيعة الانقسام الاجتماعي ليس في الموصل حسب ، بل في كل العراق . نعم ، لقد انتصر الزعيم قاسم على خصومه العسكريين أولا ، ورد على جمال عبد الناصر ردا عمليا ثانيا ، وسحق القوميين والمحافظين ثالثا ، وأدان الشيوعيين رابعا .. وأقحم الأكراد رسميا في الأحداث لسحق المتآمرين ، فهبّ الاكراد البارتيين على المدينة عبر جسريها نينوى القديم والحرية الجديد ليعيثوا فسادا فيها خامسا .. لكن هل ثمة أسرار ؟ هل ثمة أحداث ؟ هل ثمة مجريات أخرى ؟ هل ثمة اتصالات مع الخارج ؟ طبيعة التداعيات الأليمة التي أنتجتها الأحداث ؟ ما شخصية عبد الوهاب الشواف ؟ وأجوبة أخرى سنعالجها في حلقات قادمة تعتمدها الروايات والشواهد والذكريات التي سيرويها مختلف الفرقاء حول هذا الموضوع الذي بات يحتاجه الجميع لمعرفة حقائقه كما كانت .. ولكي تكون تلك التجربة التاريخية المأساوية عبرة للاجيال القادمة في صناعة مستقبلها في قابل الايام والسنين .
نشرت مختزلة على الف ياء الزمان ، 20 آذار / مارس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 4 كانون الثاني / يناير 2010
www.sayyaraljamil.com