مقدمة
إن الكثير من أحداث العراق التي حصلت لما قبل تاريخ النظام الملكي الهاشمي وتأسيس المؤسسات الحكومية للدولة الجديدة ، يمكن فهمه كونه جزءا في فترة تاريخية محدودة ومعقدة من الصراع الدولي بين القوى الاستعمارية القديمة ، وكانت بريطانيا على رأسها ، والتي غدا لها تاريخ مشترك مع العراق ، كونه واحد من أهم مستعمراتها التي سيطرت عليها ابان الحرب العالمية الاولى . ومن البديهي أن حقيقة حياة المدن العديدة ومجموعات الناس ، ونخبهم ، وفئاتهم ، وشرائحهم ، وطبقاتهم ، ومللهم ، ونحلهم في وادي الرافدين كانت تبادلية التناقضات ، ولنقل ان كنّا أكثر دقة، إن قيام ونشوء مجموعات متنوعة ، ومتناقضة ، من الناس سواء كانوا جماعات وطبقات مدن ، أو عشائر ارياف ، أو قبائل بدوية .. كلها خاوية من الهوية الوطنية القوية- كقاعدة في أولويات الشعوب – انما ملازم لوجود أمة ضعيفة،ومفككة لا يجمعها رابط ، ولا تنظمها شرعة أو دستور ، والعكس صحيح كما يعرف الجميع .
مكابدات التاريخ
إن تطور المدن بكل مجتمعاتها الحية ، ونخبها المتميزة ، وقواها الاهلية الفاعلة ، متورط بانهيار العشائرية الريفية ، أو القبائل البدوية التي تقف دوما ضد التحضر والتمدن والتحديث في أساليب الحياة . ولذلك فان الحقبة التاريخية بين القرن الثالث عشر والقرن الثامن عشر الميلاديين ( = 5 قرون ) التي شهدت انهيار الخلافة العباسية في العراق ، بدءا بما فعله المغول ، انتقالاً الى الخراب التام الذي عمّ العراق ، وخصوصا ، في اعماق الخنادق القديمة مرورا بحكم الايلخانيين ، ومن ثمّ بغزو الجلائريين ، وحكم التركمانيين، وهجمة المغول التتار التيموريين، وانسحاقا على أيدي الصفويين الإيرانيين ، ثم حكم الأتراك العثمانيين، اذ شهد العراق على أرضه أقسى الحروب الدموية الطويلة المتقطعة العثمانية ـ الايرانية ، وهي واحدة من أعظم الحقائق التي تكرر تأكيد نفسها دوما بأضعاف المدن العراقية من النواحي الاقتصادية والثقافية خصوصا . ومن المحتم ، ان ذلك يعني حقا : تأخر واضح في التاريخ التراكمي والتطور الاجتماعي للعراقيين الذين احتفظوا على امتداد تلك المراحل التاريخية السكونية بمواريثهم الاجتماعية ، وبتقاليدهم ، وعاداتهم الثقافية وفولكلورياتهم وما تبقى من تراثهم الزاهر .
البدايات الاولى : جذور التحديث
لكن الحياة الجديدة والأفكار الجديدة التي زرعت في العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفضل وسائل الاتصالات الحديثة، وحلقات الاتصال مع مدن العالم، وبعثات الآثاريين الاركيولوجيين الاوربيين ، وتأثير القناصل ، والشركات التجارية ، والمدارس الجديدة في ابرز مدن العراقيين .. ومن خلال عوامل أخرى تعود إلى رجوع النزعة التاريخية التي تقود لاستعادة المدن وبدايات التحليل لنشوء الأمم. وبذلك الصراع من اجل الاصلاح بدءا بالتنظيمات الخيرية ووصولا الى الانقلابية الاتحادية، كانت هناك محاولات لاعادة تشكيل للدولة العثمانية على اسس اصلاحية في القرن التاسع عشر، وتبلور فعاليات الشباب الأتراك المتشبثين بالقومية ، والذين صعّدوا ثورة 1908 إلى حكم وهيمنة السياسة الجديدة وسريان التفكير الوطني ، وخصوصا في مؤثراته على العراق لدى أبرز مثقفيه ورجالاته وعسكرييه. ومن الممكن القول أنه البداية الحقيقية للتفكير القومي / الوطني عند العرب وخصوصا عند العراقيين ، وارهاصاتهم للحصول على الفوز بكيان مفتقد وخصوصا شعور النخب المثقفة في المدن بذلك لأول مرة بعد تاريخ طويل من المكابدات .
الإنكليز في العراق :
ومن جانب آخر ، فقد أثار القلق ، تفكير تلك النخب ورجالاتها الذين كانوا يشعرون بأن تكلفة المحافظة على الوطن لا يمكن ان توازيها قوة الاحتلال . وان الانكليز وجدوا أن من مصلحتهم تأسيس مشاهد التوازن بين رجال القبائل ضد رجال المدن، فهي الضمان القوي لاستمرار قوتهم. ليس فقط في محاولتهم أن يوقفوا ، او يجهضوا ، جهد العراقيين الأولين لعملية نشوء الأمة، أو حتى أنه يبريء السلطة من زعماء القبيلة، أو حتى المحافظة على أدنى حد من التفاعل بين رجال القبائل ورجال المدن، ولكن أيضاً حاولوا تجميد وجود الشق الاجتماعي بواسطة الاندماج والإدراك لتقاليد القبائل في العراق ، وان نزاعا قانونيا في القبيلة قد ظهر بواسطة الانكليز في 27-7-1918 مع إعلان وجود قوة القانون التي فرضها وجود المستعمر الانكليزي . كما وتأسس قانون ملكية الأرض في الفترة الاولى من العهد الملكي تحت بنود 113-114 في الدستور العراقي ( = القانون الاساسي ) عام 1925 ، ( وهو من اهم القوانين الاساسية التي صدرت في عموم دول المنطقة حتى ذلك الوقت ) وقد استثنى ذلك القانون الريف من حدود القانون المحلي ، كونه اراد ان تكون النقلة طبيعية وغير مفروضة بالقوة ، وخصوصا ، بعد ان ينتشر الوعي وتتماسك المواطنة . وبعد التغيير التاريخي الذي حدث بعد 14 شهر تموز/يوليو 1958 تم إعتبار العراق قانونياً مقسم إلى قسمين واحد للمدن والآخر للقبائل والريف ؛ وفي نفس الوقت، كان التبرع الانكليزي على شكل أفكار أو مهارات في حقول وزارات كالري والزراعة، وفي مجالات أخرى، وذلك لم يأت مصادفة ، بل تبلور مع ازدياد الاهتمامات الأساسية لدى الامبريالية والانتقال من التفكير الكولينيالي السابق ، ولكن مما لا شك فيه أنه ساعد في عملية تقدم العراق نحو نظام قابل للتطبيق. في العشرينات ، كان الوجود الانكليزي ، من الممكن ، أن يكون حاسما في بقاء العراق وحدة كلية لا تتجزأ أبدا ، اذا ما روعيت خصوصياته الاجتماعية والسكانية وترسيح مبادئ يحترمها ويعتز بها الجميع .
آراء هنري دوبس :
كان العراق يمر في عشرينيات القرن العشرين بمخاض صعب جدا ، ففي ذلك العقد التاريخي ( =10 سنوات من 1920-1930) كتب هنري دوبس المفوض السياسي البريطاني في العراق قائلا : ” أن حكومة العراق- باعتقادي- في خلال بضعة شهور قادمة إما أن تتلاشى جميعها أو أن تعود لتتماسك بيأس ، حتى يجرد الإقليم بأكمله، وان جميع باقي البلاد ستسقط وتنهار. اذ ان الملكية نظام ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه، وان قوة الجيش ضعيفة ، وان ملكية القبيلة الخاصة تم حشوها بالجيش .. ” ! من الصعب علينا أن نتفق في الرأي مع ما سجله هنري دوبس، ولكن علينا ، أن نعترف ، من جهة أخرى ، بأن الحالة العراقية كانت صعبة جدا بكل جوانبها ، اذ قام الانكليز بأدوارهم الاستراتيجية من أجل مصالحهم أكثر مما هو تلبية للمطاليب الوطنية التي لم يكن يشعر بها الجميع .. ويؤكد أكثر من مؤرخ درس العراق المعاصر في تشكيله لأول مرة ، بأن مصالح الانكليز قد التقت مع مصالح العراقيين من حيث لا يشعر هؤلاء ، فالانكليز وقفوا لجعل ولاية الموصل تحت نفوذهم لا النفوذ الفرنسي ، كما اراد الفرنسيون ذلك اولا ، والانكليز هم الذين وقفوا كي تكون ولاية الموصل عراقية وليست تركية ، كما طالب بها الاتراك .. وعندما تذكر ولاية الموصل كأقليم ، انما يقصد بها كل من الوية : الموصل ( بما فيها قضاء دهوك ) واربيل وكركوك والسليمانية . ان مصير الاقليم كان في كف عفريت ، لولا الجهود التي بذلها الوطنيون العراقيون في هيئة الدفاع عن الموصل .
فيصل الاول : الرجل المناسب
كثيرون ، هم الذين يعترضون على فيصل الاول ، ويعتبون على الانكليز الذين أتوا بفيصل بن الحسين ملكا ، ولكن ثمة ارادة عراقية كانت مجمعة على ان يكون عاهلا للعراق بلا منازع ، ليس لئن ليس في العراق من يصلح لحكمه ، بل لئن العراق نفسه كان بحاجة الى من له مكانة سياسية قوية ، ومعروف دوليا ، وصاحب مخاض تاريخي طويل .. واعتقد ان فيصلا لم يكن الا مؤسسا ناجحا لاصعب بلد في الشرق الاوسط كله ! ولعلّ من أهم المكاسب التي لم يعرها العراقيون اي اهتمام ، تتمثّل بترسيخ النزعة الوطنية منذ وجود الاحتلال البريطاني مرورا بعهد فيصل الاول الذي ساوى بين الجميع في رؤيته ومواقفه ، واستطاع ان ينجح الى حد كبير في تأسيس مشروع وحدة وطنية عراقية لم يعد يعرها أحد اي اهتمام ويا للاسف الشديد .. كان يزور معابد العراقيين كلها .. كانت له شجرة باسقة وقديمة معروفة باسمه في ناحية زاويته قرب دهوك يجلس تحتها ويلتف من حوله اغوات الاكراد بمحبة واحترام .. كان يزور العتبات المقدسة دوما محترما اياها واهلها .. كان يقف متأملا في دجلة على شرفة بيت الشربتشي بالموصل .. كان يزور المعابد اليهودية والكنائس المسيحية ، ولا يفرق بين العراقيين ابدا . كان يلتقي بشيوخ القبائل والعشائر في كل مكان ليتكلم بلهجتهم البدوية ، ويأكل بيده على مائدتهم . كان يحترم الجميع ، ولكنه لم يجعل نفسه جزءا من اي طرف ، اي لم يتخندق مع اي طرف ! ان من يقرأ مذكرات الساسة العراقيين بالذات عنه ، سيجد نفسه امام زعيم له مهارته وحذاقته وكان بالفعل ضرورة عراقية ، ولكنه دفع ثمنا كبيرا من معاناته ومكابداته واتعابه في تكوين دولة غابت منذ قرون .. بل وان الرجل ، دفع حياته كلها من اجل العراق الذي كان بأمس الحاجة اليه في اصعب الظروف .
تجاوز الصعاب
لم يكن العراق بلدا نفطيا وثريا في تلك المرحلة التأسيسية .. لقد كان بلدا معدما خرج من تاريخ صعب كله مجاعات وامراض وطواعين وفقر وجهل وأمية وفراغ .. كان المجتمع يعتريه الجوع والالام والمصاعب التي لا توصف .. لقد بدأ العراق من الصفر في كل المجالات .. علينا ان نكون منصفين بحق من تعب من اجل العراق وتكوين العراق المعاصر .. بل وكان وراء مشروع وحدته الوطنية التي ليس من السهولة خلقها في مجتمع متنوع النزعات ومتباين المستويات ، ويعيش جملة هائلة من التحديات . والمعروف ان الملك فيصل الاول ومعه العشرات من الوطنيين العراقيين ، انهم كانوا يشتكون من كثرة الازمات السياسية والاقتصادية ، خصوصا ، وان العالم كان يمر بأعتى أزمة اقتصادية مرت عليه في التاريخ ، فضلا عن العناية باحتياجات الجيش العراقي .. وقيام الحكومة بتأجيل الاعلان عن قانون التجنيد الالزامي لأطول فترة ممكنة ، وذلك لأن الاعلان عن تجنيد إلزامي في العراق والذي سيتعارض مع الخدمة التطوعية عند القبائل التي لا ترغب البتة بالخدمة الالزامية ، وقد وجدت الحكومات العراقية عند مطلع الثلاثينيات بأن التجنيد الالزامي سوف يستغل عبء القوة العسكرية ويحقق في نفس الوقت التقليل من العبء المالي والنفقات .
واخيرا : رسالة الى كل العراقيين
لقد كان تكوين العراق المعاصر عملية تاريخية صعبة للغاية ، فليس من الانصاف ابدا ان نأتي بعد عقود طوال من السنين وعند مطلع القرن الواحد والعشرين ، لنفكك العراق علنا ، ونشعل فيه الانقسامات تحت يافطات وشعارات لا تصلح له ، ولا يمكن ان تتحقق ابدا .. مع فرقاء لهم مصالحهم الخاصة التي يعتبرونها فوق المصلحة العراقية العليا .. وتجدهم يتصارعون على ( مناطق مسلوخة ) كما يسمونها ، وكأن ليس العراق واحدا موحدا ؟ انها رسالة اريد ان ادفعها الى كل الذين يريدون شرذمة العراق ويتطلعون الى انقسامه .. الى كل الذين يسعون دوما غير معترفين بالعراق اصلا ، ولا يعتبرون انفسهم بعراقيين .. وهم يعلمون علم اليقين ان احلامهم لم تتحقق ابدا لا من الناحية العراقية ولا الاقليمية ولا الدولية .. انه جنون المتعصبين طائفيين كانوا ام شوفينيين ، وما اكثرهم في مثل هذا الزمن !
يتبع ـ للمقال صلة ـ
12 آب / اغسطس 2008
Check Also
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …