الرئيسية / افكار / مجتمعاتنا قيد الاعتقال !

مجتمعاتنا قيد الاعتقال !


مقدمة : من خصب التكوين الى انحلال المفاهيم
كنا قبل خمسين سنة قد تربينا في مدارسنا الأولى ، أهلية أم حكومية ، على قيم مدنية عليا سواء ما يتعلق بالتصرفات ، أو ما يتعلق بالعلاقات ، أو احترام ساعات العمل ، والموقف من الآخر ، والاعتزاز بالذات .. علمونا حب الوطن وخدمة الوالدين والإحسان لهما .. كّنا نحيي علم البلاد صباح كل خميس، ونحن كشّافة، وللكشافة أصولها وتقاليدها.. كنا ننشد النشيد الوطني ، ثم يتم التفتيش علينا للتأكد من سلامة الهيئة ونظافة الوجه والأظافر .. كنا نحترم كل معلمينا ومعلماتنا ، ونهابهم ، ونخشى من نظراتهم .. واعتقد أن ” الاستنارة ” لا تبدأ إلا من تلك النقطة الفاصلة التي يبدأ الإنسان فيها وعيه بالأشياء ، وإحساسه بالتدرب عليها منذ نعومة أظفاره ، ليكون إنسانا سويا بعلاقاته ، ومنفحتا بفكره ، وجليا برأيه .. ومرتبطا بأهله ، وعاشقا لترابه ، ومنتجا في يومه .. والاهم من كل هذا وذاك مستنيرا في حياته .. الخ ، ولكن ؟ ربما لم تكن الحياة مثالية أبدا ، ولكن المجتمع ، كان يرتبط بالقانون اكبر بكثير من اليوم ، وبالرغم من أن الدولة كانت حديثة النشأة ، إلا أنها كانت مهابة في مؤسساتها وشخصيتها العامة .. ويبدو لي ، أن جيل ما بين الحربين العظميين كان قد تربّى على مجموعة قيم وطنية ، وتقاليد حضارية ، اكبر بكثير مما جرى لما بعد الحرب العالمية الثانية ، وان جيل ما بعد الحرب الثانية الذي عاش الثورة ومتغيرات التفكير ، هو أفضل بكثير من جيل الانغلاق الذي عاش في الثلاثين سنة المنصرمة ، إذ انغلقت أمامه كل الأبواب ، وحرم من كل فرص التجديد والتفكير المدنيين ..

خمسون سنة من الانحرافات
ان الامر لا ينحصر بالعراقيين وحدهم حتى يتهمّوا بالتخلّف والتوحش ، فلكل مجتمع عربي هناته وسقطاته التي يسكت عنها الجميع ، صحيح ان العراقيين يفور دمهم بسرعة وتتغلب عواطفهم على كل الاشياء ، ولكن ما نسمعه ونراه من الافعال لدى شعوب اخرى ، تجعلنا نتوقف قليلا لمراجعة انفسنا اولا ، والتأمل بما جرى على امتداد خمسين سنة مضت .. وبفعل الصراعات الايديولوجية وتفاقم السياسات العقيمة ، ازداد عامل العزلة المقيتة التي اطبقت على المجتمعات سواء في المدن ام الارياف .. منذ ان حّرم الانفتاح ، وكّبل المجتمع بالممنوعات والمحّرمات ، وحوربت كل الافكار الرائعة ، والابداعات الخلاقة كونها ( بدعا ) وكل بدعة ضلالة .. وجرى احياء التقاليد البالية التي عاش عليها المجتمع في ازمان مضت ، بل واستفحلت العادات السيئة المتوارثة والمولدة بشكل لا يمكن تخيله اكثر بكثير مما كانت عليه قبل قرون .. لقد عانت مجتمعاتنا في الماضي من تقاليد سيئة في المدن والريف والبادية .. اذ كان قطاع الطرق والمسلك يسلبون وينهبون القوافل .. او كانت الهجمات ضد المدن لاغراض السرقة ، وكانت تصرفات الاشقياء والفتوات في المدن من البشاعة بمكان .. ولم تزل المرأة تعاني كثيرا في مجتمعاتنا من الاضطهادات والحرمان والسطوة .. وان ختان البنات في مصر والسودان خصوصا هي عملية بشعة لا يمكن ان يتقبلها الضمير الانساني ، ولم تزل حتى يومنا مكرّسة بتأثير ديني واضح ، ولم يزل هناك من يدافع عنها من رجال الازهر !! ولم تزل ممارسات قميئة تجري بحق مواريث البنات وحرمانهم من حقوقهن .. وهضم حقوق اليتامى من القاصرين .. ناهيكم عن ضرب الاطفال وتربيتهم باساليب قمعية ، ومحو شخصيتهم ، وسحق معنوياتهم ، وادخال الرعب في قلوبهم منذ صغرهم .. واهانة النساء وضربهن .. والقسوة على الذات باقصى درجات الممنوعات واساليب العزلة .. كما ازدادت نسبة الطلاقات في مجتمعاتنا نتيجة تفشي المشكلات الاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى ، كما تخبرنا دراسات علمية منشورة .. وهناك قتل عمد ، او رجم فاضح للنساء فقط ، او قتلهن دون الرجال باسم غسل العار والشرف .. هناك الثارات وقتل الابرياء .. هناك الهروب المتفشي ، والاحباطات المهولة بشكل لا يصدق نتيجة تناقضات المجتمع وقمع السلطات .. هناك التلاعب على القوانين بشتى الاساليب الماكرة .. وهناك التهرب من الضرائب ، ومن الخدمات العامة ، وهناك الممارسات الشاذة بكل اصنافها .. هناك العلاقات غير النظيفة وهدر المال العام واختلاساته .. هناك كراهية قديمة للدولة بسبب سوء ممارسات الانظمة السياسية لتصبح ” الدولة ” صورة بشعة .. ولما لم تتطور ” الدولة ” في منطقتنا أبدا بعدم تطور مؤسساتها التشريعية خصوصا ، واستمر الاداء ضعيفا في كل المؤسسات ، فلقد ازدادت الرشوة ، والوساطات ، والمحسوبيات ، والمنسوبيات ، وكثرت السجون واعتبر الخروج عن القانون شجاعة متناهية بدءا بالشقاوات والفتوات والقبضايات وصولا الى التهور وانعدام اخلاقيات قيادة السيارات ـ مثلا ـ في اغلب مجتمعاتنا .. هناك اتلاف للصحة بسبب كثرة التدخين وانتشار ( الشيشة ) ، وهناك هدر للزمن في الالاف المؤلفة من المقاهي المنتشرة في كل مجتمعاتنا .. ومؤخرا انتشرت مقاهي الانترنيت ليس لاغراض علمية ونظيفة بقدر ما وجدت لاغراض غير سليمة أبدا !!

كّل يدافع عن نقائضه
ان من يقلب مجتمعاتنا على بطانتها ، سيكشف هول الممارسات السيئة الخفية ، وسيكتشف المرء كم نسبة الشذوذ ؟ وكم نسبة الدعارة ؟ وكم نسبة المدمنين ؟ وكم نسبة المدخنين ؟ وكم نسبة المهوسين ؟ وكم نسبة البؤس الاجتماعي .. ؟؟ ناهيكم عن كل ما هو علني في البحث عن المتعة السرية واللهو غير البرئ وكل ما يسيئ للذات اينما كانت في هذا العالم تحت يافطات سياحية.. ولنسأل : كم هي نسبة الانحرافات نتيجة الكبت والحرمان وبسبب تقييد الحريات الشخصية في مجتمعاتنا بطريقة مناقضة لكل ما يمارس علنا .. ان مشكلات مجتمعاتنا انها تثوي بين النقائض ، وان الناس يدافعون عن تلك التناقضات لاسباب سايكلوجية معقدة ، فالمرأة تدافع عن قمعها ، والشاب يدافع عن جهله .. والاستاذ الجامعي يدافع عن سكونيته .. ورجل الدين يدافع عن مصالحه .. والسياسي يدافع عن واقعه ومناوراته ، والاعلامي يدافع عن اكاذيبه ومفبركاته ، والشابة تدافع عن زواجها العرفي .. ورئيس الدولة يدافع عن قراراته ودكتاتوريته .. وكل الناس تدافع عن ( مثاليات كاذبة ) لا اساس لها من الواقع ، اذ اختفت المثاليات من حياتنا بشكل تام ، وكلّ يدافع عن كل المخفي والمنظور ..
وماذا بعد ؟
لقد غدت مجتمعاتنا قيد الاعتقال ، مذ ارتهنت ارادتها بقيم ليست قيمها التي كانت عليها ، وانها اليوم تعيش في مخاض عميق من المشكلات الصعبة .. ان قواها اليوم ليست مدنية ولا اهلية ، بل ولدت في اغلبها جماعات اصولية متعصبة سيطرت على مقاليدها ، وقواها اليوم ، يجن جنونها من أي نقد ، او أي اصلاح ، او أي تغيير بفعل الربط في المخيال العام بين هذه التقاليد وبين القداسة ! واذا ما تجرأ كاتب ، او مصلح ، او مفكر ان يمارس دوره وزاد من انتقادات الاوضاع وُصٍِفَ باسوأ التهم ، بل واتهم بجلد الذات .. وكأن الذات بريئة كل البراءة ! وكأنها ذات حمل وديع في مجتمعات شرسة ونزقة اصبحت لا ترحم ابدا ! فلنا ان نتأمّل كيف سيغدو المجتمع اليوم بعد تلك الخلطة العقيمة التي اختلط فيها الحابل من السكان بالنابل منهم تحت مسمّيات شتى ، وانتجت كل التفاعلات المتصادمة في المجتمع الذي يعّبر اليوم عن ترسّباته وبقاياه من التقاليد الشقّية بعيدا عن كل الاساليب التجديدية التي يمارسها العالم اليوم .

نشرت على موقع الدكتور سيّار الجميل في 27 ديسمبر 2008
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …