Home / مقالات / قبل ان يأكلنا ماردُ العصر !

قبل ان يأكلنا ماردُ العصر !

صراع اليوم ليس بين شرق وغرب ، بل ان اللعبة تجري بين سكان عالمنا في الجنوب واستحالة حياتهم من دون مارد الشمال . علينا ان لا نكابر ، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه من دون منتجات عالم الشمال .. هذا الذي يجثم على مصادر الطاقة ، ويكرر ثروات الارض ، ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال ، مع ثورة المعلومات ، والاتصالات ، وتكنولوجيا الاعلام في عموم الارض .. هل تنفع معه ما تبقى لدينا من فضلات ايديولوجية ، ومن استعراضات فارغة ، ومن شعارات طنانة ، ومن مأثورات عاطفية تملؤها التناقضات ؟
اي ” فكر ” هذا الذي باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله ، وهو يلاحق الجبابرة على ممتلكات الفقراء ! اية ادوار ، واية مواقف ، يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا لنعرف كيف نخاطبه ونطالبه ؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه ؟ اية اهداف ، واية امنيات ، واية احلام كتلك التي آمنا بها وطالبنا بتحقيقها ، يمكنها ان تكون اليوم بعد ان خربنّا طرقنا ، وشتتنا جهودنا ، وقتلنا مشروعاتنا ، واحرقنا زمننا ، وضيعنا فرصنا ، وعطلنا قدراتنا ، وجمدنا عقولنا ، وذبحنا شبابنا ، وفرّقنا شملنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الردح والشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد والتكفير والموت ؟
من علم ملايين الناس كل هذه الاقانيم السوداء ؟ من جعلهم ينشدّون دوما الى الوراء من دون استقامة الطريق ؟ من جعلهم يلوكون النصوص ، صباح مساء ، وهم لا يدركون كم هو الزمن ثمين في مقياس الشعوب ؟ من علمهم الكسل ، والتواكل ، والاستسلام للضياع ؟ من جعلهم لا يعرفون الا المثالب والسوالب في الحياة ؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة ؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم وتلبية حاجات نداء الطبيعة ؟
ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء ، والمبدعين ، والخلاقين ، والوعاة ، والحرفيين ، والمكتشفين .. ولا مكان للاغبياء ، والكسالى ، والمقلدين ، والمرددين ، والمتكلسين ، والنائمين ، والهائمين ، والخياليين .. ان مارد العصر لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته ، وتكنولوجيته ، وتطور حضارته ، ونظم معلوماته ، ومصالح اقتصاداته .. الخ ان المارد المعاصر يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة ، ويهمّه كيف يسّوق بضاعته الكمالية ، واسلحته الفتاكة ، وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين ، ونحن من اكبر المستهلكين ليس لمنتجاته فقط ، بل لكل الزمن والطاقة والعقل والمال .
مئة سنة مرت ولم تحقق الايديولوجيات اهدافها .. وعليه ، فان النخب العليا في اي مجتمع ، مطالبة بالضغط على الحكومات ، من اجل تغيير المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية .. وكل ما من شأنه ، ان يأخذ بالتحولات من دون اي طفرة وراثية ، ومن دون اي قفزة نوعية ، ومن دون حرق للمراحل .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح على العصر .. وان تتضّح مقاصدنا ، واهدافنا بعيدا عن اللف والدوران ، وعن اللعب بالتناقضات ، وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير .. علينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون .. والعمل المنتج . وان نحافظ علي الحدود الدنيا من العلاقات الادبية التي يحترم فيها احدنا الاخر علي الاقل ، وهنا ، يستوجب الانطلاق من واقع مهترئ ينبغي تغييره او تطويره ، وان يتقّبل كل المستحدثات الجارية في العالم بروح عالية .. اننا مدعوون جميعا لوضع اسلوب عمل صريح وشجاع يطالب بالنص مراعاة التشريعات الخاصة بذلك .
نعم ، ان حياتنا العربية ، الرسمية والاهلية ، بحاجة ماسة الي اصدار تشريعات وضوابط لكل مرفق من المرافق والمؤسسات والاجهزة المستخدمة ، وان تخضع ثورة التحديث الي هيئات نزاهة وان تخضع كل التجاوزات للقضاء .. لابد من تغيير في نهج الذات ، وتماسك في العلاقات ، والتزام العمل .. وشفافية الحوار ، ينبغي ابداع الكلمة ، والنص ، والريشة ، والصورة والصوت ، والعقل ، والمشاعر ، والجمال ، واثراء الثقافة الحقيقية واشراكها في سيرورة الثقافة العالمية .
وأخيرا ، ينبغي تفعيل اي بادرة او اكثر من اجل ان يكون كل الانسان في مجتمعاتنا كفوءا ومحترفا ومنتجا ، وان يلتزم جملة تقاليد واعراف نهضوية لا حيدة عنها .. وان تمارس اخلاقيات في غاية النضج ، وان تؤسس برامج عمل ، وتشرع قوانين ، والانطلاق بكل ما يمكن ان يسّهل العمل ويرسّخ الشفافية بعيدا عن الفوضي السائدة .. ان الحياة العربية ينبغي ان تكون مؤسسة للمنتجين ، ورحابا للمثقفين ، وتجمعا للمبدعين ، ومنظومة للعاملين ، وميدانا للتربويين ، وساحة للفنانين الحقيقيين . اننا بأمس الحاجة الي ان نعيد التفكير بمسيرتنا ، حتي وان كانت قصيرة والا سنكتب ضربا من العبث والجنون ، ومهما بقينا متنازعين بمثل هذا المستوي فسوف يسجل العالم علينا بأننا غير مؤهلين ابدا للعمل بروح جماعية وحداثوية .. فهل سندخل حقا القرن الواحد والعشرين ؟ وهل سننجح باستخدام آخر منجزات العصر من اجل الارتقاء بواقعنا وافكارنا وخطابنا وكل وجودنا الي زمن جديد ؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة .

البيان الاماراتية ، 17 ديسمبر 2008

www.sayyaraljamil.com

Check Also

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …