المعنى : ثلاثية المجتمع العراقي
لم أزل اعمل جاهدا على اغناء المجتمع العراقي الحديث بمفاهيم النظرية الثلاثية التي قلت بها منذ زمن طويل ، وهي التي تقدّمت على النظرية الثنائية للدكتور علي الوردي بجملة من الأفكار والاستشهادات سواء كانت تاريخية أم معاصرة .. وان مجتمعنا العراقي لم يزل يعيش جملة هائلة من تحليل الترسبات والمخلفات والتداعيات والنتائج التي خلفتها حالات الصراع المختلفة التي عاشها المجتمع وخصوصا بعد اضمحلال الأنظمة القديمة سياسيا ، والإخفاق بتأسيس أنظمة عراقية جديدة في المجتمع . هنا ، محاولة أخرى للتعرف على طبيعة بعض الصراعات في الخفاء والعلن لما يعانيه المجتمع العراقي ، وهو يترجم ترسباته القديمة في واقع سياسي متهرئ على امتداد خمسين سنة مضت ! والنظرية الثلاثية التي قلت بها مركبة على أسس ثلاثة للمجتمع العراقي : المدينة والريف والبادية ، أي إضافة عنصر ثالث لثنائية علي الوردي ( الحضر والبدو). ولقد تغّيرت عوامل الصراع من زمن لآخر ، نتيجة ما لحق بالمجتمع من تغيرات مع بقاء الترسبات في اللاوعي العراقي الذي له دور كبير في تشكيل البنية الاجتماعية للعراق الحديث .
الاقليات .. مضطهدة
يعترف اغلب علماء الاجتماع بأن لا حياة لأقلية في بحر أكثرية لأي مجتمع بشري ، إن لم تكن تلك الأقلية مضطهدة اجتماعيا ، ليس في مكان معين بل في كل العالم ومهما كانت تلك الأقلية ، دينية ، أو قومية ، أو ثقافية لها خصائصها ، إلا إن تسلطّت الأقلية على الأكثرية في ظروف خاصة واستثنائية والاعتماد على الآخر ، فستعبث بكل التشكيل الداخلي سياسيا .. ولقد عانت الأقليات الدينية والقومية من اضطهادات لا حدود لها في مجتمعات لا تعرف أي معنى للتعايش والشراكة .. وحتى إن وجدت تلك الشراكة ، أو ذاك التعايش ، فان الخاسر في هذه المعادلة حتما ، هو الأقل عددا ، كونه يشارك الأكثرية ، بمعنى أن المعادلة ستغدو مركبة بين قوي وضعيف ، وان الضعيف سيعطي طاعته وخدماته وإبداعاته وزمنه .. دوما للقوي حتى ترجح الكفة لصالح بقائه ووجوده .. ومن خلال تفكيرنا تاريخيا بديمومة واستمرار الأقليات الدينية ـ مثلا ـ في المجتمع العراقي ، وخصوصا اغلب المسيحيين بمللهم في المجتمع ، والصبة المندائيين ، واليهود في عدد من المدن فضلا عن اليزيدية العدويين والأرمن .. نجدهم من أمهر العراقيين بحرفهم او مهنهم الانتاجية في المدن ، أو إنتاجياتهم المتنوعة في الريف ، ذلك ان عملهم هو الذي يعتقدون انه يحميهم ، وهذا مبدأ صحّت تطبيقاته في العراق الذي عرف مجتمعه التنوع في القوة إزاء مناورة الضعفاء في التعامل مع تلك القوة .. وليست القوة سياسية أو إدارية ، بل أن الأشرس دوما هي القوة الاجتماعية المضطهدة للآخر ، والتي يمارسها ليس فقط الأشرار ، بل حتى أولئك الناس العاديين الذين ينطلقون بكراهيتهم الدينية او تزمتهم الاجتماعي . لقد وجدنا دوما ما يكون المجتمع هو مالك زمام الأمور من خلال السلطات الاجتماعية التي يتمتع بها الأقوياء مقابل تنازلات لا يمكن البقاء من دونها تقدمها الفئات المحرومة من السلطة في أي مجتمع .. أو أن تكون تلك الفئات محددة مرعية بشكل خاص من قبل السلطة السياسية العليا في أي بلد ، وبعكسه ، فان الأقلية لا يمكن لها أن تشعر بالطمأنينة ، إلا إن وجد قانون في أي دولة يحمي حقوق الجميع ، كما يجري العمل به اليوم في دول عديدة تعتبر دساتيرها المدنية عالية المستوى ، وتحّرم على أي فرد في المجتمع ممارسة الاضطهاد ضد الآخر ..
المشكلات العراقية المزمنة
على امتداد تاريخ طويل ، عانى المجتمع العراقي من مشكلات اجتماعية كبيرة لا يمكنها أن تختزل أو يعّتم عليها ، أو أن تغيب لأسباب سياسية معينة مع الاعتراف بأن الاضطهادات التي عرفتها مجتمعات أخرى في الشرق الاوسط ، لم يعرفها العراق .. وعندما نقارن بدقة ما كان يجري في دواخل المجتمع العراقي .. سنجد معلومات عامة معروفة للجميع وربما لا يختلف عليها اثنان من العلماء ، ولا يتباين عليها الجميع .. ذلك أن مشكلات العراق الاجتماعية دوما ما كانت تأتي من تداعيات الصراعات الثلاثية في المجتمع العراقي ، علما بأن المدن قد شهدت مشاكل لا حصر لها .. وان المشكلات القبلية والعشائرية العراقية كانت اخطر بكثير من مشكلات حضرية في المدن ، باستثناء حالات معينة كانت ترتفع إلى السطح أحيانا .. وخصوصا تلك التي كان يذكيها أناس يخرجون دوما على القانون ، وقد غدوا جزءا من أعراف المجتمع كالشقاوات التي عرفتها مدن الشرق الأوسط قاطبة ، وخصوصا في العراق الذي عرف صراعا واضحا بين أولاد الاوادم وأولاد الشوارع ـ حسب العرف والتوصيف العراقي نفسه ـ !
ولقد ازدادت المشكلات في المدن كثيرا في القرن العشرين بعد أن أزيلت عنها أسوارها القديمة التي كانت تحميها لتختلط فيها الناس ، وينزح إليها أبناء الريف والبوادي والجبال ، وتخّتل المعادلة اختلالا كبيرا .. وتبدأ معاناة من نوع آخر تشكلها أنواع من الكراهية والاضطهادات المحلية .. ولقد بقيت نعرة أهل الداخل (= المدن ) وأهل الخارج (= القرى ) موجودة على امتداد قرن كامل ، ولم تزل موجودة حتى اليوم ، بسبب اختلاف أساليب التعامل ، وأساليب التفكير ، وأساليب الحياة بسبب تباين التربويات بين حضريين يعتقدون أنهم أكثر مدنية ورقيا ، وبين قرويين أجلاف يعتقدون أنهم أكثر أصالة .. ولم يكن الافتراق هنا على مستوى الاكثريات والأقليات .. إذ دوما ما نجد ابن المدينة مهما بلغت به الفرقة يقف ضد ابن الريف ، والعكس صحيح ، ذلك أن ابن الريف دوما ما يكره ابن المدينة .. بل ونجد حالات تاريخية واجتماعية تنبؤنا أن أبناء أقلية دينية معينة تقف إلى جانب كل أبناء المدينة ضد أبناء الريف وهم من أبناء دينها أيضا كما يحدث في مجتمع الموصل وأطرافها .. إن الصراع لم يكن دينيا بقدر ما كان هو اجتماعي بطبيعته .. بدليل حماية المسلمين العراقيين للأرمن الفارين من جحيم التصفيات العرقية الكردية التركية قبل عشرات السنين واحتضانهم عراقيا عربيا في ارفع معاملة إنسانية ! وهنا مفارقة غاية في الأهمية نجدها واضحة في المجتمع العراقي ، ذلك أن العراقيين في دواخل مدنهم وبلادهم ما أن يجدوا أجنبيا ( وبالاخص اوربيا ) سائحا ، أو عابرا ، أو تاجرا ، أو أستاذا .. فهم يذوبون فيه حبا وعشقا ويكرمونه ويعتزون بالتعّرف عليه ، إذ تتلبسهم عقدة الخواجة ، ولكنهم كعراقيين في ما بينهم فالمعاملة تكاد تختلف تماما ، وهذا ما نلاحظه في الموانئ والمطارات والمناطق السياحية والأسواق العراقية وحتى الدوائر الرسمية الحكومية .. إن حالات لا حصر لها من الاضطهاد المعنوي قد مورس في المجتمع العراقي من قبل أقوياء ضد من هو ضعيف في المجتمع .. ان ما كان يسمعه أي عراقي من هؤلاء الضعفاء سواء كان مسيحيا أو فويليا او صبيّا او يهوديا .. الخ من تعليقات جارحة تكفي لخزين من الكبت الاجتماعي الذي لا يعرف أين يفرغه الا من خلال البراعة في فنّه ، أو إنتاجه ، أو مهنته .. الخ
الزيجات العراقية : اهم عامل للاختلاط
إن ثمة اعترافا واضحا يقول بأن أبناء المدن الكبيرة من الحضريين وكلهم أبناء اسر محلية ، أو عوائل كبيرة لا يعترفون بأبناء العشائر أو الفلاحين ، فكل من الاثنين يمسك رأس العصا من مكان .. لم تكن هناك زيجات مشتركة ، ولم تكن هناك اختلاطات واسعة .. بل تكاد تكون اللغة الاجتماعية منفصلة تماما بين البدو وبين الحضر بالعراق .. ولا يمكن في الأعراف البدوية أن يتزوج احد من البادية حتى وان كان شيخ قبيلة بامرأة من المدينة ! ولقد شهدت استثناءات قليلة ونادرة في تاريخنا الاجتماعي المعاصر ، ولكن تكون الأعراف قد هتكت عما درجت إليه الأحوال !
إن الزيجات والاختلاطات لم تجر أبدا بين أبناء الريف وأبناء المدينة حتى ضمن الملة الواحدة والدين الواحد والطائفة الواحدة .. وتكاد تكون كلمة ” الفلاح ” غير مرغوبة في أوساط المدن القديمة ، وهي ليست سمة عراقية سالبة ، بل لقد وجدتها في بعض المجتمعات الأخرى عربية وغير عربية .. إن الفلاح هو ابن الريف ، وما دامت العلاقة متباعدة كثيرا بين ابن المدينة وابن الريف ، فان الانجذاب يكاد يكون نادر الحصول .. إن ثلاثية التقسيم العراقي بدت واضحة في العراق أكثر من أي مكان آخر بين مجتمعات الشرق الأوسط ، وهي ثلاثية اجتماعية متنافرة دوما تقوم على ثلاثة عناصر ، هي : الحضري والريفي والبدوي ، أي بالأحرى : بين المهنيين والفلاحين والرعيان ..
ترسبات صراع العناصر الثلاثية
هذه الثلاثية المتنافرة ، أنتجت المزيد من الصراعات عكست نتائجها السايكلوجية والاجتماعية على أوضاعنا الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية في القرن العشرين … ولم نزل نعاني من صداماتها الواسعة ، كونها متوارثة أبا عن جد .. هنا تصبح العلاقات بين الأقليات والأكثرية اجتماعية وتاريخية بحتة لا علاقة لها بدين ، أو طائفة ، أو مذهب ، أو حتى عرق وقومية . إن الصراع الاجتماعي في العراق قد أخذ له أشكالا متنوعة ، كل في أبجديته الخاصة : البداوة والريف والمدينة .. كان الصراع القبلي بين قبائل متنوعة ربما على أتفه الأسباب ! ولم يكن ذلك الصراع عربيا بحتا ، بل وجدناه أيضا عند قبائل كردية ، وينضوي في مضمونه الصراع العشائري داخل بنية القبيلة نفسها .. أو أن يكون طبقيا في الريف حيث تكون العلاقة قسرية متنافرة بين أصحاب الأرض ( = الملاكون ) وبين الفلاحين ، وقد وصل الظلم بين الشيخ والفلاح إلى درجة اللاعودة في مثلث يمتد بين مدن العمارة والناصرية والكوت .. حيث وقعت مظالم لا ترحم من قبل الشيوخ على الفلاحين ، واغلب هؤلاء محسوبين عليهم عشائريا ، فامتد الصراع من كونه عشائري إلى طبقي في حين لم نجد مثل هذا الصراع المثخن بجراح المظالم في ريف العراق الشمالي .. وكان الصراع الطائفي هو الأقل احتداما في الريف مع انعدامه عند البدو العراقيين ، ولقد شهد الريف في جنوب العراق والفرات الأوسط حالات كثيرة من تشّيع الناس ، لا لسبب ديني ، بقدر ما هو إرضاء أوضاع اجتماعية فرضت على طرف دون آخر ، فالملاكون السّنة مثلا تشّيع قسم كبير منهم ، ناهيكم عما يمنحه المذهب الجعفري من حقوق كاملة للبنات من حقوق الإرث .. كما يمنح الانسان ان يفّجر عاطفته الى ما شاء له .. فضلا عن كونه بقي مذهب مجتمع لا مذهب دولة ، كما في ايران ..الخ من الاسباب .
الجهويات : خصوصيات المدن
لكن التوتر الطائفي قد يكثر بين أبناء المدن المختلطة ، وبأشكال لم تصل درجتها إلى حالة إلغاء .. انه التعايش المشوب بالحذر من أن يجرح هذا ذاك .. وعلى الرغم من مجتمع المدينة العراقية كان مقسّما إلى مناطق جهوية مختلطة بالعاصمة بغداد ـ مثلا ـ ، ولكن كل منطقة كانت تتسّم بعنوان ورموز ، كالكرادة والاعظمية وكلتاهما كانت خارج الاسوار وهكذا بالنسبة لاختلاطات الفضل ، أو الشواكة ، أو البتاويين ، أو الوزيرية ، أو الجعيفر ، أو راغبة خاتون ، والصليخ ، أو المهدية ، أو باب الشيخ وغيرها ، إلا أن هناك تعايشا مذهبيا رائعا بين الطرفين سواء ذاك الذي شهدته بغداد القديمة قبل مائة سنة ، أم الذي عرفته بغداد الحديثة في القرن العشرين . إن وقفة تأمل خاصة بجهويات بغداد يعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك ، أن للأكراد عكد قديم ، ولليهود عكد قديم آخر ، وللوزراء الباشوات القدماء وزيريتهم ، وللتكارتة والسوامرة والمشاهدة مناطقهم بالكرخ .. وللبياتلية طرفهم هنا او نزوحهم هناك ، ونجد السكان الفويليين في قلب العاصمة وبالرصافة بالذات .. ناهيكم عن الشراكوه النازحين من الجنوب ليقطنوا وراء السدة بكبت ومرارة ، وهم في أصعب حالات البؤس ، وتجد البتاوين وقد امتلأت بالمسيحيين وخصوصا الآثوريين ، وهناك بيوتات الارمن ، اما شارع النهر ، فكثر فيه الصبّة ليكونوا قريبين من النهر دوما .. الخ
وهذا ما نجده في جهويات مدينة الموصل أيضا ، فالسكان القدماء ينتشرون في قلب المدينة القديمة في خطين متوازيين من المناطق ، ولليهود محلتهم ، وللاكراد المهاجرين دركزليتهم ، وللآثوريين التيارية شارعهم الخاص في الدواسة ، وللجرجرية منطقتهم ، ولعرب خزرج القدماء محلتهم ، وللجوبة ثلاث مناطق : العكيدات والبكارة والنبي شيث ، إذ قطنت وراء الأسوار القديمة ( معنى الجوبة : أقلية من بدو مطاردين نزحوا واستقروا وراء أسوار الموصل القديمة ، وبعد أن أزيلت الأسوار اندمجوا مع المدينة ، وقد عرفوا بمشاكساتهم واختلافهم عن تقاليد المجتمع والتعبير عن كبت قديم ضده ) .. لقد وقفت على حالات تعايش مهمة جدا بين المسلمين والمسيحيين في الموصل القديمة ، ولكن انتعشت الحساسيات في القرن العشرين لأسباب سياسية وإيديولوجية عقائدية ، بل أن الصراع في المدينة لم يأخذ له أي طابع ديني بقدر ما كان صراعا طبقيا بين أغنياء وفقراء .. بين تجار ومهنيين حرفيين ، بين حضريين ورعيان .. بين موصليين وفلّيحيين ( للمسيحيين في الأطراف ) وقرويين ( للفلاحين في الأطراف ) .. الخ أما الحالات التي عليها جهويات مدينة البصرة ، فهي اقل تعقيدا من كل من بغداد والموصل بسبب انفتاح البصرة بحرا وبرا ونهرا .. إن التعقيدات الاجتماعية العراقية تزداد كلما مضينا من الجنوب نحو الشمال ، وليس العكس . صحيح أن جهويات البصرة لا تخلو من التنوعات الاجتماعية ، ولكن العلاقات بين الناس أكثر بساطة ومرونة وشفافية بحكم تفاهم الناس واندماج الريف بالمدينة .. لقد كان شط العرب سدا طبيعيا لمجتمع زراعي وتجاري مندمج من الطراز الأول .. وثمة أقليات سكانية تعاني هي الأخرى من التمييز حينا ، ومن الاضطهاد حينا آخر ، إذ نجد شريحة من الغجر ( الكاولية ، أو القرج في العرف العراقي ) ، تتنقل في أماكن مختلفة ، ناهيكم عن شرائح من العراقيين السود الذين يستوطنون البصرة ، وهم من بقايا الزنوج القدماء على أيام العباسيين ..
( وسنعالج في حلقات قادمة تفاصيل أكثر في تحليلات أوسع من بنية المجتمع العراقي ) .
فصلة من كتاب الدكتور سيار الجميل ( بنية المجتمع العراقي ) الجزء الاول
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 20 ابريل / نيسان 2009
www.sayyaraljamil.com
بنية المجتمع العراقي (1) الكشف عن رؤية عمياء للعراق !
الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / بنية المجتمع العراقي (2) المجتمع العراقي: النظرية الثلاثية.. التشكيل والصراع
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …