كتبت وحاضرت عن هذين البلدين العربيين ، ولم أجد أي تشابه في تاريخهما ، ولكن يبدو انهما اليوم، يعيشان مشكلة واحدة ، وهي داخلية اكثر منها خارجية في نتائجها ، ولكنها خارجية اخطر منها داخلية في مسبباتها مع التكالب لخلق مبررات الانقسام .. عندما غرق العراق في حرب الثماني سنوات مع ايران اقليميا ، كان لبنان يعيش حربا اهلية طاحنة ليس لها اي معنى ، وكان بالامكان اسكاتها .. وبنفس الوقت ، لم يعرف كل العراقيين حتى اليوم ، ما الذي كان وما الذي حصل بعد حرب شعواء ، كان بالامكان وأدها منذ اندلاعها !
وبالرغم من ان كلا البلدين خرجا من حربيهما متعبين بكل قروحهما وجروحهما ، الا ان الاثنين قد اصيبا بوحدتهما الوطنية اساسا ، وفتح الباب امام تغلغل قوى خارجية دولية واقليمية وعربية ، وبدأ تفكير البعض في كلا البلدين بالانفصال او اللعب باوراق الاخرين في كلا البلدين مع حماقة صناع القرارات .. وبالرغم من بقاء النظام الدستوري ساري المفعول في لبنان على طول الخط ، فان العراق عرف في ما اسمي بنظام الحزب الواحد الذي انتهى تماما في العام 2003 عقب الغزو الامريكي للعراق .
ان النعرات الطائفية موجودة في اي مجتمع متنوع المشارب ، ومتعدد المذاهب والطوائف .. ولعل العراق ولبنان من اكثر بلدان الشرق الاوسط التي ضعفت كثيرا على مستوى كل من الدولة والمجتمع منذ ثلاثين سنة ، فكان ان حّلت الانقسامات فيهما الى درجة مخيفة ، وبدأت الدعوات الى الفدرلة بشكل سافر ومعلن دستوريا في العراق ، في حين يلحق لبنان صاحبه ، كي يطرح موضوع الفدرلة لبنانيا بعد احتدام الصراع الطائفي ، واعادة اشعاله بطرق شتى .
ان موضوع الانقسام فيدراليا على اساس طائفي في كل من البلدين سيمّهد نحو الانفصال ، وهذا ما يرّوج له بعض الغلاة الذين ليس لديهم اي وازع وطني حقيقي ، فهل وجدنا في تجارب العالم الفيدرالية جمعاء تقسيمات فيدرالية على اساس طائفي ؟ واذا ما اريد تطبيق ذلك على كل من العراق ولبنان ، فكيف ستحدّد حدود كل اقليم ، خصوصا اذا عرفنا ان كلا من السنة والشيعة يتداخلون في توزعهم وعيشهم في كل اصقاع البلدين . السؤال الاخر الذي يستلزم ان يفرض نفسه علينا نحن العراقيين واللبنانيين : هل يقتصر التنوع والتعدد الطائفي والمذهبي على كل من بلدينا مقارنة بكل من ايران وتركيا ؟ فهل تقبل كل منهما اي تجربة فدرلة على اساس طائفي ؟
علينا ان نعي جميعا نحن الذين نسكن هذا الشرق الاوسط ، ان ما حدث من تمزقات طائفية في العراق ، وما يحدث من بدايات صراع طائفي في طرابلس وبعض اجزاء لبنان الشمالي .. سيتفاقم خطره كثيرا على لبنان نفسه وسيغدو على شاكلة العراق ـ لا سمح الله ـ . ولنعلم ، ان كلا من هاتين التجربتين ، ستنعش الانقسامات الطائفية في كل منطقتنا ، وهذا من اخطر التوقعات القادمة! ان اي تصنيف سياسي داخلي حكومي او حزبي او برلماني يؤسس على نظام طائفي ، فسيكون بالضرورة هو البديل الحقيقي لأي مشروع وطني ينفّض من حوله الجميع ، فيتشظّوا الى انتماءات طائفية تركض متصارعة جميعها وراء مصالحها الفئوية ومنافعها المحلية والجهوية .
لقد اصابت الطائفية مقتلا من العراق والعراقيين ، وكّنا نخشى على لبنان ان لا تبدأ فيه اية انقسامات مسلحة .. ولكن ما حدث ايام النهر البارد الذي اعتبره البعض خطا أحمرا ، وما يحدث اليوم في طرابلس ومناطق اخرى لا يبشر بخير ابدا .. ان النيران اذا اندلعت من خلال هذا الوازع ، فسوف لا تقف امامها اية حدود سياسية او مناطق عازلة ..
ان الغلاة والمتطرفين من كلا الطرفين ينبغي ان يبتعدوا عن ميدان السياسة والاعلام حتى ان كان ذلك مؤقتا ، من اجل نزع فتيل اي كراهية او احقاد .. وان يتوقف تدّخل الدول الاقليمية في الشأن اللبناني والعراقي .. ان الجفاء قد وصل درجة كبيرة من القطيعة بين السنة والشيعة بالعراق منذ خمس سنوات نتيجة تفجّر الاحقاد الكامنة .. ويخبرنا الاستاذ سليم الحص في مقاله الاخير عن لبنان قائلا : ” الحق يقال ان الجفاء متبادل إلى حد ما .. وينتابك شعور بأن مجتمعنا يعيش حرباً أهلية وإنما داخل النفوس وليس في الأزقة والشوارع والحمد لله، والفضل في عدم خروج الحرب الأهلية إلى الشارع يعود إلى إرادة الكثرة من اللبنانيين، الذين صمموا على عدم العودة إلى أجواء الحرب الأهلية التي خيّمت ما بين العام 1975 والعام 1990 هذا مع إدراك الفارق الخطير في أن الحرب الأهلية انتصبت خلالها خطوط تماس فصلت إلى حد معيّن ما بين الفئات. أما اليوم فلا خطوط فاصلة مذهبياً أو طائفياً، فإذا اشتعلت حرب أهلية في الشارع، لا سمح الله، فإن حصادها سيكون كارثياً ” ( انتهى النص ) . وهنا أود القول ان ما يحدث اليوم في لبنان من بدايات حرب طائفية من نوع جديد شبيهة بموديل العراق سوف لن تفلح اهدافها ابدا لأي من يذكيها من الفرقاء ، اذ لم تنجح حتى اليوم في العراق بالرغم من قساوتها الشديدة واخفاق العراقيين في احضار البديل متمثلا بمشروع وطني .. ان اسوأ ما يضر كل من العراق ولبنان معا الحرب الاعلامية الطائفية ودور دول الاقليم في تنفيذ برامجها وخططها. فهل وعينا الدرس ؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 30 يوليو / تموز 2008
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …