تعرفت من خلال موقع الدكتور الصديق سيار الجميل والذي اسميه بيني وبين نفسي، “مؤسسة ثقافية كاملة” لعمق إنتاجه وغزارته غير الإعتيادية، تعرفت على عائلة الجميل وبالذات جده علي أفندي الجميل، وكان “جميلاً” بحق كما هو حفيده سيار!
قبل كل شيء أود أن انبه القارئ إلى أنني متحيز للموصل وإهلها، فقد قضيت فيها سنوات دراستي الجامعية وسرت في شوارعها في ليال حالكة وظهيرات قائظة ومازالت صور أزقتها وحاراتها وجايخاناتها، كصور أصدقائي الرائعين فيها، شاخصة بخطوط حادة في ذاكرتي كأنها كانت البارحة.
لكن صورة أخرى للموصل كانت قد تكونت في خيال طفولتي قبل ذاكرتي. فقد كان مدرسنا للغة الإنكليزية في المتوسطة “مصلاوي”. كان يقول: “أنتم لا تعرفون المطر…المطر في الموصل ..غزير…رهيب” ووجهه يتقمص الكلمة الأخيرة بمسرحية لاتنسى، فتتصوره صبياً يهرول نحو بيته في أزقة الموصل، ومطرها “الرهيب” يطارده وينصب عليه انصباباً.
الموصل مدينة تبدأ التعرف عليك بأن تعلن لك خصوصيتها وأنها لن تكون طوع بنانك بسهولة! تضع أمامك منذ البدء لهجة غريبة، ويتحداك الذكاء والمنطق المصلاوي بوضوح ولكن بأدب كلما تحدثت إلى شخص في المدينة. فالذكاء والنشاط في الموصل هو المعتاد، لذلك فأنك كثرما تبدأ تعارفك مع أي مصلاوي جديد بشيء من القلق لأنك تشعر أنك مطالب بأن تجاريه حتى لو لم يبدر منه أي شيء يدل على التحدي!
الذكاء والنشاط في الموصل هو المعتاد، لكني حين عرفت الدكتور سيار الجميل وجدت فيه مثالاً متطرفاً لهذه الطبيعة “المصلاوية” المدهشة، وحين تعرفت على عائلته من خلال موقعه، زال أندهاشي، فهاهو جده علي أفندي الجميل الذي عاش أوائل القرن العشرين يتحدى من يعيش اليوم أوائل القرن الحادي والعشرين، ويبزه في الإنتاج والنشاط والذكاء والمعرفة المتعددة العميقة، وأكثر من ذلك بالوعي العام الإجتماعي والسياسي ووزن الأمور وقياسها ويكاد يستحيل مجاراته في إحساسه القوي بالمسؤولية الواسعة عن وطنيه: الموصل والعراق الذي يكن لهما كل….العشق!
إنه يحدث “العراق” كصديق حبيب قريب إلى قلبه فيتخيله بهيئة إنسان يتكلم معه فيقول:
“أيها القطر المقدس ! ايها العراق العريق : مرت عليك عصور وقرون ، وتداولته دول بعد دول ، وأجيال بعد أجيال وتقاذفتك المقادير من حال إلى حال”
“هلم أيها الشيخ الكبير حول منصة الصدق والإخلاص فأناشدك بعض كلمات. هلم أناشدك عن سوانحك القديمة ومجرياتك السانعة ، علك تزيح أوهاماً وتحلبوا ظنوناً ثم تبعث نوراً وتولد حقيقة. ”
“مالي أراك قد لاحت على ناصيتك تجعدات رسمتها الآلف من الأعوام والدهور وأنت تشير لنا إلى حياتك الماضية محنياً رأسك تبجيلاً لها وتعظيم”.
عندما تقرأ علي أفندي الجميل، تشعر باعتزازه بهوياته المختلفة ينضح اليك. هاهو يكتب رسالة غاضبة إلى زعماء الاتحاد والترقي الذين لم يفوا بعهودهم التي قطعوها للعرب عام 1909 ويوزعها سراً على زملائه الطلاب في استانبول معرضاً نفسه للخطر.
لكنه ليس أبداً اعتزاز مغرور، فلم يكن هذا من طبعه. فهاهو يقدم لطلاب النادي العلمي عام 1919 درساً في التواضع قبل أن يقدم لهم محاضرة في اللغة العربية عندما بدأها بأدب جم قائلاً:
“عفواً عما تجدوه من لكنة في لساني ، أو خلل في بياني ، فهذه أول مرة وقفت فيكم خطيباً،أرى نفسي سعيداً جداً بموقفي هذا بين جدران هذا المعهد العلمي وسط شبان قد جمعتهم جامعة العلم والأدب “.
وليس اعتزاز علي الجميل بوطنه وقومه اعتزاز قومي تفوقي أو شوفيني، فهاهو يحتج على “قانون الألوية” لأنه اكتشف فيه عبارة يمكن لإستخدامها أن يضر بغير المسلمين فيكتب رسالة غاضبة يحدد فيها الخطأ بدقة علمية ويحيطها بالتحليل والمناقشة:
” أما إذا كان غير المسلمين الخمس أو السدس فكيف تكون المعاملة إذ ذاك وواضع القانون قد حدد عدد الأعضاء تحديداً صريحاً لا يتجاوز الأربعة أعضاء، لا نشك بأن الحكومة تعلم علم اليقين بان غير المسلمين لم يبلغوا ربع مجموع السكان في أي وحدة من وحدات إدارية العراق فهل تكون الحكومة قد أمنت حقوق غير المسلمين بهذه العبارة وإذا كان ما بسطناه آنفاً صحيحاً فهل نكون معذورين فيما إذا قلنا أن الحكومة بهذه المادة القانونية قد قصدت حرمان غير المسلمين من الحقوق الوطنية أفلم يكن الأجدر بالحكومة على هذه المادة من تدوينها بتلك الصورة؟ ”
أعتزاز علي الجميل لم يكن إلا اعتزاز من يرفض أن تكون أمته أقل من غيرها. إعتزاز إنساني سليم ما احوجنا اليوم أليه أمام المد الطائفي في صديقك العراق اليوم يا علي.
وعلي الجميل باحث اجتماعي ممتاز وديمقراطي حديث للغاية، وصحفي مقنع يبحث في التأريخ وفي الدين ليجد فيه ما يؤكد نظرته ويقنع قراءه بها بالحجة التي لايسهل الدوران حولها، فيشير إلى ما في كلمات للإمام علي ويقول: ” هذا منتهى الديمقراطية في صدر الاسلام مثلها لنا الامام علي بن أبي طالب ( رض )، بهذه الكلمات الوجيزة ، وليس هذا الا ما ترمي اليه الشريعة السمحاء”.
إضافة إلى موهبته الشعرية الفذة والصحفية التي سبقت زمنها في حداثتها وعلميتها، لم يترك علي الجميل مجالاً يرى أن معرفته به قد تفيد وطنه وابناء بلده إلا ودرسه وكتب فيه ونقل ما وجده من ايجابيات لدى الغرب وغيره معززاً بالأمثلة المحددة بالأسماء والتواريخ، فتجد له مقالات في إصلاح المعرفة وفي تربية الطفل وفي التأريخ والأدب والسياسة بالطبع. وفي هذه الأخيرة كتب الجميل بوعي يحسده عليه أبناء هذه الأيام، فإذا به يكتب عن فلسطين وعن حل القضية الذي يتم التهرب منه دائماً فقال: ” وغاية ما يرمي اليه أهل البلاد الموافقة على ذلك بشرط ان لا يكون الحل ظاهره عطاء وحقيقته سلب !” وكأنك ياعلي تقف بيننا الآن وتقرأ معنا الأخبار وتحليلها، فلم يتغير الأمر قيد شعرة!
نعم يا أستاذي العزيز، من الواضح أن مطر الموصل كان غزيراً رهيباً كما قلت لنا، فلم يكن لغير ذلك الزخ الثر أن ينبت مثل هذه الأشجار الباسقة التي تزين أم الربيعين!
21 أيلول 2008