لقد كان شتراوس موسوعي التفكير في دراسته للانسنة ، ومعالجاته التحليلية للبنى الاجتماعية للإنسان في جذوره الثقافية ، من خلال العادات والتقاليد والأفكار وتلاقحها من جيل لآخر .. ولعل نظريته عن ” أنظمة القرابة ” التي تدارسها انثربولوجيا ، قد جعلته واحدا من فلاسفة البنيوية في القرن العشرين ، وسيبقى تأثيره كبيرا في تطور العلوم الاجتماعية على امتداد مستقبل طويل . إن أهمية إبداعاته تكمن أيضا في مفهوم التواصل ، إذ يرى أن المجتمعات كلها ترجع في أصولها إلى وحدة نظام فيزيقي ، تباينت ثقافاته من زمان إلى آخر ، ومن مكان إلى مكان ، فاتخذ كل زمان له موديلاته ، واتخذ كل مكان له رموزه .
اكتشف شتراوس أن البشر يجمعهم التواصل من خلال ما تعبر عنه الثقافات على وجه الأرض ، سواء بممتلكاتها وتشيؤاتها أم بكلماتها وتعابيرها ، أم برموزها وشخوصها .. وكل ثقافة إنسانية قد تأثرت بالبيئة التي عاشت فيها ، واكتسبت طبيعتها ومواصفاتها كاملة . نجح في تأسيس منهجية جديدة لها جديّتها وتفاصيلها العلمية ، مستفيدا من العلوم الألسنية والبنيوية على الرغم من انه يعلن دوما عن انتمائه الى القرن التاسع عشر كون أفكاره متجذرة هناك ، دون القرن العشرين . حلل انساق الفكر المتوحش والتنميط الثقافي الذي ينتجه لتسطيح التباينات الجوهرية بين التمدن والتخلف ، مكرسّا مفاهيمه لتمجيد الحضارة الغربية ، ولم ير في كل جنبات الإنسانية أية إجابات تسكته ! ويبدو انه كان يناقض نفسه من زمن إلى آخر ، اذ سرعان ما كان يتخلى عن تصريحاته قبل سنين ليقول بأنه كان يعيش في زمن عدواني ! بقي بعيدا عن اليمين وعن اليسار معا ، وبقي قلقا جراء كارثة الانفجار السكاني ! وقد دعا إلى أن تكون الثقافات المدنية صّماء ، فاعتبر مشرعنا للعنصرية .. ولكن العولمة قد جرفت كل أفكاره ، علما بأن البعض يصف قلقه بالمشروعية نظرا لما يحدث من اختراقات وانسحاقات للثقافات الحية .
كان لشتراوس موقفه السلبي من العرب والمضاد للإسلام والمسلمين أجمعين ، وكان مستفزا لطلبته منهم ، وملاطفا للبوذيين ، ومشاكسا للمسيحيين .. وتتضح تناقضاته من سلوكه ، إذ يبدو انه مشبّع بالكراهية من دون أن يستمع إلى أي حوار .. وبقدر ما يتهم الإسلام بالجمود ، فالكاثوليكية المسيحية متهمة به أيضا ، ولكنه يدين الإسلام بالعزلة من دون أن يسمح للآخرين بأن يساهموا فيه ! وبالرغم من جرح الهنود الحمر الذي أراد تضميده ، وبالرغم من عدم تأييده إسرائيل تأييدا أعمى ، الا انه كان يقول أن ” اللقاءات التي جمعته بالعرب اوحت له بالنفور منهم “! وبالرغم من قضائه أشهرا في بنغلادش ، إلا انه لم يحس بأي ميل لها أو لسكانها ! إن يهوديته لم تكن بالنسبة له إلا جذرا من أبوين أو تذكارا ليس إلا ! وقد شكّلت زيارته لإسرائيل التي تردد في القيام بها ، عبئا نفسيا وتجربة مؤلمة ـ كما وصفها ـ كونها أعادته إلى جذور لم يعترف بها ! أما بالنسبة لقضية الجزائر التحررية ، فكان متذبذبا أيضا .
نشرت في البيان الاماراتية 11 نوفمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com