الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / مكابدات امرأة عراقية -الحلقة الأولى- فلسفة البوح بأسرار المدن

مكابدات امرأة عراقية -الحلقة الأولى- فلسفة البوح بأسرار المدن


الروائية لطيفة الدليمي

كنت اقرأ للروائية العراقية المتميزة السيدة لطفية الدليمي منذ زمن بعيد .. وكانت كتاباتها تجذب القراء جذبا ساحرا .. كنت أقول دوما مع نفسي : لو أتيح لهذه السيدة ، ولكل المبدعين الحقيقيين أن يعيشوا حرياتهم كما هو العالم ، لوجدنا كم سيثري أدباء العراق وكل مثقفيه ثقافة هذا العالم .. واليوم أقول: مع شديد الأسف إن العراق أنجب في القرن العشرين أعظم المبدعين ، ولكنه أخصب أسوأ السياسيين ، وهو البلد الوحيد في هذا الوجود الذي دفع أهله أثمانا باهظة جدا على امتداد نصف قرن مضى .. كنت دوما اذكر لطفية الدليمي .. وكنت أود أن التقي بها في عمان بالأردن قبل سنتين عند تأسيس المجلس العراقي للثقافة الذي ساهم السياسيون العراقيون في مصرعه عند ولادته ، ولكن لم يحصل ذلك ، ولم التق بها ويا للاسف .. ولكن سررت جدا أن أجد بين يدي كتابها الجديد ( يوميات المدن ) بإهداء جميل منها .. وقد صدر عن فضاءات 2009 . دعوني اكتب عنه بعد ان قرأت وتأملت في مضمونه طويلا ..

عشق اسرار المدن : رؤية فكرية
بدأت اقرأ هذه اليوميات من حين لآخر .. فتلمست منذ الأسطر الأولى ما كنت ابحث عنه منذ زمن بعيد .. وكنت ولم أزل اعشق المدن والبوح بإسرارها .. وان أجمل ما يمتع حقا تأثير جمالياتها في الذين يمرون بها ، أو الذين وجدوا أنفسهم فيها فجأة ! فقد أحسست منذ بدايات العمل ، أن لطفية تبحث لها عن مكان جميل ، اذ كانت ملتاعة من فقدان مدينتها الأم بغداد .. تقول : ” فأنا من الذين غادروا فلك الدلال ورفاه العيش إلى التشرد والإبحار في قارب مترنح وسط العماء ، فكيف لي أن انبهر بباريس إذن وأنا وسط طوفان مضطرم من الغربة والغرباء والغرابة ؟؟ ” ( ص 9 ) . انه إحساس كل عراقي حقيقي يعاني من الآم المهجر ! صحيح إنها يوميات سردية ، ولكنها تتضمن فلسفة عميقة جدا ، تؤشر كم هي قيمة الثقافة الإنسانية عند روائية عراقية .. وهذه الروائية ما كانت لتنتج مثل هذا ” العمل ” لولا قوة الثقافة التي تحملها .. إن فلسفة الأشياء لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال ذاك الذي يمتلك قدرات فكرية عالية المستوى ، وقد تشابكت الارتحالات العراقية في فضاء إنساني لأزمنة وأمكنة معروفة .. ولكننا نقرأ أنفسنا وكأننا في عالم ليس غريبا علينا !
دعوني أيضا في هذه الحلقة أقدم رؤية فكرية ليوميات ذكية جدا عن مدن مخصبة جدا .. وسأقول كلمتي في نقد العمل من الناحية الفنية وما تضمنه من أدوات لغوية جميلة جدا في حلقة قادمة .. إن الانتقال أو الارتحال أصبح شيئا عاديا للعراقيين في سنوات الحرمان من البهجة .. الارتحال حيث يجدون الأغاني المفتقدة ، أو الكتب الملونة ، أو المقاهي الشعبية ، أو الزهور الندية .. لم استطع أن اعدد مفتقداتهم بدءا من نكهة الشوارع القديمة ومرورا بروائح زهور القداح الليلية ووصولا إلى ممارسة الحرية تحت نصب فخم أسموه بنصب الحرية ! تقول : ” كنت ساهمة بين الحشد والنقاشات تعلو على موسيقى ثيودوراكسيس .. تناقش الشباب الاكاديميون مع الإعلاميين بمنطق توفيقي يراوح بين القبول بالنزعات الدينية واعتبارها إفرازا واقعيا لمجمل ما مر به العراق من تأسيس الدولة الحديثة حتى اليوم .. ” ( ص 8 )

مؤرخة بزي روائية
لطفية الدليمي كانت قادرة لأن تعّبر عن ضمير مثقف عراقي عالي المستوى ، وهو يعرف مسبقا الأفق الذي يتحرك فيه .. مثقف جاد قرأ أشعار الأوربيين وسمع بصخب موسيقاهم أو عظمة كلاسيكياتهم .. مثقف ترّبى على قراءة روايات تحكي حياة المجتمعات الأوربية بدءا من شوارع لندن ومانجستر حتى أقصى بيئات الروس البيضاء ومرورا بالحي اللاتيني أو بأزقة اليونان أو بقاعات فينا أو في مقاهي براغ أو متاحف روما ..
لطفية الدليمي مؤرخة مثقفة بزي روائية فنانة تعرف ما الذي تقوله عن مدن لم يعبر أصحابها عنها بقدر ما عبرت عن أسرارها التاريخية .. وهي تجوس في تلك المدن ، وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد بعد أن كانت قد قرأت شعرا عن بعضها أو قصة عن الآخر .. أو هكذا تخيلت أنها تستعيد أحلام ما كانت قد خزنته ذاكرتها منذ عقود طوال من السنين ! إنها تعيش تجربة هنا أو تجربة هناك ، ولكن ذاكرتها تبقى معلقة بمدينة واحدة في الوجود حيث يمتد النهر ، أو تشهق النخيل ، أو تتدفق كهرمانة ..
إنها تبدأ فلسفتها كما قالت ” بداية رحلتي في مواجهة العدم ” ( ص 9 ) حيث سيغدو أي عراقي يخرج خارج حدود بلاده لا يعرف إلا اللجوء أو المنفى أو المهجر ، وتعريفه مع سمة الخيار الواعي : مهجرا غير انه يبقى ذلك العدم المقرون بالاقتلاع المرير والمتشرد ( ص 10 ) وإذا كان هذا مع البداية حيث الاقتلاع من الجذور ، فما الذي سيحصل لدى الأجيال القادمة .. ملايين العراقيين سيذوبون مع توالي الأيام والسنين ولا يعرفون من عراقيتهم شيئا .. ولكن الحظ أسعف هذه العراقية التي انطلقت نحو باريس وترجع إلى عمّان التي وجدت فيها ملاذها المفقود .. تقول : ” عمان وبغداد اقترنتا في دمي .. ” ( ص 239 ) .

بغداد والمدن الاخرى
إن أسرار المدن التي تبوح بها ، ليس عن عظمة تاريخ ومتاحف وشوارع وتكنولوجيا .. ولكن تحكي قصة إنسان افتقد الكثير مما كان يحمله .. إنسان تائه في متاهات مدن وستقوده هذه إلى اللامتاهات .. وتبقى ذاكرة بغداد معلقة في الضمائر لا تموت أبدا ، فهي تعيش بالرغم من عتمتها اليوم ، وافتقادها للأعياد المبهجة .. بغداد التي كانت تتفوق في إنسانيتها على غيرها من المدن ، وهي كريمة وخيرة ومعطاءة ومخضبة بالروح ومشبعة بالتاريخ على عكس غيرها من المدن التي حظيت بكل النعم ، ولكن لا روح فيها ولا حياة ! إن لطفية لم تدّمر فكرة المدينة الغربية تدميرا كاملا ، بل أجبرت على تبني موقف ، واعتقد انه موقف متقدم ومنصف .. إذ أوضحت طبيعة علاقتها العراقية بالمدينة الأوربية ، ولقد امتحنتها بعض الأماكن الغريبة امتحانات صعبة في ضوء التجارب ، فبدت لطفية بالرغم من مكابداتها العراقية ، لا تنحاز أبدا إلا للعراق .. إنها بوصفها مثقفة عراقية على نحو مميز ، فلقد أفحمت كل الأسئلة التي وجهتها لها تلك المدن بدءا من باريس ويومياتها فيها ومعايشتها لفرنسا ، ثم غرينوبل وزيارة رامبو الذي تعرف عنه كل شيء .. ثم يوميات شارلفيل وبيرن .. مرورا بزيورخ ووصولا إلى قبرص حيث يدعوها التاريخ إلى وليمة كل من ليماسول ونيقوسيا وبحر ازرق من الأساطير .. ثم لارنكا حيث المتاهة واجتيازا للدانوب ثم التوقف عند يوميات الغجر السيغان .. ثم ترجع الروح ثانية في عمان ومنها حيث بغداد حيث استعادة الحياة التي نريدها !

سفيرة عراقية بدرجة مبدعة
لطفية خير سفيرة لبغداد في هذا العالم الذي ساهم في تدميرها حجرا فوق حجر .. لطفية مؤرخة لبغداد من حيث لا تعلم .. أروع وصف قدمته لأبواب بغداد التي كانت قد أزيلت عبر التاريخ ، ولم يبق لبغداد اليوم إلا بابين اثنين ، هما : باب الجحيم وباب الهروب .. ( ص 14 ) إنني لا يهمني في هذه المقالة أن أضيع الزمن عن جان بروليه وسان بول رو وارثر رامبو وغيرهم .. إنني أريد أن استنطق لطفية من خلال ليل المتاحف في بيرن وهي تسأل سؤالا مهما : لماذا لا تتاح للمواطن العربي فرصة الاطلاع على تاريخ الإنسانية وثقافاتها وعلومها إلا من خلال وجهات نظر محددة مسبقا ومؤطرة بإيحاءات سياسية وإيديولوجية ـ عقائدية ؟ وثمة أسئلة أخرى ذكية : لماذا لا تتاح له فرص المواجهة مع التاريخ بكل أخطائه وإخفاقاته ليعرف مسار حاضره ؟ انه لا يرى في تاريخه سوى الأمجاد وتخفى عنه كل الكبوات والفواجع والهزائم ؟؟ ( ص 35) وتبدأ لطفية تحلم بالمتاحف ولكن : هل نجرؤ على الحلم أصلا ؟ ( ص36 ) .. وهي ترى أن الاتحاد الأوربي هو صيغة متقدمة أو صورة متطورة للتاريخ المشترك ( ص 37 ) . ولكنها ماذا وجدت في أوربا اليوم من تناقضات ؟ لقد وجدت الكثير ، ولكنها توقفت عند متشددين ونسوة منقبات مترنحات على سلالم تصعد أو تهبط ما بين الشرق والغرب ، يشهرون الهوية الهشة قطعا من قماش اسود تقول الاختلاف المتشدد وتعلن الخلاف في تعاطي الحياة مع أهل البلاد ” ( ص 13) .

العراق : ذاكرة حلم ام بئر نفط ام لعنة كلكامش ؟
العراق لم يذق طعم الحرية وهو يمتلك أعظم نصب للحرية في قلب بغداد .. العراق لم يعرف الا لغة الرصاص ولون الدم منذ خمسين سنة .. العراق الذي اغتاله العسكريون كونهم يكرهون الحرية والمدنية .. العراق الذي تم تحويله من بلاد النخب الذكية إلى طوائف جاهلية وبراميل نفط وأكفان شباب ونسوة مذبوحات .. بلاد لم يكتمل جنونها بعد على أيدي المالكين الجدد .. ولكنها عصية عليهم .. تقول : ” من يظن انه يمتلك العراق واهم فهو ملك الدهر وسليل المياه ، النفط هو الملكية الوحيدة الممكنة في جسد البلاد ، لذا أهدروا الدم والكلمات والأهواء وحظروا الحياة وبقي النفط يسيل ابعد من أحلامنا ليتفتح ترفا في جهات الآخرين ..
ما روعة السؤال التالي : ترى من أي بئر يستقي الموت خلوده ؟ وأيضا : من يدل الموت على رائحتنا ولحمنا ؟ اهو النفط أم لعنة كلكامش ( ص 40) ؟
دعونا نتوقف هنا .. ونواصل تحليل يوميات المدن في حلقات أخرى

انتظروا الحلقة الثانية
نشرت في الف ياء الزمان ، 26 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …