لا يمكن إنزال الدين من عليائه ليكون أداة سياسية بكل ما تحتويه من خطايا وبلايا ومناورات ومصالح:
أريد بهذه المداخلة أن أوضح جملة من الملاحظات المهمة التي لابد أن يدركها كل رجال الدين السمحاء والمثقفين والعلماء والمفكرين قبل أن تستوعبها الفئات الأدنى الأخرى في المجتمع.. كما أود الإشارة إلى أن التفكير السياسي بحاجة إلى أن ينقل المرء من عواطفه المطلقة إلى أفكاره النسبية، ويقف على حقائق الأمور، بدل الهوس المضاد للعلمنة كونها ضد الدين.. وهى ليست كذلك أبدا! إنها تنزه الدين من أدران السياسة وموبقاتها، فالعلاقة الروحية هي فعلاً علاقة عاطفية وسيكولوجية بين الإنسان وربه ولا يمكن إنزال الدين من عليائه وتجلياته ليكون أداة سياسية عادية في الدنيا بكل ما تحتويه هذه الأخيرة من بلايا ورذائل وخطايا ومصالح ومناورات تعالجها السياسة لا الدين، وأن السياسة الشرعية لا يمكن أتباعها اليوم وقد تيبس الاجتهاد وانكمشت التفقهات.. وغدت الحياة مزدحمة بالتناقضات التي لا يمكن معالجتها إلا بأدوات هذا العصر.
أسس بناء المستقبل
1. العقل أولاً
ينبغي على الإنسان محاكمة عقله قبل أن يتهجم على من يقابله بحيث لا يمكن الخروج عن الموضوع إلى الذات، لتصبح العملية مجرد تجريح وتكفير وهروب إلى الخلف دوماً عندما يعجز العقل عن إدراك ما يمكن عمله في هذا العصر.. ولما يزل العديد من الوعاظ والكتاب والمتحزبين الإسلاميين يهيمنون على الإعلام ووسائله الحديثة ويعتبرون كل تجارب المجتمعات والفكر السياسي العالمي مجرد تفاهة أمام عنادهم.. إنهم بحاجة إلى أن يفكروا بمشكلات فكرية لا سياسية، وخصوصاً في واقع مليء بالدمامل والتقيحات كالواقع الذي لا يمكن معالجته معالجة دينية وكل مشكلاته دنيوية بحتة، فهو بحاجة حقاً إلى تخصصات دنيوية لا يفقه بها رجال الدين ولا الذين يسمون أنفسهم بفقهاء الأمة أو علماء الإسلام كما يطلق عليهم؟ ولقد أثبتت التجارب أن حكم الأحزاب الدينية مآله الفشل الذريع في كل من إيران وأفغانستان والعراق وغيرها. إن التعامل مع الإسلاميين، لابد أن يتم بوسائل عقلانية وفكرية وهم من أعداء ذلك اليوم كون العنف أحد أبرز وسائلهم، إنهم لا يقابلون الحجة بالحجة لأنهم يعتقدون بالمطلقات في حين يؤمن العلمانيون بنسبية الأشياء.. إن ما يزيد في حدة التعامل ما يقوم به كل من يضادد العلمنة ترديد التجريحات والسباب والشتائم بمنتهى التهكم والسخرية، وهى أساليب لا تتم عن حيادية وقبول الآخر، بل وكأنه قد حول الموضوع برمته إلى مسألة شخصية وتأبى النفس المقابلة التي وصفت بمثل هذه الأوصاف أن ترد على توريات بليدة تسيء بطبيعة الحال لمجتمعاتنا جميعاً التي تزدحم بمختلف الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق..
2. أتحدى إن كان هناك أي برنامج سياسي متوازن!
عندما نخاطب بعضنا بعضاً ننسى قيمة الإنسان، وننسى قدرة الآخر على المطاولة والتجمل بالأخلاق الفاضلة، وقد تجعل العاطفة صاحبها بليداً بحيث لا يدرك تاريخ المجتمع والدول، فمن لديه القدرة على الانفتاح واختراق الحدود بقدرات تفوق التصور في كل مجالات الحياة من أجل بناء مستقبل في الدنيا، فلا يمكن أن يبقى معزولاً لأنه يتوهم كل الحياة الدنيا لا يمكن أن تمشى إلا بحدود وسدود.. وهكذا، فإن القيم قابلة للتغير في الزمان والمكان، فلا نستطيع محاكمة من سبقنا ولا نستطيع أن نحدد من سيلينا بحدود.. وأن العلمنة ستكون ضرورة لكل مجتمعاتنا حتى يكون باستطاعتها أن تتنفس بكل حرية، وينزه الدين في عليائه عن أدران الواقع.. وعند كل من يدرك بأن مثل هذا التفكير ليس وليد ساعته بل يحمل فوق كاهليه تاريخاً مسكوتاً عنه.
إننا لم نجد حتى اليوم أي برنامج سياسي حقيقي محدث من لدن أي حزب إسلامي يمكنه أن يتوافق مع الحياة المعاصرة.. بعيداً عن أجندتهم، فالتوافق يلزمهم بقبول ما في الحياة المعاصرة وما فيها من قيم وأفكار وبرامج ومناهج وأساليب ورؤى وفلسفات وأيديولوجيات.. وهذا ما يرفضونه رفضاً قاطعاً.. فكيف بمجتمعات تتعامل مع هذه الحياة وهى تتلقن تجارب العصر وتؤمن بمبدأ المواطنة قبل أي شيء آخر وتفكر بتشيؤات المستقبل؟؟؟
3.الديمقراطية آلية علمانية والشورى آلية إسلامية
من غرائب الأشياء أن الإسلاميين يتنطعون بالمفاهيم والمصطلحات الحديثة، وهم يركبون موجات التفكير السياسي الحر وينخرطون في العملية السياسية باسم الديمقراطية، وهم من أعدى أعداء الديمقراطية، ومن الأوهام الشائعة، أن الشورى هي الديمقراطية بحد ذاتها، وهذا وهم شديد.. فأساليب الشورى والمبايعة لا تستقيم أصلاً مع التفكير الحر والانتخاب المباشر وصناديق الاقتراع.. وهناك مثل آخر إذ نسمع من يطبل ويزمر لـ (الديمقراطية في إيران الإسلامية) في حين أن الانتخابات الإيرانية العامة لا يرشح لها من كان ليبرالياً، أو شيوعياً أو علمانياً أو ملكياً شاهانياً.. إنها كانت حتى الآن منحصرة بين أصحاب العمائم وأتباعهم. أين هي الديمقراطية؟ بل أين هي المشاورة في الأمر إذا كانت مقاليد السلطة بيد الإمام الذي جعل من نفسه صاحب ولاية الفقيه، أي صاحب عصمة؟
4. نحن والحياة: لمن للأرض.. لمن للسماء؟
العلمنة تحترم كل من يعتز بعقيدته ودينه في المجتمع، ولكن لا تريده يتدخل بواسطتهما في مؤسسات الدولة، ولا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي.. ومطلوب من مجتمعاتنا عدم التسرع في إطلاق الأحكام الجاهزة، وألا يتم تكفير أحد ممن يخالفونك فكرياً وسياسياً.. وأن يتم التثبت من المعلومات والآراء عن الأصول .. وألا يعتمد على كتابات المعاصرين من الذين خلطوا الدين بالسياسة وروجوا للإسلام السياسي خلال نصف قرن مضى، ينبغي ممارسة القطيعة ولو مرة واحدة، كي يجد الإنسان وحده مسئولا عن نفسه أمام ربه، ولكن لا يمكن أن يجعل مجتمعه نسخة مطابقة لنفسه أبدا، سيكتشف أن تنوعات مجتمعه مهما اختلفت تناقضاتها فإن التصاقها بوطنها وترابها وعشقها للفقراء والمحرومين هي مسائل دنيوية بحاجة إلى مؤهلات مدنية على الأرض كي تنسجم الحياة وتتخلص من كل تناقضاتها، أما الدين، فهو ضرورة للبشر في تحديد علاقة الإنسان بربه، فالدين يسمو بالإنسان ويأمره بالمعروف ويشذب الروح ويفتح الصراط المستقيم وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.. والإسلام ميدان منفتح على كل الحياة، وهو يقبل من خلال علم الفقه وعلم أصول الفقه أن يجدد مستلزماته بما يتيح الأفضل للإنسان، فهو دين يسر وليس دين عسر.. ولا يمكن أن يبقى الإسلام رهين التعصب، وكأن كل المتعصبين هم أصحابه فقط.
5. حاجتنا إلى التجديد والاجتهادات واجتثاث الطائفية والانقسامات
أما الدولة والمجتمع فلا يمكنهما استخدام الدين في السياسة ومجمل القضايا والعلاقات والسلطات وكل الشئون المعقدة.. ولا أعتقد أن في ذلك عاهة أو نقصاً أو شعورا بالإثم، فالحياة المدنية قد سيطرت على كل هذا الوجود، وأن حاضرنا بحاجة إلى أن يتخلص من كل التضادات والتشنجات والاختلافات والتباينات المذهبية والطائفية التي لابد أن يكون الزمن اليوم قد عفا عليها.. ولكن لابد للمرء أن يتساءل: هل مازالت حياتنا العربية كما كانت قبل ألف سنة أم أنها صادفت كل ألوان ومتغيرات الحياة في الأرض قبل السماء منذ أن بدأت الحاجة للفقه وأصول الفقه والقياس والاستحسان والاجتهادات والمقاصد وولادة التمذهبات والفرق والملل والنحل حتى اليوم؟
إن الدين فوق الجميع له سموه وقدره وجلاله متغلغل في النفس عند الأفراد وجميعهم، حيث إنه المنجد للإنسان كي يطهر ذاته ويسمو بأخلاقه ويدفعه للعمل ويزرع فيه كل القيم الخيرة. إنني أعتقد أن الصراع سيبقى محتدماً بين العلمانيين والإسلاميين زمناً ليس بالقصير، وإذا كانت الغلبة للعلمانيين في نهاية المطاف، فإن عواطف الناس ستبقى مشتعلة لثلاثين سنة قادمة. إن الإسلام السياسي ينبغي أن ينتقل إلى الإسلام الحضارى..
وأخيراً: هل من أجوبة شجاعة على تساؤلاتى؟
هل بقيت مجتمعات المسلمين من دون أى أساليب دنيوية فى العمل السياسى منذ أمد بعيد؟
وإذا كانت قد تركت العمل بما قاله الإسلاميون، فهل يا ترى أنها قد قطعت علاقتها بالسماء من خلال وظائف مجتمعاتها؟ وإذا كانت قد أوجدت فضلاً عن حدودها الشرعية قوانين مدنية باتت مجتمعات العالم في أمس الحاجة إليها، فهل تخلت عن وطنيتها وعشقها للأرض والإنسان واحترامها للمرأة ومساعداتها للطفل ورأفتها بالحيوان وضماناتها للأجيال والمصالح وقول الحق؟؟..! على من ينازل الآخر أن يفقه حقائق عدة علماً بأنني لا أدعى المعرفة بأمور وتخصصات الحياة المعاصرة التي لم تعد تجد مشكلاتها الحلول إلا في النظم المعاصرة.
هل لأي عاقل أن يتخيل إيجاد دولة مثالية ومدينة فاضلة كالتي نادى بها الفلاسفة؟ إنه وهْم الأغبياء على امتداد العصور، إذ لا يمكن الأخذ بتصورات مطلقة، بل التفكير بنسبية الأمور، وخلق توازن في التفكير بين مثالية الأفكار وواقعية الأشياء من أجل خلق دولة ومجتمع متوازنين فى علاقة كل منهما بالآخر.. وفصل العلاقة بين الدين والدنيا من أجل تقديم ثمرة ذلك إلى الأجيال القادمة.. وهذا ما يمكن السعي إليه وتحقيقه في قابل الأيام.. فهل ستنجح مجتمعاتنا قاطبة في مثل هكذا مهمة تاريخية صعبة؟ أجيب: نعم، ولكن بعد زمن ليس بالقصير أبداً.
نشرت في روز اليوسف المصرية ، العدد 4254 السبت الموافق – 19 ديسمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …