امتازت فترة الإصلاحات العثمانية في 1908 التي طغى عليها شعار حزب الاتحاد والترقي ( حريت،عدالت ،مساوات) بفوران في المشهد السياسي، تزامن مع زيادة عدد الجمعيات السياسة والاجتماعية والقومية، وبدء نهضة صحفية كما ونوعا في كافة الولايات العثمانية. وقد ساهمت التطورات المتلاحقة في تطور النزاع السياسي بين حزب الاتحاد والترقي الحاكم والأحزاب الأخرى ، الأمر الذي أدى في نهاية الأمر ، إلى انفراد أنور باشا وزملائه بالسلطة بعد انقلاب عام 1913 ، وتبني سياسية مركزية قومية قائمة على التتريك. وقد أدت هذه السياسة إلى تزايد الشعور القومي العربي كرد فعل طبيعي لهذه السياسية ،دون أن تفوتنا الإشارة بأن بذرة المشاعر القومية نمت أصلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال تأسيس التنظيمات والجمعيات السرية والعلنية في بيروت (الجمعية العلمية السورية ) وجمعية ( الشورى ) في مصر عام 1875 و( الجمعية الوطنية العربية ) بباريس.
وقد قويت جذور هذه الجمعيات في القرن العشرين بتشكيل( جمعية الإخاء العربي ـ العثماني) و( الجمعية القحطانية) و( جمعية العهد) و( جمعية القومية العربية) وغيرها.
في وسط هذا الجو السياسي المفعم بالحماس كان المرحوم علي الجميل وهو من أشهر الشخصيات المعروفة في الموصل ككاتب ومصلح نهضوي طموح، يواصل نشاطه السياسي والاجتماعي والأدبي كأحد دعاة الفكر القومي العربي ، رغم تعرضه إلى القمع والاضطهاد على يد السلطات العثمانية ، مما اضطر بسببه إلى الاختفاء في مضارب البادية عند أبناء عمومته فترة من الزمن لم يعد خلالها إلى داره الا بعد سقوط الحكم العثماني في العراق .
حياة المرحوم علي الجميل رغم قصرها (39 سنة) زاخرة بنشاط مكثف على الأصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية. فبحثه عن العدالة الاجتماعية وتبنيه للفكر الحضاري المستنير الذي بدأ به في العهد العثماني لم يتوقف، ولم يحصر إيمانه على فكرة (القومية العربية) بل طورها عراقيا بعد تأسيس الحكم الوطني بشعار ( الأمة العراقية)..والغريب أن يتم بعد مايقارب القرن من الزمان لطرحه هذه الفكرة الوطنية السطو عليها من قبل أحد الكتاب العراقيين على أنها من بنات أفكاره ، دون أدنى شعور بالخجل في كونه يسطو على منهاج فكري لشخصية عراقية وطنية ، نادى بها قبل مايقارب العشرة عقود !
كان تأسيس المرحوم علي الجميل لـ ( النادي العربي) في الموصل عام 1919 إيذانا ببدء مرحلة بمرحلة وطنية جديدة من حياته تحول فيها بيته إلى صالون يجتمع فيه مع رجال العلم والأدب والفكر والسياسية في الموصل. ويذكر أن الصالونات الأدبية التي بدأت وانتشرت في منتصف القرن التاسع عشر في بعض البيوت في مصر ولبنان وسوريا كان شائعا في تلك الفترة وماتلاها حتى بداية الستينيات . ولعل بيت على الجميل بخصوصيته المذكورة يعتبر أول صالون للنخبة المثقفة المستنيرة في الموصل.
لم يشعر المرحوم علي الجميل ان مهمة المثقف المستنير المتطلع نحو نهضة وطنه وازدهاره محددة بمرحلة سياسية معينة ، لذلك أبى أن يتوقف عند محطة محدودة ، فلم يكن هدفه قائما في مراحل عمره القصير على تحقيق مغانم أومنافع شخصية ، بل احتضن كل هموم الوطن في تلك الفترة المبكرة والحاسمة والحرجة من تاريخ العراق . وقد تجلى هذا المشهد في حياته من خلال عضويته في جمعية الدفاع الوطني ، التي تشكلت للدفاع عن عروبة الموصل وعراقيتها ، عقب مطالبة تركيا بولاية الموصل في فترة الانتداب البريطاني على العراق.
لم يتطلع المرحوم علي الجميل عبر نضاله ومواقفه الوطنية إلى احتلال مركز أو أي منصب كهدف أساسي له عند بداية تشكيل الدولة العراقية في 1921 وبعدها، مفضلا الاستمرار في دوره النهضوي والتنويري كمثقف وطني من خلال إصدار جريدة ( صدى الجمهور) في 1927 لتكون منبرا لأفكاره ومقالاته النقدية وأفكاره الإصلاحية . إضافة إلى مؤلفاته في النقد الاجتماعي والسياسي، وفي الشعر والترجمة والقصة.
توفي المرحوم علي الجميل في عام 1928 بعد أن صال وجال في كل مجال بهدف واحد لم يغيره طوال حياته : العمل على رفعة الدولة العراقية الفتية ، ومحاربة الجهل والتخلف والقيم الاجتماعية البالية ، والنهل من القيم الحضارية وتجارب الدول المتقدمة في السياسة والاقتصاد والاجتماع .
امتاز المرحوم علي الجميل كما نستدل على ذلك من سيرته الذاتية بأنه كان شجاعا في طرح مواقفه التي يؤمن بها ، واضعا في حساباته حجم القمع والاضطهاد والتنكيل الذي سيتعرض له بسببها.
شخصيا أثارتني كثيرا تلك الرسالة الانتقادية اللاذعة التي وجهها عام 1909 إلى زعماء حزب الاتحاد والترقي. ويخيل لمن يقرأها سطورها التي كتبت منذ مايقارب من المائة عام ، بأنها تنطبق لمصداقيتها القوية وقراءتها لمستقبل القمع والاضطهاد أنه يقرأ المشهد العراقي الحالي خاصة والعربي الراهن عامة :
” .. توهمون الأمة إنكم تجاهدون في سبيل حريتها ، وتمتعها بحقوقها ، وما ذاك الا جهاد في سبيل المناصب الرفيعة والرتب العالية ،والتنعم بالرواتب التي تتسرب إلى جيوبكم من دماء الأمة والسيطرة على الضعفاء.
(…) لئن أحبتكم جهلاء الأمة اليوم، فلا أظنها تحبكم غدا، فسحب الجهل لابد وأن تتكشف، والحقيقة لابد أن تنجلي ولو بعد حين، ومن لعب بالدهر سويعة فلا بد أن يلعب به الدهر كثيرا من السنين. (…) يازعماء الأمة رفقا بالأمة ، سيسألكم خالق الأمة عما تكيدون به الأمة، بوركت لكم المناصب ثم هنيئا لكم الرتب والرواتب لا نريد منازعتكم إياها ،ولكن سيلعنكم التاريخ غدا ان لم يلعنكم اليوم ، ويلكم تريدون أن تخدعوا الأمة، فتارة الدين الدين ، وأخرى الإصلاح الإصلاح ، ومحبو الجاه ، وعشاق المناصب يصفقون من ورائكم ولا يعلمون إلى أين أنتم سائرون والى أين نحن صائرون ..” .
الذاكرة العراقية ويا للأسف لاتتذكر الماضي ، ولا تحاول أن تتذكر بالعرفان والذكرى الطيبة جهود شخصياتها الثقافية والسياسية الوطنية التي كانت لها دورا نهضويا في بناء دولة العراق . تبدو هذه الذاكرة مفتوحة فقط على الحزبية الضيقة ، ومدينة للولاء العشائري والجهوي والمذهبي. وكما قال د.سيار الجميل ( حفيد المرحوم علي الجميل) في إحدى مقالاته في تشخيص واقعي للذاكرة العراقية المنهكة ” ان كل جيل عراقي يشطب على من سبقه تشطيبا كاملا بأساليب مختلفة .بسبب الطبيعة العراقية (…) ولا تتذكر السواعد التي قامت عليها العراق منذ بدايات القرن العشرين “.
لكنني رغم كل مافي الذاكرة العراقية من تجاهل و ظلام وعتمة ، متفائل ان هذه الذاكرة لابد أن تستيقظ يوما ، وتستعيد عافيتها لتضع في رفوفها العالية أسماء علي الجميل ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ونوري السعيد وكامل الجادرجي وجعفر أبو تمن ، وكل من خدم العراق وعمل من اجل أن يحتل مكانته كنخلة سامقة ، تطال قامتها السماء بين دول العالم المتحضر .