في الساعة الرابعة من مساء الأحد السابع والعشرين من تموز الماضي 2008 ، ألقى الاستاذ الدكتور سيار الجميل محاضرة جديدة في عنوانها ومضمونها ، وهي ” الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ” ، قدمه الشاعر المعروف كريم شعلان ، ساردا نبذة مختصرة عن نشاطات وأعمال الدكتور سيار ،استاذ فلسفة التاريخ ، وما له من منجزات فكرية أنيقة وتاريخية ثرية ، فهو سلسلة متصلة من الإبداعات الجميلة ، وما له من نشاطات نقدية وتحليلية موثقة ، وهو خبير دولي في الدراسات الإجتماعية ، وله ورشة عمل بحثية دائمة ، ومساهم في موسوعة الثقافة البشرية الحديثة – اليونسكو ، وله مقالات رصينة في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية الصادرة في العراق والمهجر ، وقلمه السيال لا يكل ولا يمل من النشاط والبحث …
ثمّ تطرق الدكتور سيار الجميل إلى موضوع المحاضرة ، وشرح ابعاد فلسفة الموضوع ، فقال : أن الموضوع حديث لا يتجاوز عمره الخمس سنوات الى عشر سنوات ، بدأ في جامعة كولارادو بالولايات المتحدة ، ولهذا فالمحاضرة هذه ، هي محاولة علمية ومدخل معرفي ليس فيه تفاصيل واسعة ، ولما كان العراق موضوعا مهما ، وهو سلسلة واسعة جداً ، وبدأ العالم يهتم بالثقافة الموجودة في أي مكان من العراق ، فينبغي العناية بجغرافيته الثقافية من قبل ابنائه المختصين . واستطرد الاستاذ الجميل في محاضرته ، قائلا : ان اسلوب الحياة عند العراقيين يختلف من مكان إلى آخر ، كما ان هذا البحث يراقب الانسان العراقي وخصوصيته في الحركة الانسانية والخطاب ووسائل التعبير وإختلاف الأزياء ، واللغة المستخدمة ، وإختلاف اللهجات ، والمرأة ، والأفكار ، والنّخب ، ودور الطبيعة والتضاريس ، لذلك فان العراق هو من احوج بلدان الشرق الاوسط للدراسة والبحث المقارن في جغرافيته الثقافية الغنية جدا. ربما نسمع صورة مشوهة عن العراقيين ، ولكن تبقى الآراء تختلف حول الكثير من الأمور الحياتية : حول الموسيقى والغناء وحول التراث والفولكلور والعادات والتقاليد .. ولكل عراقي له ثقافة بيئية مختلفة ، وهذا لا ينسحب على النّخب المثقفة فقط ، بل على كل ابناء الشعب العراقي .
واستمر الدكتور سيار يقول : العراق إكتسب أهمية قصوى لوقوعه في قلب العالم ، ويقع في قلب المجال الحيوي للشرق الأوسط ، ويقع بين أربعة بحار ، وقد تعرض للهجمات على مر التاريخ ، فإختلف الناس عليه وخرجوا منه ، وكان العراق يستقطب الناس ،فأصبح الآن الناس تهاجر منه مرغمة إلى بقية أقطار العالم ، موضحا العوامل والاسباب المتنوعة في ذلك.
طبيعة العراق طبيعة مؤثرة ، فسلسلة جبال طوروس وسلاسل زاكروس ، تفصل حدوده الطبيعية عن الاناضول وايران والسهول والبادية ، وان وادي ما بين النهرين يخترقه كل من الشريانين ألازليين ، دجلة والفرات ، ونرى أن الحضارة بدأت في الجنوب ثمّ إمتدت إلى الشمال أو إنكمشت على نفسها ، وكان الجنوب يسمى بسواد العراق ، حيث ظهور الخط المسماري والقوانين والعملة والتدوين والزراعة قبل سبعة الآف سنة من تأسيس السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين ونشوء اولى الحضارات البشرية على ايديهم . ولقد كان العراق جمجمة العرب والمسلمين في العصور الوسطى مع حيوية المسيحيين العراقيين في الطب والترجمة وحيوية اليهود العراقيين في الصيرفة والفنون .
وانتقل بعد ذلك للقول : وكان تأثير بناء المدن على ضفاف نهري دجلة والفرات ، ودجلة كم تغنى به الشعراء والأدباء وان الإغريق سموا دجلة ( تايكر / تايكرس ) ، فله خواص النمر في سرعة جريانه وعذوبة مائه ، وهو مدمّر إذا فاض في الربيع إكتسح كل شيء ، معطيا للعراق سمته الحضارية ، فالتقسيم العلمي ـ حسب نظرية الدكتور سيار ـ لمناطق شرق دجلة تختلف عن مناطق ما بين النهرين ، وكانت مناطق إستقطاب للآشوريين ، وفيها من العادات والتقاليد لا حصر لها ، وأراضي خصبة جدا ، فيها البساتين والقرى ، وإنسانها منتج وحضاري إيجابي ، مقارنة بإنسان غرب الفرات الذي يقل إنتاجه نظرا لقساوة تربته وصحرائه ، هاربا إلى البادية دوما ، فنهر الفرات يدافع دوما وهو هادئ ومسالم ويسحب البداوة إلى العراق ، ونهر دجلة متحرك وسريع ويدعو الناس للإستقرار والترسخ في الثقافة والأرض والتجارة والاتصال .
ونرى بغداد الواقعة بين النهرين عندما يقتربا من بعضهما ، فهي عاصمة ثقافية متطورة ، والرصافة إتسعت والكرخ بقت على حالها لأزمان ، وأصبح الإنسان لا يفارق النهر وخصوصا دجلة ، وكانت ملايين النخيل منذ سومر حتى دمرتها الحروب الاخيرة ، ولقد عرض الاستاذ المحاضر عدة مصورات وسلايدات لتوضيح أنواع كثيرة جدا من المعلومات على الصور الفضائية والخرائط والمصورات الارضية لجغرافيات عراقية واماكن استقرار ومعابد وتباين الثقافات ووضح تنوع الأزياء الكردية واليزيدية والتركمانية والصابئة المندائيين والمناطق المسيحية لها أزياء معينة ، والبدو ، وما تبقى من تلك الآثار إندثر معظمها ، فضلا عن الموسيقى . ان الفولكلور هو صورة انسانية معبرة عن هذا التنوع العراقي الخصب ، وهو تعبير يوحي لك بتباين من ناحية العادات والتقاليد وبالتالي رسوخ ثقافات عريقة .
والعراق منذ 1909- 1979 وثبّ وثبة قوية فوجد نفسه في قلب العالم من المبدعين ، أمثال نازك الملائكة والسياب والبياتي والجواهري وجواد سليم وجميل بشير وعبد الجبار عبد الله وغيرهم كثير من المثقفين المتميزين في العالم …. كما حّلل دور المرأة العراقية وسمتها الانتاجية وابداعاتها الثقافية ، ولكن السياسات والحروب والدكتاتورية افقدت العراقيين الامن والاستقرار وخلقت الفوضى والخوف والهجرة والاختفاء ، فغدا العراقي يعيش دون إستقرار ابدا ، ويحمل ثقلا كبيرا من التناقضات .
ولقد عرض الاستاذ الجميل جملة من الجداول والارقام والنسب المقارنة بين كل من مصر والعراق ، وان الثقافة في الشرق الأوسط ترتكز على ركيزتين اساسيتين هي الثقافة في مصر والثقافة في العراق ، فظلت المنافسة بين الثقافتين عبر التاريخ إلى يومنا هذا في مجالات المعمار والعلوم الإجتماعية والصحافة وعوامل الإنتاج ، وكان العراق يقود ، وعندما يضعف تأخذ مصر دوره ، فتبدو هي التي تقود ، وقد وضّح الاستاذ المحاضر ذلك من خلال مخطط بياني للمقارنة بين مصر والعراق .
الإنسان العراقي كان يبني السدود لأنه محب للزراعة ، والصراع بين أبن الريف والمدينة والبادية ، ولا يزال ابن العشاير يحمل القيم البدوية العشائرية ، وكانت هناك أسوارا حول المدن ، وكان الناس الحضر لا يسمحون للبدو والرعاع بدخول المدينة ، ولكن بعد ان هدمت الأسوار في النصف الاول من القرن العشرين ، تداخلت الناس فيما بينها ونشأ الصراع ، صراع المستويات لا صراع الطبقات ، وولد إنقساما خفيا بين المجتمع العراقي ، وولد تعبيرا في الشارع وكبت دفين لدى البعض وخصوصا المهاجرين والنازحين الذين سكنوا حول الاحياء السكنية الجديدة . وكان هناك مشروع عملاق لزراعة القمح في شرق وغرب دجلة والجزيرة ، وكانت الفرصة سانحة ، لو تمت ، لخدم المجتمع خدمات كبرى ، وساهم في اعادة انتشار ابناء الريف ، ولأصبح العراق سلة غذاء العالم .. ولكن المقادير السيئة سارت بالعراق في طريق آخر !
وعرض الدكتور الجميل خارطة ثقافة العراق بتقسيماتها الملونة والفسيفسائية ، وهي تحتاج إلى أكثر من جيل لدراستها في شفافية عالية وصراحة متناهية ومعرفة معمّقة ، لكي تتجانس الذات مع الموضوع في ظل مناخ واسع من الحريات ، كما نتمنى أن تكون هناك ثورة بزل في الجنوب .
وأما الموسيقى العراقية ، فهناك موسيقى ثرية لها خصوصياتها وتنوعاتها فالجالغي البغدادي والمقامات ، وموسيقى نينوى والوسط والجنوب والشمال الذي كان ملهما للمبدعين ، ولقد حلل الدكتور الجميل موضوعاته بتطبيقات على ما تمّ من معروضات ورسومات ، فمثلا كانت بعض الطقوس المسيحية تمارس في الشوارع والازقة ، والمعبد اليهودي قدم ثقافة متميزة قبل 1500 سنة في الجفل مثلا , وصولا الى كلية بغداد ودور الآباء اليسوعيين ، ودار المعلمين العالية التي غدت بؤرة للمبدعين في الخمسينيات وغيرها ، وكلهم قدموا خدمات لا تنسى من التربويات ، فلا ثقافة عليا من دون تكوين تربويات عليا . ان حضارات العالم إستلهمت ثقافتها من العراقيين ، والجنائن المعلقة تعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع قبل الاف السنين لم تزل في الذاكرة البشرية . ودعا الدكتور الجميل الى العمل الدولي من اجل جعل بغداد مركزا ثقافيا في التاريخ الى جانب المراكز الثقافية الاخرى في العالم بعد ان عرض خارطة المراكز الثقافية في العالم ، وانتهى الى نتائج واستنتاجات عديدة.. ثم وعد كل الحاضرين والمهتمين بأن محاضرته التي القاها شفويا ، ستجد فرصتها في النشر على موقعه الالكتروني قريبا .
وبعد فترة الإستراحة وتناول القهوة والشاي والمعجنات ، انطلق حوار موضوعي ممتاز بين الضيوف والدكتور سيار ، وكانت فترة الأسئلة والمداخلات ، فأغنت الامسية كثيرا ، باهتمام بالمحاضرة وخصوصا لما أثاره المشاركون من مواضيع وإضافات في هذا الموضوع الشائك والمعقد وعمره القصير ، فكانت محاضرة غنّية وقيّمة جدا ، لما للدكتور الجميل من باع طويل وخبرة واسعة في مجالات الثقافة المختلفة من خلال دراساته ومحاضراته في جامعات العالم المختلفة ومؤلفاته العديدة ، فأعطى إجابات شافية لكل ما يجول في الخواطر من امور .
واخيرا شكر الأستاذ المحاضر الحاضرين بعد تكريمه من قبل الجمعية العراقية الكندية ، وصفق له الجميع لما قدم من معلومات لا غنى لأي متابع أو مثقف عنها ، نتمنى أن تتكرر مثل هذه المحاضرات في المستقبل ، وأن تكون مثار إهتمام جاليتنا إن شاء الله .
الرئيسية / اخبار وبيانات / محاضرة قيّمة للمفكّر الدكتور سيّار الجَميل في الجمعية العراقية ـ الكندية بتورنتو بعنوان : ( الجغرافية الثقافية للعراق الحديث )
شاهد أيضاً
بيان من أجل الموصل.. كتاب مفتوح أمام سيادة الرئيس جلال طالباني
تحية طيبة وبعد ، من اجل حوار يسوده الاحترام.. من اجل مصالح وطنية مشتركة تجمعنا …