دعوني أسأل ثانية عن الفضائيات العربية التي يزداد عددها مع الأيام، وقد غدت خلال السنوات العشر الأخيرة شبكة قنوات حكومية رسمية وشبه رسمية، أو قنوات لدول وقوى خاصة لها أجندتها وأهدافها.. وفي بث متواصل ليلا ونهارا، وتدخل كل بيت عربي بلا استئذان عبر غابة من المستقبلات، بل إن ثمة بيوتا تستقبل غرفها المتعددة أكثر من محطة وقناة وعلى شاشات واسعة!! أسأل: هل تقوم الفضائيات العربية بادوار حقيقية وذكية في خدمة مجتمعاتنا قاطبة، وكل من يشاركنا حياتنا وأساليب عيشنا من الناس والجاليات في كل الدنيا؟
أسأل من باب الحرص على تقدمّنا وتطوّر مصائرنا: إذا كانت فضائية أو اثنتان، أو زد ثلاثة، قد نجحت في بث الأخبار وتغطيتها بحرفية عالية المستوى، ونجحت في ترجمة الرأي والنقد السياسيين بمهارة وامتياز، فهل نجحت فضائياتنا في معالجة المشكلات الاجتماعية، وأزمات الحياة العربية التي تتردى بشكل مفجع يوما بعد يوم؟ وهل انتصرت للثقافة والتفكير الواعي بشكل عام؟ وهل حظي كل الناس بمشاهدة برامج وأساليب علمية متطورة تترجم كل مجالات العصر النافعة في معالجة الحاضر وبناء المستقبل؟!
إنها مشكلة انعدام التجديد الحقيقي والبقاء في فلك التقاليد، فما يؤسس يرسخ ويصبح تقليدا مكررا كل أسبوع منذ سنين، بلا أي إبداع حقيقي. إن فضائياتنا العربية اليوم، لا تتناسب فيها مواطن القوة، بل تتناغم كلها مع مواطن الضعف والأشياء العادية.. لا تستوي عندها الموضوعات، بل تكرر وتجتر نفسها.. إنها شاشات عروض دعائية، أكثر منها شاشات برامج معاصرة قوية.. إنها شاشات يستسلم لها الملايين من الناس، وهم يطالبون بالمزيد من مستهلكات الفيديو كليب أو الانغمار بتفاصيل «حياة أو مغامرات فنانين جدد»! إنها شاشات، اعتادت الناس عليها، منذ أن كانت بالأسود والأبيض قبل أربعين سنة، أن تنتظر المسلسلات التمثيلية مساء كل يوم.. ولقد زاد سوق هذه المسلسلات في السنوات الخمس الأخيرة، لتدخل المدبلجة سوق العرض، لتأتي التركية بعد تلك المكسيكية، فتختطف الملايين اختطافا غير عادي! لتغدو اليوم فوبيا المسلسلات وتجارتها في مجتمعاتنا، حالة تستدعي الدراسة والتأمل معا، مقارنة بمجتمعات أخرى لا تتشكّل عقلياتها على هذا الأساس أبدا!
أعتقد أن مجتمعاتنا العربية تهرب من واقعها لتغيب في واقع وهمي وتعتبره حقيقة، فما تجده المرأة العربية في «مهند»ـ مثلا ـ على شاشات التلفزيون، قد وجدته في «عبد الحليم» قبل خمسين سنة على شاشات السينما. ليس لتجد متعتها وشغفها هناك، بل لتهرب من واقعها الذي تعتبره مؤلما ومحبطا ومقّيدا لها.
الخطورة اليوم، أنك تجد الشاشات موزعة في غرف البيت، بلا أي ممانعة أو أي بدائل. الناس كانت ولم تزل تحلم وتهيم لتقتل زمنها قتلا.. وغدت شاشات التلفزيون الأداة الفعالة، ليس في نقل الأوهام وجعلها حقائق في المخيلة الجماعية العربية، بل في تغييب واقعنا عن حقائقه المرة.. إنها، ويا للأسف الشديد، لا تعالج أية قضايا فكرية، أو علمية حيوية، أو مصيرية، أو خدمية، أو تربوية، أو اجتماعية حقيقية.. إنها ـ أيضا ـ لا تساهم في العمل على بناء المستقبل والاستعداد له، بقدر ما تقحم كل وجودنا المعاصر بالماضي ومشكلات الماضي وبث الكراهية.. أو معالجة أخطر معضلات اليوم بلغة الماضي! إن مجتمعاتنا العربية لم تزل تعيش مشكلات تاريخية من خلال بقايا التاريخ وترسباته الصعبة، فهل نجحت أي تجارب تلفزيونية عربية في جعل الحاضر على الحياد دوما؟
هل ساهمت الفضائيات في تجسيد الوعي الجمعي ضد ظواهر خطيرة يدينها الدين والأخلاق، كالإرهاب والشوفينينية والديكتاتورية مثلا، أم أنها غفلت عنها وتجاهلتها، كونها تريد كسب الرأي العام ومجاراة عواطفه من دون الوقوف ضده؟!
يبدو واضحا لكل العلماء المراقبين أن أي شاشة تلفزيونية فعالة، ربما تزيد أهميتها عند الناس من دولة أو سلطة حكومية بالكامل.. فإذا كانت السلطات تخضع للمد الشعبي، فما بال القنوات الفضائية التي تريد كسب المتلقين كما يريد أي بائع كسب المستهلكين؟! قل ما تشاء عن قنوات خليعة، وأخرى ماجنة، وأخرى تافهة، وأخرى لاهية، أو لاغية، أو مسلسلاتية، أو وعظية خطابية، أو قومجية، أو اخوانجية.. الخ.
ولكن يبدو واضحا أن الاحتراف الإعلامي والمهنية العالية لا تجدهما إلا في الموضوعات السياسية والخبرية أكثر بكثير من موضوعات الحياة العامة، وان الثرثرة أكثر من التجارب، وان الاستماع أكثر من الرؤية، وان الخطاب أكثر تعبيرا من الصورة.. وان الدراما العربية قد تسيء أكثر مما تصلح، وخصوصا في إشاعة حالات زواج عرفي، أو مشاهد اغتصاب، أو تعاطي مخدرات، أو استعراض بطولات.. الخ، من دون أي معالجات حقيقية!
إن الفضائيات تشارك في مسؤولية بناء الأجيال وأخلاقيات الحياة، من خلال دخولها كل بيت وغرفة بلا قيد أو شرط، فهل لنا أن ننادي بتجديد برامجها، وتصويب فلسفاتها، وأن تغدو مدرسة حضارية حقيقية، لا أن تكون مساحة استعراضية للمتعة حسب، وأن تنطلق مشاركة فكريا لتطوير الحياة والفن، من اجل وعي جديد بالمستقبل ومخاطره؟!
البيان الاماراتية ، 6 اغسطس / آب 2008
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …