انه رجل تركيا اليوم ، يحمل سيرة سياسي إسلامي ، ولكن تجربته ومن معه تتباين مع ما نعرفه على نحو مغاير.. تعلم أردوغان منذ صغره أن يصنع قرارا قويا ويدرك متى وأين يكون ! ولد في اسطنبول 1954 ويقال أن أصل أسرته من جورجيا ، وعانى منذ صغره من الفقر والحرمان ، وكان عصاميا في تكوين نفسه منذ انخراطه في مدرسة دينية حتى تخرجه في كلية الاقتصاد والأعمال بجامعة مرمرة التركية الشهيرة .. ثمّ انضم إلى ” حزب الخلاص الوطني” بقيادة نجم الدين اربكان .. ومذ عادت الحياة الحزبية عام 1983 اثر انقلاب 1980 العسكري ، بدأ اردغان سياسيا نشيطا جدا في ” حزب الرفاه ” ، لكي يرشح نفسه ويفوز بمنصب عمدة اسطنبول عام 1994 مع حصول ” الرفاه ” على عدد كبير من المقاعد في البرلمان .. اتهم بالتحريض على الكراهية ، فسجن ومنع من العمل في الحكومة ، فكانت تجربة شكلت منعطفا جديدا في حياته ، إذ وجد نفسه ينساق وراء أخطاء يرتكبها اربكان في ” حزب الفضيلة ” المحظور ، فكان انشقاقه مع بعض رفاقه ومنهم عبد الله غول ليؤسسوا حزب العدالة والتنمية 2001 ، فأعلن عن مبادئ جديدة لا تصطدم مع أسس الجمهورية التركية لأتاتورك .. لقد كانت خطوة تاريخية ذكية ، كسب من خلالها جولته على حساب أفول نجم أستاذه اربكان ، وحصد أصوات ملايين الشباب التركي الذي وجد في اردوغان أنفاسا جديدة تتلاءم مع الأهداف المعلنة لإقامة مجتمع متحضر معاصر في إطار القيم الإسلامية المسالمة عبر مبادئ جديدة ذات مسحة إسلامية معتدلة بالرغم من كونها محافظة .. ومنها إقراره العمل لصالح استمرار العضوية التركية في حلف شمال الأطلسي ، وأيضا لصالح الانضمام للاتحاد الأوروبي ، وبعد وصوله السلطة ، بدأ يكسر حواجز قديمة بينه وبين بلدان الشرق الأوسط وينفتح على العرب وغيرهم ، ولكن أعلن وبصرامة ومنذ حملته الانتخابية عام 2002 على سماحه للنساء بارتداء الحجاب في المباني العامة بعد أن كان هناك حظر حكومي على ذلك ! ولما فاز بالانتخابات عام 2003 ، أصبح ” حزب العدالة والتنمية ” يمثّل الأغلبية في البرلمان التركي ، فاعتلى اردوغان رئاسة الحكومة في 14 مارس 2003 . كان ذلك ، بالنسبة إليه ، انتصارا تاريخيا كبيرا ولحزبه ، معلنا عن رغبته في إجراء تغييرات في القوانين التي تنظم الأحزاب السياسية ، فضلا عن قوانين الانتخابات ، وذلك لجعل تركيا أكثر ديمقراطية وتعددية ، وأعرب عن حاجة تركيا للسعي بنشاط كبير من اجل استثمارات أجنبية فعالة ، وبالرغم من استياء ” الإسلاميين ” كونها غير إسلامية ، الا ان أردوغان حاول إقناع الناس بضرورة المصالح المرسلة ، والانصياع للضرورات في حالة وجود المحظورات . لقد استفاد الرجل من تجربته عمدة لبلدية اسطنبول مبلورا قدراته السياسية المنفتحة ، فكان يختلف عن كل السياسيين الآخرين ، كما انه بقي نظيفا وليس له إلا الشأن العام ، وقدم منجزات كبرى لمدينة عريقة امتدت في الطول والعرض وهي مثقلة بملايين البشر ، فغدت على يديه أكثر نضارة وخضرة ونظافة .
كسب اردوغان شخصية كاريزماتية بعد انتصاره على كل التحديات التي جابهته ، وكان ذكيا جدا بعدم استخدامه العنف أو التشنج ، فضلا عن مسألة أجدها مهمة جدا عندما أقارن بينه وبين زعماء كل التيارات الإسلامية في عالمنا .. إن حزب اردوغان بالذات قد أبقى على ميراث أتاتورك ورموزه ومعانيه ، ليس فقط معترفا بها عمليا ، بل شكلت خطا احمر لا يمكن تجاوزه أبدا .. ويرى كل زائر لتركيا اليوم أن صور أتاتورك لم تزل معلقة على الجدران .. ولم يزل أتاتورك أبا للأتراك ، ويكاد يكون الوحيد من الرموز الباقية حية ترزق في ذاكرة الأتراك المحدثين . إن هذه القدرة والذكاء كما حظيت بهما القوى السياسية الإسلامية التركية ، لم نجدها في أي مكان آخر من العالم الإسلامي .. لا في إيران ولا افغانستان ولا عند العرب ، وربما وجدنا محمد علي جناح لم يزل رمزا مؤسسا لباكستان ، ولكن ميراث الأخير لم يشابه ميراث اتاتورك على الإطلاق .
لقد نجح اردوغان ايضا في كسب شعبية هائلة بموقفه في مؤتمر دافوس يناير 2009 ، إذ كان ردّه على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بشأن الحرب على غزة قويا ، وغادر منصة المؤتمر بكبرياء بعد أن لم يأخذ وقته الكافي في الرد .. ولا شك أن قوة شعبية الرجل وحزبه، وكثرة إنجازاته اللافتة للانتباه على صعيد التنمية الاقتصادية ، وارجاعه قيمة الليرة التركية إلى مكانتها ، فضلا مواقفه السياسية الداخلية والخارجية التاريخية قد أعادت لتركيا فعلا قوتها كدولة إقليمية كبرى ، لها دورها المؤثر في ميزان أحداث الشرق الأوسط . ولقد بقيت تركيا في مواقفها غير معادية للسياسة الغربية ، بالرغم من رفضها حرب إسرائيل في غزة ، وإلغائها قبل أيام للمناورات الجوية المشتركة مع إسرائيل وقد تزامنت تلك التطورات مع نشر تقارير صحفية إسرائيلية تكشف عن خوف متنامٍ في إسرائيل من قيام رجب طيب أردوغان بعملية «أسلمة» للجيش التركي ! ستبقى التحديات في المواجهة دوما ، ولكن الرجل سيبقى الأكثر قدرة على الاستجابة لها .. أتمنى أن تتعلم التيارات الإسلامية السياسية ( والعربية خصوصا ) من تجارب اردوغان ، ومن قبله اربكان ، الكثير من الدروس والعبر .. وبالرغم من كل التحديات التي كانت وستبقى تواجه اردوغان ، إلا انه ورفيق دربه عبد الله كول ( رئيس الجمهورية ) قد وصلا إلى الحكم ، بإرادة شعبية ديمقراطية لا غبار على نزاهتها وشفافيتها ، مقارنة بغيرها من التجارب .
نشرت في البيان الاماراتية ، 21 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …