Home / افكار / واقع ثقافات لا حلم حضارات

واقع ثقافات لا حلم حضارات

ان العالم يزدحم بالثقافات المتنوعة في جغرافياته الواسعة ، وان هذه ” الثقافات ” تكشف واحدتها نفسها على الاخرى بفعل وسائل العصر المتطورة ، والمفروض ان يحترم كل شعب من الشعوب ثقافات الاخرين بعد الاعتزاز بثقافته هو نفسه . وعندما نشر صموئيل هانتيغتون كتابه عن ” صدام الحضارات ” قبل سنوات مضت ، فقد كان قد اخطأ من الناحية الفكرية ، اذ ليس لدينا الان حضارات متنوعة معاصرة حتى يصادم بعضها بعضا وربما اصاب من الناحية الواقعية اذا اعتبرنا ان الصراع يدور بين حضارة معاصرة تهيمن على العالم كله وبين ترسبات حضارية قديمة او بقايا حضارات رحلت منذ ازمان .. علما بأن الصواب ان هناك اليوم ثمة صراع ثقافات وثمة ازدواجية ثقافات وثمة هيمنة ثقافات على اخريات ! فاذا افترضنا ( ولا اقول اقتنعنا ) بأن لا وجود لصراع حضارات ، بل ان الصراع اليوم بين التقدم والتخّلف ، فلا يمكن ان يكون هناك تحالف بين الحضارات .. انني اسأل من باب تحصيل حاصل : اين هي حضارات اليوم ؟ من يعدد لي أياها شريطة ان يقدم لي برفقتها حصيلة كاملة بمعطياتها المعاصرة المادية والمعنوية التي تخدم العالم ؟


تحالف الحضارات : مبادرة ازاء التحديات
لقد اخفق اصحاب المبادرة في العام 2005 عندما اطلقوا هذا ” المصطلح ” على هذا التجمع الدولي ، واقصد السكرتير العام للامم المتحدة السابق السيد كوفي عنان وكل من تركيا واسبانيا ، وقد شاركتاه رعايته .. ولقد تابعنا جميعا كم من المؤتمرات انعقدت ، وكم من المنتديات اقيمت ، وكم من الخطابات القيت ، وكم من الاموال انفقت ؟ نعم ، كان الامين العام السابق للامم المتحدة قد اطلق مبادرة شراكه في رعايته لها كل من اسبانيا وتركيا ، اي بين دولتين في كل من شرق وغرب اوروبا .. مبادرة من اجل تأسيس تحالف دولي قوي بين الحضارات ، أسموه بـ Alliance of Civilizations ، ولا ادري هل فكروا قليلا في تعبير ” تحالف ” ومقاصده في العلاقات الدولية واستخداماته في حياة المجتمع الدولي .. ؟؟ فالحضارة مجموعة هائلة من المعطيات البشرية المادية والمعنوية والمعرفية والفنية .. فهي ليست مجموعة مؤسسات كالدولة حتى يمكنها ان تتحالف مع غيرها ! ان الدول او المجتمعات هي بني مشخّصة يمكن ان يتم التفاوض معها والتحالف معها .. ولكن الحضارة لا يمكن ان نشخصها لا ماديا ولا معنويا حتى يتم التحالف بينها وبين غيرها من الحضارات ..
ان المبادرة قدّمت نفسها باعتبارها تستجيب الى توافق واسع في الاراء بين الدول والثقافات والاديان من اجل ترابط جميع المجتمعات بهدف التنمية والامن ، وما سيكون لآثارها البيئية والاقتصادية والمالية من تقدم ورفاه . وقدمّت المبادرة مفهوم ” التحالف ” كونه ” الساعي لتشكيل الارادة السياسية الجماعية ، وحشد من الاجراءات الملموسه على الصعيدين المؤسسي والمجتمع المدني ، وخلق المستويات من اجل التغلب على التحيزات والتصورات الخاطئة والوقوف ضد الاستقطاب الذي يعمل ضد هذا الاجماع. وتأمل ” المبادرة ” في ان تسهم نحو التئام الحركة العالمية التي تعبر عن ارادة الغالبيه العظمى من الشعب ، ورفض التطرف في اي مجتمع من المجتمعات ” . هذا كلام منمق وجميل ويمكننا التفكير في عوامل نجاحه على المدى الطويل ، وهو يعّبر عن ارادة سياسية تقول للعالم بأن لكل مجتمع في العالم اخلاقياته وتقاليده التي لا يمكن الاعتداء عليها او ايذائها بالتجريح او التقريع او الاستهزاء .. الخ

هل يوقف تحالف الحضارات التدهور في العلاقات ؟
وممّا عزز هذا ” المفهوم ” ما وقع من احداث في السنتين الاخيرتين قادت الى تفاقم الشكوك المتبادلة ، وايجاد المباعدات بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة .. ناهيكم عن المخاوف وسوء الفهم الذي يسود اليوم بين المجتمعات الاسلامية والمجتمعات الغربية ( والتي لها قوة ونفوذ في مجتمعات العالم قاطبة ) . لقد انفصمت عرى الواقع وانكشفت عدة حقائق كان يجهلها الناس سابقا اذ ادت ثورة المعلومات والاعلاميات السريعة وقوة الاتصالات الى فضح واقع كل بيئات العالم . ان المسؤولية في حدوث ازمات الثقة لا يتحمل مسؤوليتها طرف واحد ، بل تتحمل كل الاطراف مسؤوليتها في تدهور العلاقات الثقافية والحضارية بشكل خاص بعيدا عن اخفاقات العلاقات السياسية في العالم وخصوصا بعد استقطاب العالم من قبل قوة احادية ..
ان ما اسمي بـ ” تحالف الحضارات ” سوف لن يقدر على ايقاف التدهور في العلاقات الانسانية بين المجتمعات والامم ، لأن القرارات لا تصنعها القوى المثقفة والمتحضرة في كل دول العالم ومجتمعاته ، بقدر ما تصنعها القوى السياسية والاقتصادية المهيمنة على وسائل الانتاج وعلى صنع القرار ليس المادي فحسب ، بل حتى المعنوي والثقافي .. ان سباق بعض المؤسسات مع بعض الدول الاوربية خصوصا لتعزيز هذا الجانب ، ومعها رعيل من دول الجنوب سوف لا تقدر البتة من فرض الاستقرار الدولي لأنها اضعف من ان تؤدي دورها ازاء القوة الاعظم .. اما ما اعلنته مبادئ تحالف الحضارات يمكن ان يكون نقاط مضيئة ومثالية في تحقيقها ، ولكن الواقع في عالم اليوم هو غير ما تطمح اليه تلك ” المبادئ ” والتي يقف على رأسها الاحترام المتبادل بين الحضارات والثقافات !

تقرير الفريق رفيع المستوى
ان التأسيس على هذه المبادئ ، وانشاء فريق رفيع المستوى (hlg) من الشخصيات البارزة في العالم ، سوف لا يقدّم او يؤخر شيئا في ما تريده القوى الاقتصادية الكبرى في العالم فضلا عن مصالح بعض الدول المهيمنة على اقتصادات العالم اليوم . انني اراقب من بعيد اجتماعات واخبار الفريق رفيع المستوى لخمس مرات على مدى عام كامل نوفمبر 2005- نوفمبر 2006 واصداره التقرير الذي ينادي بمبدأ جماعي متعدد الاقطاب ضمن النهج الذي يطّور العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الغربية. نعم ، لقد فرحنا لمضمون ما جاء في ” التقرير ” المقدم الى الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان وقت ذاك والى رؤساء الوزراء في كل من اسبانيا وتركيا : خوسيه لويس رودريغيس ثاباتيرو ورجب طيب اردوغان في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 2006
، ولكن تساءلنا عما يمكن فعله من ترديد خطاب في حلقة مفرغة ، وتعقد المؤتمرات من دون اي تأثير واضح على سيرورة ما يحدث ، بل وقد وجدت ان الولايات المتحدة الامريكية لا تهتم لمثل هذه الجهود ، وليس لديها حتى الوقت لتنصت الى ما يريده اي طرف في العالم .
وفي نيسان / ابريل 2007 ، بعد اجراء مشاورات مع رؤساء حكومات اسبانيا وتركيا ، راعيي تحالف الحضارات ، والامين العام للامم المتحدة بان كى مون ، عين خورخي سامبايو ، الرئيس السابق للبرتغال ، بوصفه الممثل السامى لتحالف الحضارات. وسألنا عن صلاحياته ، فعلمنا بأن الممثل السامى سيوفر الرؤية والقيادة المطلوبة ،بشأن تعزيز تحالف الحضارات ، والعمل المضني بجعلها منظمة ذات مصداقيه وقابلة للاستمرار لمحاولة التقليل من خطورة التوترات بين مختلف المجتمعات وتهديدا للاستقرار الدولي ، كما تم تقييمها في تقرير الفريق الرفيع المستوى للتحالف الحضارات.
يتألف مضمون التقرير من جزءين : الجزء الأول يضم تحليلا للسياق العالمي وحالة العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الغربية. ويختتم التقرير بمجموعة من التوصيات المتعلقة بالسياسات العامة ، مشيرا الى ان اعتماد بعض الخطوات السياسية هي سابقة لأية متطلبات كبيرة ودائمة في تحسين العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الغربية. اما الجزء الثاني من التقرير ، فيعكس من خلال اجندة رأى بان التوترات عبر الثقافات تنتشر خارج المستوى السياسي الى قلوب وعقول السكان. ، فينبغي العمل على مواجهة هذا الاتجاه ، ومجموعة يحلل ويقدم توصيات في كل من المجالات المواضيعيه الاربعة : التعليم ، والشباب ، والهجره ، وسائل الاعلام. ويخلص التقرير مع فريق رفيع المستوى اقتراحات لتنفيذ توصياتها.

www.sayyaraljamil.com

الوسط ، 15 مايو 2008

Check Also

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …