أوهام
إن العوامل والتحديات الخارجية ما كان لها أن تكون ، لولا انتفاء الحكمة والعقلانية والعمل في أطار من الواقعية والصبر والتعايش الداخلي .. لقد كان هناك ولم يزل ، سوء تصرف وعدم تقدير الأمور حق قدرها ، وضعف شديد في مختلف الهياكل والابتلاء بالانقسامات والصراعات والنزاعات المحلية والإقليمية والعربية على امتداد القرن العشرين .. ناهيكم عن سوء في التربويات وخلل في تكوين الأجيال على مبادئ وأفكار وشعارات كاذبة لا أساس لها من الصحة ، ولا قواعد لها من الحقيقة ! لم أزل أفكر بجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وما فعلت به الأيديولوجيات الخارجية التي لم يستوعبها عن كثب ، وحاول استعارتها لتطبيقاتها في بيئته وواقعة ، بلا أي تفكير بالفوارق الكبيرة في طبيعة المجتمعات واختلاف مراحل التاريخ . والمشكلة أن هناك حتى يومنا هذا ، من لم يزل يتشبث بتلك ” النصوص” و ” الشعارات ” و ” التعابير ” التي لم يعد لها وجود حقيقي في وقتنا الحاضر .
لقد كانت بعض التجارب العربية جديرة بالتقدير ، ولكنها نائية عن الاهتمام بها ، أو تمثّلها وتعّلم أصحاب القرار منها ، أولئك الذين يرضيهم الهوس المقنع بالرضا والتفاخر بأمجاد موهومة وتواريخ لا تنعش في الذاكرة أي قيمة فكرية ولا أي ثروة فلسفية ، إذ ليس لها إلا إرضاء العواطف والتستر على الأخطاء ، ذلك أن مشكلة الإنسان تنحصر في شيئين أساسيين اثنين ، أولهما ذاته ، وثانيهما مصلحته ! وهكذا ، كانت كل المجموعات والأحزاب والقوى السياسية ، تصارع إحداها الأخرى من اجل شعارات واوهام غير موجودة أصلا إلا في المخيال السياسي .
إنني أدعو إلى أن يأخذ هذا ” الموضوع ” حجمه الطبيعي من إثارة الوعي ، كي تدرك الأجيال الجديدة في القرن الواحد والعشرين كم خذلتها الأجيال السابقة في القرن العشرين تحت عبارات البطولات الوهمية والشعارات المزيفة .. فأين هو صراع الطبقات أو البروليتاريا العمالية ، أو الرسالة الخالدة .. الخ ؟!
إن معرفة الحاضر وتوقعات المستقبل ، لا يمكنها أن تعرف إلا من خلال قراءات معمقة في تاريخ الأحداث وسيرورتها ، والتفكير الهادئ والعقلاني في تقاطعاتها وتصادماتها مع سير خطوطها ، وبكل ذكاء ومهارة ، كي تنطلق قوة التفكير إلى حيث الميدان بتوفر عاملين أساسيين مساعدين : حجم الحريات العامة ، وتكافؤ الفرص التاريخية . إن كليهما لا يتحققان إلا إذا جرت إصلاحات تربوية واستحداثات جذرية يتطلبها واقعنا السياسي والاجتماعي ، في مختلف الهياكل والبنى وحتى المفاهيم التي سادت في القرن العشرين . إن نقد المفاهيم والأفكار لا يمكن أن يبقى في إطار كيل الشتائم لهذا العهد أو ذاك ، وان تبقى نفس الشعارات سارية المفعول حتى اليوم .. على كل أولئك وهؤلاء الخروج من معاطفهم السميكة وهم في عز الصيف ، ورفع الأقنعة عن وجوههم ، إذ لم يعد يعرفهم احد .. عليهم أن يخرجوا من شرانقهم الإيديولوجية وكفاهم تشويها للحقائق . وان لم يدركوا الحقائق فعليهم مراجعة أنفسهم ، واستعادة معلوماتهم وتبديل أفكارهم .. عليهم أن يكونوا عقلاء لمرة واحدة بأن يكونوا حياديين في إطلاق الاحكام ، وان يكونوا موضوعيين في تقييم الماضي .. وعليهم أن يكونوا مترفعين عن الاصطفاف مع هذا الخندق الطائفي أو ذاك الشوفيني .. فالحقيقة لا يمكن أن يدركها احد .. فكيف يبيح البعض لأنفسهم امتلاكها ؟
وللأسف ، أثبتت التجربة التاريخية أن العرب وجيرانهم ليسوا قادرين على مجابهة الأحداث الساخنة ! ولم يدركوا معرفة أضدادهم .. ويمكنهم أن يكونوا أقوياء فعلا في هذا ” الجانب ” ، إذا توفرت العناصر الأساسية للبناء : الاستقرار السياسي ، والتضامن الجماعي ، والتحسس بالشأن العام والمصالح العليا ، وسقف الحريات ، والتقنيات الحديثة ، والتفكير السليم ، والحكمة في صنع القرار … واشدد هنا على وظيفة التفكير المدهش في استنباط المعاني الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها ، والمجردة من ادلجة عصر مختلف بآلياته وعناصره وتراكيبه وتفكيره ، يلازمه تحسس واقعي بالمستقبل ، مجرد هو الآخر من أية نوازع سياسية أو أيديولوجية .. لكنه مكرس لخدمة جملة من المبادئ التاريخية والحضارية في ما يخص العرب والمسلمين ، وخدمة المبادئ الإنسانية عند البشرية قاطبة .. خصوصا ونحن نعلم أن صورة العرب والمسلمين معرضة دوما للتشويه لدى المتلقي في العالم كله ، سواء كان التشويه مكتوبا أم مسموعا أم مرئيا !
نشرت في البيان الاماراتية ، 23 ديسمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com