نصوص ثلاث محاضرات القاها الاستاذ الدكتور سيار الجميل في قسم التاريخ بجامعة لوكهييد الكندية للفترة 8-9 اغسطس 2007 ، وقدمه فيها المؤرخ البروفيسور فيكتور سميث ، وحضرها لفيف من الاساتذة والمختصين في العلوم الاجتماعية والطلبة .. وهي نصوص مترجمة الى العربية نقلا عن الانكليزية .
الجولة الاولى : المنهج والفهم المنهجي
مقدمة
انه من السعادة ان اكون استاذا زائرا لجامعة لوكهييد الكندية ، شاكرا لكم حسن استقبالكم وضيافتكم ، واشكر البروفيسور فيكتور سميث على تقديمه لي اليكم كي اتحدث في موضوع له اهميته اليوم . يقدم هذا العرض لمحة عامة عن كيفية دراسة البنى الاجتماعية في تاريخ الشرق الاوسط ، كما يحاول ان يقّدم رؤية منهجية لمعرفة حقائق مجتمعات الشرق الاوسط وسط فوضى الاراء ، وندرة المعلومات ، وقلة الدراسات العلمية الصادرة من قبل ابناء المنطقة على حساب تعدد البحوث والدراسات ( بالانكليزية والفرنسية ) في كل من غربي اوروبا وامريكا . ساحاول ان اتكلم في ثلاثة محاور في ثلاث جولات : المنهج .. البنية .. المجتمع .. وتجدون بعض الامثلة والجداول والخرائط مصورة امامكم على الشاشة باستخدام الباور بوينت ..
كلكم تعلمون ان الشرق الاوسط يقع فى مركز العالم القديم ، وكان ولم يزل يحتل مركزية العالم جغرافيا ، ولكنه من اكثر مناطق العالم سخونة ومشاكلا .. وان جملة موضوعاته التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية معقدة للغاية ومركبة ومتداخلة ، وهي بحاجة الى من يمتلك القدرة على فهم التناقضات وتحديد الهياكل وقياس البنى وترسيم المنهج والسيطرة على مصادر المعلومات من اجل البدء في بحث اي موضوع يخص الشرق الاوسط .
يغطي هذا الموضوع رؤيتي التي أحاول أن تكون فريدة ومفيدة معا . ومن المستحيل ان تقدم معالجات شاملة لتاريخ الشرق الاوسط من قبل اناس غير مختصين في فترات وجيزة .. انه كمن يجد نفسه وراء مقود طائرة تمشي به في فضاء كبير وهو لا يعرف اولويات الطيران . انني ساثير بعض الزملاء الحاضرين هنا ، من خلال بعض الافكار لاستجلاء المعاني ، ومن ثم كيفية تحليل الحقائق الاساسية المتوفرة ، شريطة ان يقترن هذا النوع من التاريخ بقراءة متزامنة مع الجغرافيا وعلم الاجتماع والانثربولوجيا الثقافية .
لقد ساعدني جدا التنقل بين مجتمعات عالمنا العربي بين المشرق والمغرب العربيين وزياراتي لكل من تركيا وايران وقبرص في التعرف على هذا ” العالم الغامض ” .. لقد بدأت عملي على دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا مكونا حصيلة معرفية لها فائدتها منذ اكثر من 25 سنة ، ولم تكن الرؤية الغربية للمنطقة ومجتمعاتها كما هي عليه اليوم ، كانت افضل بكثير مما هي عليه اليوم .. والاهم من كل ما يعرض اليوم هو رسم صورة الاسلام في الغرب ، من دون اي ادراك متبادل لهذا المنحى الخطير . وينبغي العلم ان مصطلح ” الشرق الاوسط ” لم يزل غير مرغوب فيه من قبل قوى سياسية ودينية عربية بالذات كونه يرتبط بذاكرتهم الجمعية بمنشأ استعماري منذ بدايات القرن العشرين .
اساسيات الفهم المنهجي
كانت لبعض الدارسين والمؤرخين محاولات ناضجة لفهم طبيعة البنى الاجتماعية التي تتحكم في تسيير انظمة الحكم السياسية وكل المنتجات الثقافية ، فضلا عن تبيان دور القوى الكبرى في صنع الاحداث وتسييرها في عموم الشرق الاوسط ولم تزل .. ولكن كثرة من الدارسين والمستشرقين اساء فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية في الشرق الاوسط .. ونجد ذلك في اكثر من مدرسة استشراقية فضلا عن مؤرخين ماركسيين جعلوا منطقة الشرق الاوسط حقل ممارسة ” منهج ” لا يمكن تطبيقه الا في مجتمعات اوروبية صناعية .. او ان ثمة كتابات يعتقد اصحابها ان الشرق الاوسط اصبح جزءا من الثقافة الامبرياليه الغربية ! ان مجتمعاتنا المدنية صاحبة الحياة الحضريه التي صنعتها ترسبات وبقايا كل التاريخ الحديث محشوة بالتناقضات التي ازدادت حدتها منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم ! انه منذ عهد السلطان سليمان القانوني 1520-1566 حتى هذه الحقبه من عهد آية الله الخميني عام 1979 انتهاء بهذه الايام .
انني أعتقد أن قراءة الاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية التي عاش عليها كل من العرب ، والايرانيين والأتراك ، بشكل خاص ، تبين مدى ما كرس من اهتمامات غير نافعة لشؤون الحكام والهيئات الحاكمة والتواريخ السياسية .. وتوضح مدى النقص الهائل في منتجات التاريخ الاجتماعي ومعرفة اوضاع الناس واتجاهاتهم وتقاليدهم وافكارهم وميولهم وانتماءاتهم .. مقارنة بما هو عليه الحال في الهند ، وامريكا اللاتينية ، واليابان وجنوب افريقيا ، ويجري انتاجها على نحو مناهج متنوعة وتطبيقها على العديد من التجارب التاريخية المهمة .وعليه ، فان تأثير الثقافة التاريخية كان في الهند ، واليابان او جنوب افريقيا اكبر بكثير مما هو عليه الحال في اغلب مجتمعات الشرق الاوسط العريقة .. ويبدو لي انها على مستوى اعمق من التحليل عما هو عليه الحال في العالم العربي بشكل خاص .. ذلك ان لكل من الاتراك والايرانيين جهودهم الاحادية والقومية في اغناء هذا الجانب امام العالم .
ان اتجاه دراسات “الفرعية البديله للدراسات التاريخية ” في ميدان التاريخ في الهند ، على سبيل المثال ، في رأيي ، هو أهم المدارس في العالم الثالث على الاطلاق ، تلك التي بدأت تنتج اعمالها في فترة ما بعد الاستعمار ، وخصوصا في كتابة الخطاب وتحليل التاريخ . ان هذه ” المدرسة ” كانت ولم تزل تتاثر الى حد كبير بمناهج “الاستشراق ” التجريبية ، وخصوصا البريطانية .. وبالرغم من محاولات بعض المؤرخين المغاربيين المضي في تأسيس اتجاه متأثر بالمناهج الفرنسية ، الا ان ثمة فوضى حكمت طبيعة الاعمال المنجزة وخصوصا غلبة التيار الماركسي على مناهج عديدة اخرى !
اننا في الواقع ، لا نمتلك الوسيلة والاداة في ايصال منجزنا الى العالم مقارنة بما فعله الهنود وكل من اليابانيين والجنوبي افريقيين بشكل خاص . اننا في الشرق الاوسط بحاجة ماسة اليوم ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين الى ” مدرسة بديلة ” لها مناهجها المتقدمة وموضوعيتها وحياديتها في قراءة مجال الدراسات العربية والإسلامية. ان نموذج “الفرعية البديله للدراسات التاريخية ” يؤدي وظائفه المعرفية من خلال تأثيره على اتجاهات تحليل وكتابة التاريخ الأميركي نفسه ، وكذلك تأثيره على الجامعات الاخرى في العالم ، ومنها بعض الجامعات الكندية ـ كما تعلمون ـ .
المصادر والارشيف : اساسيات عمل كل المناهج
لم تزل الذهنية السائدة في الكتابة او ما يسمى بـ ” البحوث ” غير معتنية بمصادر المعلومات كأسياسات عمل .. ليس من المهم الحصول على المصادر بقدر ما هو اهم : كيفية قراءتها ومنهجية العمل فيها والسيطرة على مفاتيحها .. ليس المهم التنطع بالوثائق على شاكلة عروض تلفزيونية لصحفي عربي مخضرم بقدر ما ما هو اهم : اين ينبوع المعلومات في البحث عن حقائق الاشياء ! لقد زادت ثورة المعلومات اليوم ومن خلال تكنولوجيا المعلومات بالسرعة في الوصول الى ( أية معلومات ) ولكن اية معلومات هذي ؟ واية مصداقية لها ؟ ان الاعتماد على الارشيف بذاته هو الاساس المنهجي الذي يمكن ان يوصلنا الى المعلومات الاساسية . ستبقى المكتبات ودور الارشيف والاوراق والاثباتات الموثوقة هي الاساس في الكتابة التاريخية واعتماد المنهج المقارن . ان طلبة وباحثين ودارسين في الشرق الاوسط مطالبون اليوم بالتعرف على مناهج وفلسفات عمل جديدة وخصوصا في دراسة التواريخ الاقتصادية والاجتماعية ومنها التمكن من الاحصاءات والبيئة والجغرافية والانثربولوجيا .. ان ثمة منهج جديد في دراسة التاريخ يعتمد الرياضيات اصلا في بناء المعلومات .. فضلا عن المناهج التي اعتمدت في النصف الثاني من القرن العشرين في بعض الجامعات الغربية . لابد ان نقول بأن ثمة تعقيدات ترافق عمل كل الباحثين والمؤرخين في الشرق الاوسط من خلال معاناتهم في الوقوف على احصائيات وارقام معتمدة وصادقة .. ان نقصا مفضوحا لمعلومات سكانية عن الاقليات ومعلومات رقمية عن الاجراءات المالية وفوضى من المعلومات عن الملكيات والمشروعات الاقتصادية .. وغموض كبير في حجم المعلومات عن حقوق الانسان والمؤسسات الخاصة .. الخ
ظاهرة الاستشراق : النقد والتجسير
ان ” الاستشراق ” ظاهرة تاريخية لا يمكن تجاهلها بتسطيح عناصرها وبنيوياتها ومنتجاتها بلغات عدة .. ان عالمنا العربي بشكل خاص هو من اشد اعداء هذه ” الظاهرة ” التي مهما بلغت درجتها من السوء ـ كما يتخيل البعض ـ ، فان الحاجة باتت ماسة اليوم ، لاعادة التفكير فيها وفي منتج الاخرين عن الشرق الاوسط . السؤال : لماذا لم يكن هناك اي تجسير بين الجانبين . ما هو السبب؟ السبب هو ان ظاهرة “الاستشراق” كانت تستخدم اساسا من جانب قراء العربية كوسيله للصراع وليس للتنمية على غرار ما فعلته مجتمعات الشرق الاسيوية كالهند وغيرها ، وكلها كانت من الدول الناميه .. انها لم تفكر بنفسها الا من خلال رؤية الاخر عنها .. ان مجتمعاتنا لا تعرف عيوبها لأنها لم تستمع لمن يشخص لها اياها .. ان مجتمعاتنا تمتلك من القيم العريقة والتقاليد الكريمة التي شهد بها الاخرون .. ولكنها لا تلتفت ابدا لما تمتلكه من هنات وافكار راسخة لا تتزعزع عنها ابدا .
ان هذا العامل ذاته قد جعل مصطلح “الاستشراق” اهانة ان وصف احد به في مجتمعاتنا ، وقد تسّربت الكراهية لاسباب تاريخية وسياسية بين مجتمعات الشرق الاوسط واوربا .. ناهيكم عن ازمة حقبة الاستعمار بشقيه الكولينالي القديم في القرن 19 والامبريالي الجديد في القرن 20 واعتقد ان حقبة ما بعد الاستعمار هي متممة لذاك الماضي ممثلة بالكابيتالية في القرن 21 ـ كما اسميتها في كتابي العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط : مفاهيم عصر قادم ، بيروت 1997 ـ ، اذ يتبين لي ببساطة ان الشرق الاوسط سيبقى في رعاية القوى الكبرى ما دام وضعه السياسي والاقتصادي والتنموي لا يرقى ابدا به لامتلاك ارادته الحضارية ، وقيادته زمام المبادرة وصناعته للتاريخ بنفسه ! .
لقد اساء بعض المستشرقين للظاهرة الاستشراقية نفسها بسبب ضحالة بعض الاحكام المسبقة عن الاسلام والمسلمين وعن مجتمعات الشرقيين ، فضلا عن كون بعضهم كان يعمل في دوائر استعمارية .. انني اقول بأن لابد من اعادة تفكير في الظاهرة نفسها والتي مضت عليها اجيال عدة من المستشرقين . ان الاساءات المتبادلة بين الطرفين يجب الا تبعدني عن فهم ما يريده هؤلاء من مجتمعاتنا ..
اعادة التفكير بانفسنا لأنفسنا
ان ما انتجته الظاهرة عن الشرق الاوسط ، مطلوب منه معرفته وتحليله ونقده لا ان نهمله ونتعامل معه من فراغ او من فوق .. ان الصورة تبدو كاركاتيرية لنا امام العالم ونحن نتصرف مثل الصبيان في مسائل تخص مجتمعاتنا اصلا ! ان علينا الاعتراف بأن مجتمعاتنا المعاصرة ودولنا الحديثة نشأت في الحاضنة الغربية ، وعليه ، لابد من تحديث الافكار لدى الجانبين في ما يخص كيفية الارتقاء بالشرق الاوسط وبمجتمعاته نحو الافضل .. انه بقدر ما لمجتمعات كهذه تطمح الى تأسيس مناهج بديلة ، فان على صنّاع الافكار الغربية مراعاة الامانة والموضوعية وتحديث الاليات .. وعلى الفكر السياسي الاسلامي في الشرق الاوسط ان يعيد التفكير في الرؤى والمناهج الغربية للفهم وليس شرطا للمشاركة .. لقد بقينا لأكثر من خمسين سنة نتحاشى التحدث عن اسرائيل ونتجنب حتى ذكرها ، انني اعترف انها كيان صهيوني لا شرعية لها عند العرب ، ولكن ينبغي دراستها ومعرفة ظاهرتها والتوغل في بنيوياتها ، والاسس التي قامت عليها .. ليس من وجهة نظر من يحب ويكره ، بل من وجهة نظر علمية ان كنا فعلا نؤمن باهمية المعرفة في حياتنا العربية .
لقد كان أهم ما أسفرت عنه دراسة تاريخ وبحوث اجتماعيات الشرق الأوسط وشمال افريقيا ، هو اسلوب التحليل ، وتحديد الاطار النظري وحسب النتائج التي يتم تنظيمها ، فليس من المعقول ابدا ان نسقط رؤيتنا القومية او الماركسية او الدينية او الليبرالية على ماض معين ونحاكمه على هذا الاساس او ذاك .. وكثيرا ما اجد احكاما تطلق في الهواء تنطلق من هذا الزمن المتقدم لتجد في الماضي اهتراءات هي ” نعم ” في عرف اليوم ، ولكنها كانت واقعا معينا في اي زمن من الازمان الماضية .. ان كان احد ضدنا وان احدا منا يحب او يكره ، فثمة خلل في سايكلوجية المجتمعات التي نتدارسها ، ويظل الناس في المجتمع اسرى هذه الانماط ، لاننا لم نتمكن من وضع ما يسمح لنا ان تتحرر من الماضي المظلم.
ايلاف ، 30 نوفمبر 2007
الجولة الثانية : البنية التاريخية من خلال تحقيب جديد
ها انا ذا اعود الى القراء الاعزاء لاكمل نشر محاضرتي عن التاريخ الحديث للشرق الاوسط وساختزل موضوع هذه الجولة الثانية ، وأحاول تبسيطه ، خصوصا وان فيها جملة هائلة من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة .. وقد آليت ان انشر هذه ” المحاضرة ” بعد ترجمتها بجولاتها الثلاث من اجل ان تقدم اضافة جديدة الى ثقافتنا الفلسفية التاريخية سواء لذوي الاختصاص ام للمثقفين العرب في كل مكان.
البنية التاريخية
اشكر مناقشاتكم سيداتي سادتي حول ما قدمته في الجولة الاولى صباحا ، واشكر اهتمامكم بما نشرته عن نظرية الاجيال في فلسفة التكوين التاريخي وحواركم حول التقسيمات الجديدة في تحقيب التاريخ ، وسأركز في الجولة الثانية ظهيرة هذا اليوم على البنية التاريخية التي أؤمن بوجودها بوحدتيها الكبرى والصغرى والتي اعتمدت فيها على سلاسل الاجيال التي قمت باحتساب اعمارها على اساس الولادات والآجال والتي تدارستها في نظرية المجايلة (= نظرية الاجيال ) . لقد استفدت جدا من ميراث الفلسفة البنيوية التي راجت في القرن العشرين .. واليوم نعيش فلسفات ما بعد البنيوية سواء من خلال التفكيكية وما يراصفها من نظريات .
ان البنية التكوينية التي اقصدها هي غير البنيوية التكوينية التي يطرحها غولدمان في مفهوم ” رؤية العالم ” والتي يطلق عليها بـ ” التوليدية ” وهي المتفرعة عن الفلسفة البنيوية التي كان قد طرحها وعالجها فرناند دي سوسير وطلبته في جنيف قبل مائة سنة وجاءت من بعده جماعة الشلكليين الروس في موسكو .. ولم يستفد من الاصول الاولى في كتابة التاريخ الا ميشال فوكو في توغله في بنى العصور الوسطى عن عالم الجنون ، وبروديل في تفكيكه بنى العصر الحديث عن العالم المتوسط .. ومؤخرا نجح كل من المؤرخ الامريكي بنتلي عام 1996 بدراسته عن التحقيب على اساس ثقافي والمؤرخ كرينين عام 2007 في تحليله سمات العصور على اساس رياضي ، وقد نشر عمله قبل اشهر .. ومن خلال مدرسة موسكو ، ناهيكم عن افكار ودراسات ورؤى كل من بيتر كاوس وديريك اتريخت وجفري بينغتون وروبرت يونك في عملهم الموسوم ” ما بعد البنيوية وسؤال التاريخ ” ، واديث كورزويل وغيرهم .
لكل حقبة او فترة او عصر او عهد او جيل او عقد زمني او مرحلة .. بنية تاريخية خاصة بها ، ولدينا تحقيبات متنوعة للتاريخ سواء تلك التي عرفناها في السلالات في تاريخ العرب والاسلام ام تلك التي عرفناها في العهود بتاريخ الشرق او تلك التي عرفناها من خلال المراحل والعصور : القديمة والوسيطة والحديثة على ايدي المؤرخين الاوربيين ومؤخرا ولد تحقيب التاريخ ثقافيا عند الامريكيين .
البنية التاريخية من خلال تحقيب جديد للتاريخ
يقوم أساسا على تقسيم الزمن إلى صنفين من التقسيمات : ماكرو ( = الوحدة الكبرى ) ومايكرو (= الوحدة الصغرى ) ، فالماكرو اطلقته على العصر التاريخي كله الذي تدوم حياته ثلاثمائة سنة بالضبط ، والذي يحتوي على عشرة مايكروات ، عمر كل واحد منها : 30 سنة ، وقدرت عمر المايكرو بعمر الجيل الواحد ! وتصنف الأجيال على هذا الأساس ، فعمر كل جيل 30 سنة كاملة . ومن هنا ، فان حصيلة امتداد الأجيال في سياقها التاريخي يمثلها نظام مجايلة تاريخية ، كمصطلح بدأ استخدامه في العربية والفعل ( جايل ) .. ثم تدارستها مجتزأة في الفكر الغربي وخصوصا في نقد ومعالجة رؤية عالم الاجتماع الألماني الشهير كارل مانهايم .. وغيره من العلماء الذين لم ينجحوا في وضع أي نظرية حول الموضوع !
أن حياة الإنسان ( أي إنسان فاعل في المجتمع ) تقسم إلى قسمين اثنين ، اذ اعتمدت الآجال واحتساب الأعمار اساسا لذلك ، فحددت على أساس معطى الحياة عند الإنسان في معدلها العام في تواريخنا الاجتماعية بـ ( 60 – 65 سنة ) ، فالقسم الأول من حياة الإنسان يعيش في إطار ورعاية الجيل الذي سبقه ( = 30 سنة للتكوين ) . والقسم الثاني من حياة الإنسان يعيش في إطار المنتج ورعايته للجيل الذي سيأتي من بعده ( = 30 سنة للإنتاج ) ، فالانسان في العموم الاغلب انما يعيش او يعايش جيلين مختلفين ، جيل يتربى في خضمه وجيل يتسمى باسمه ويعد مالكا له . وعليه ، فان كل جيل يعد بنية مايكرو تاريخية ، وقد يبدع الإنسان في سنواته الأخيرة من حياة تكوينه ليحتسب ذلك على محصلة إنتاجه .. وقد يبقى الإنسان منتجا في سنواته المضافة من حياة إنتاجه ، ليحتسب ذلك على محصلة إنتاجه أيضا !!
لقد أسعفت هذا العمل من اجل توضيح البنية التاريخية في مهمة معقدة ، ومنهج رياضي دقيق في فحص تواريخ الولادات والوفيات ( = الآجال ) لرموز الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية في التاريخ وضمن علاقة جيوثقافية وبونية في المجتمع مستفيدا من النظرية النسبية في قياس البعد الخامس ( = المجال ) . لقد تراءت لي النتائج التي استنبطتها بعد أستخدام الكومبيوتر في كتابة التاريخ لاول مرة مستخلصا بأن حياة تكويننا البنيوي مقسمة إلى سبعة عصور كبرى ( وحصيلتها 2099 سنة ) تبدأ في سنة 1 ق.م. وتستمر الى سنة 2099 التي ستقفل القرن الواحد والعشرين مرورا بسنة 599 م ( بعد مرور 30 سنة على ولادة الرسول ص ) وستنتهي في سنة 2099م .. منطلقا من ولادة السيد المسيح ( ع) وانتهاء لمستقبل يقدر بقرابة 100 سنة ومرورا بالإسلام ( الذي يذكر بأن عصرين تاريخيين قد سبقاه من الجذور عمرهما يقدّر بـ ( 600 سنة ) أي منطلقة من ولادة المسيحية ) ! ولقد استخدمت التقويم الغريغوري في حسابات التحقيب كله نظرا للدقة المتناهية فيه ، وأتّممت تقسيمي للبنية التاريخية التي تتشكل منها العصور في فلسفة التكوين التاريخي على نحو تحقيبي حسابي كالتالي :
العصور السبعة : ( المسيحية الاولى ـــ الانقسامية الدينية ـــ التدوينية الاسلامية ـــ العقلانية الحضارية ـــ الموسوعية الثقافية ـــ السكونية التداولية ـــ النهضوية المعاصرة ) .
أن كل عصر يقدر عمره بـ ( = 300 سنة ) ( وهو : الماكرو ) الذي يحتوي على عشرة أجيال ، عمر كل جيل 30 سنة ، ولاحظ أن الواقع يلقي بظلاله على اي جيل فتتكون له سمات ومواصفات كل جيل فيختلف عن الجيل الذي سبقه بعد ان يولد من رحمه ، وهكذا بالنسبة الى اي جيل يأتي من بعده ويولد في رحم من سبقه ! وهذا ” النظام ” ـ كما أطلق عليه ـ هو الذي يحدد تلك السمات التي يتميز بها أبناء كل جيل ، وتجمعهم مواصفات ثقافية واجتماعية محددة تتميز بها رموز كل جيل . وعليه ، فان ذلك ” النظام ” تحدد فلسفته ثوابت “الأبوة والبنوة ” بتعريف المؤرخ البريطاني الشهير ارنولد توينبي ، أو كما أطلقت عليه بمصطلح ” الأستذة والتلمذة “؛ اذ ان كل جيل هو تلميذ لمن سبقه وأستاذ لمن يلحق به !
بنية العصر الحديث :
ولعل أبرز ما يلفت النظر في هذا ” المنهج ” عملية الفصل في حياة التكوين البنيوي التاريخي بين الأربعين من الأجيال التي عاشت بين 599 م و 1799م ، كوني وجدتها جامعة من السلاسل العنقودية وأشجار العواصم الثقافية التي تميزت بها حياة العرب والمسلمين على امتداد العصور الأربعة الأولى ( = 1200 سنة ) ، ولكنني فصلت بنية الأجيال اللاحقة في تكويننا الحديث إبان العصر التاريخي الذي نعيش فيه ونعاصره اليوم نحن أبناء الأجيال الحديثة .. وهو العصر الذي يعّمر 300 سنة أيضا ضمن مسمّيات متعددة كالنهضة والتحديث ولكنه عصر مزدحم بالتناقضات والمشكلات ، اذ وجدت بأن سقفه الزمني بين 1799م وبين 2099م ؛ وان ثقافتنا وتكويننا في العصر الحديث قد اختلفا في مدياتهما وعناصرهما عما حفلت به تكوينات تاريخنا الطويل المؤلف من أربعين جيلا حتى 1799م ، ومنذ هذه النقطة التاريخية التي تعد مفصلا في فلسفة سلاسل الاجيال (= المجايلة ) ، كانت هناك سبعة أجيال على امتداد مائتي سنة للمرحلة 1799ـ 1999م (= 200 سنة ) ! وان الجيل الحالي الذي نعايشه اليوم هو الجيل المرقم بـ 47 من حياة بنية المجايلة التاريخية الكاملة والحافلة ، ولكنه الجيل السابع في إطار العصر الحديث والذي سينتهي عام 2009 ، وستتلونا في القرن الواحد والعشرين ثلاثة أجيال ، يختتمها الجيل المرقم 50 الذي سيقفل عصرنا في سنة 2099م اذا احتسبنا البداية 599 م ، ولكن سيقدر الجيل بالرقم 70 اذا احتسبنا البداية 1 ق.م . ..
هكذا تتضح البنية التكوينية من خلال التحقيب لنقف في نهاية المطاف ونكتب جملة من الرؤى والتوقعات عما سيحدث في القرن القادم ! ان المجال لا يساعدني الان لتحليل الانتقالات بين سلاسل الاجيال ( جمع جيل = 30 سنة من المايكرو ) وكما قلت يعد حاصل جمع 10 اجيال يؤلف العصر التاريخي ( المقدر بـ 300 سنة من الماكرو ) .
ان العصر الحديث الذي يبدأ مع بدايات القرن السادس عشر ، لا يتوافق في حساباته مع هذا التقسيم البنيوي ، وعليه فان العصر الحديث الذي نعيشه اليوم كان قد بدأ عام 1799 وهو يتركب من ثلاثة قرون هي كل من التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين .. اي بين 1799 حتى 2099 (= 300 سنة ) وهو ينقسم الى عشرة اجيال ( الجيل = 30 سنة ) . وعليه ، فان العصر الحديث يتألف من : جيل التأسيس 1799 – 1829 ، جيل التنظيمات 1829- 1859 ، جيل المشروطية 1859- 1889 ، جيل الاستنارة 1889- 1919 ، جيل الاوطان لما بين الحربين العالميتين 1919- 1949 ، جيل القومية العربية 1949- 1979 ، جيل الاسلام السياسي 1979- 2009 ، جيل ؟ 2009 -2039 ، جيل ؟؟ 2039- 2069 ، الجيل الاخير ؟؟؟ 2069- 2099 ( قفلة العصر الحديث ) وبداية عصر آخر جديد .
صحيح أنني اعتمدت الجدولية والحسابات الإحصائية والقياسات الزمنية الثابتة ضمن اكثر من برنامج على الكومبيوتر باحتساب الاعمار من خلال الولادت والاجال ، ولكنني نجحت في أن أحدد المتغيرات في إطار ما أسميته بـ ” الخضرمة ” في بنية المجايلة التاريخية ، مستفيدا من المنهجية البنيوية والقياسات الكمية والإحصائية في بناء محاولة لفلسفة جديدة ، وعند أبناء الجيل السابع الذي تربى على مناهج وتقاليد ربما تخالف الى حد كبير أي رؤية جديدة في منهج التاريخ وتحقيباته وتطلعاته إلى المستقبل بشكل عام ، والى الحياة العلمية والفلسفية بشكل خاص .. وربما لن يدرك البعض ما اريد الوصول اليه ، فليترك ” الموضوع ” الى الاخرين الذين سيكون مدعاة لهم من اجل فهم البنية التاريخية في عصر عربي متخلف !
استنتاجات :
1/ لكل مجتمع بنيته التاريخية ، وداخل كل بنية تاريخية تزدحم عدة بنيويات بكل عناصرها .. وهي لا تكتشف الا بعد التعرف الكامل على البنية الكبرى .
2/ ينبغي القيام بتجسير العلاقة البونية بين الماضي والحاضر مكانيا ، وقياس حجم الاحداث ومقارنة المزيد من النماذج والامثلة للخروج بالتوقعات في رؤية واضحة للمستقبل .
3/ الاستفادة من اهم الفلسفات المعاصرة لتحديد الرؤية والتفكير معا بالنسبة للتكوينات التاريخية القادمة والتي ينبغي ان تنطلق من ميراث الماضي ، ويأتي مثل هذا ” العمل ” أضافه حقيقية للمعرفة المعاصرة .
4/ ابعاد اية مضامين في البنية التاريخية عن المزالق السياسية والمناخات الأيديولوجية التي ذكر بأن لها عدة أنساق أخرى في التعامل .. وبذلك ،ينبغي الفصل بين المعرفي والايديولوجي في القياسات والتحليلات والاستنتاج .
5/ لابد من اثارة جملة من القضايا والجزئيات والإشكاليات التاريخية والفلسفية والمعرفية التي هي بأمس الحاجة إلى أدوار أخرى لباحثين وعلماء عرب آخرين من أجل البحث والتعمق والدراسة للبنيويات التاريخية في المستقبل الذي ينتظر ثقافتنا ومعرفتنا العربية والإسلامية في القرن القادم .
6/ ان التكوين التاريخي يعتمد التحري عن الجذور ، والتعمق في البنى والتراكيب والشخوص ، والمقارنة بين المستكشفات ، والدقة في الأرقام ، وتقديم جملة كبيرة من الأشكال والرسوم المدعمة لارائه وفرضياته .. كما أن أكثر من رسم وشكل ومخطط بحاجة إلى المزيد من الشروح والتوضيحات والتأمل والتحليل والخروج بنتائج مفيدة جدا .
مرة اخرى ، اشكركم على حسن استماعكم ومستعد لسماع ملاحظاتكم وافكاركم .
استشارات : من اجل فهم موّسع لمثل هذا ” التفكير ” الجديد في فلسفة التاريخ ، يستوجب الاطلاع على المراجع التالية في قراءة طبيعة البنية التاريخية :
Lawrence Besserman, ed., The Challenge of Periodization : Old Paradigms and New Perspectives, 1996. See Chapter 1 for an overview of the postmodernist position on Periodization.
Bentley, J. H. 1996. Cross-Cultural Interaction and Periodization in World History. American Historical Review (June): 749–770.
Grinin, L. 2007. Periodization of History: A theoretic-mathematical analysis. In: History & Mathematics. Moscow: KomKniga/URSS.
Peter Caws, Structuralism: The Art of the Intelligible, International Inc., Humanities Press, 1990.
Derek Attridge, Geoffrey Bennington, Robert Young, Post-Structuralism and the Question of History, Cambridge, Cambridge University Press, 1987.
Edith Kurzweil, The Age of Structuralism From Levi-Strauss to Foucault, Paris: Transaction Publishers, 1996.
Sayyar K. Al-Jamil, “Theory of Generations: Structuralism of Middle Eastern History ”, given in New Bodleian, Oxford University, 18th September, 2005.
ايلاف ، 10 ديسمبر 2007
الجولة الثالثة : المجتمع : كيف نفهم مجتمعاتنا ؟
الجواب عند التاريخ الاجتماعي
اعود اليكم ايها الزملاء والطلبة والطالبات في هذه الجولة المسائية كي اتحدث عن اهم عناصر فهم واقع الشرق الاوسط والمتمثلة بمجتمعاته التي انتجها تاريخ متنوع كالذي وقفنا عند بنيته في الجولة السابقة .. ان مجتمعاتنا هي نتاج هذا ” التاريخ ” الصعب المليئ بالقساوة والشقاء ودائما اردد القول بأن تاريخنا سار في خطّين متوازيين لم يلتقيا الا نادرا ، خط سياسي فرضته الدولة وهو مشبع بالقسوة والظلم والطغيان ، وخط حضاري ابدعه المجتمع بكل ما تميز به من خبرات وابداعات وثقافات ومنتجات .. ولكنه خط خذل دائما بسبب وقوعه تحت وطأة الخط السياسي ، فعاني كثيرا من شقاء الوعي وقتل الحياة .. خصوصا عندما نعلم بأن مجتمعاتنا كافة هي مجتمعات عاملة ومنتجة وبرزت على امتداد تاريخها العديد من النخب المثقفة وتعايشت في ما بينها على افضل ما يكون التعايش .. مقارنة بغيرها من مجتمعات اوربية وآسيوية وافريقية وحتى امريكية في التاريخ الحديث ! ولقد كنت قد نشرت بعض الاعمال العلمية حول الشرق الاوسط ، مع التركيز على البنى الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية والتي تعد محركا اساسيا لانظمة الحكم السياسية في تفاصيل التاريخ . ان المؤرخين الاجتماعيين ينبغي ان يركزوا على رصد اوضاع “المجتمع ، والاقليات ، والطبقات الاجتماعية ، والمواطنه ، والمرأة ، والاسرة ، والناس الفقراء والمهمشين ، والفلاحين والعمال والطلاب ونخب الحرفيين والمثقفين .. الخ مقارنة مع غيرها من الهياكل والعناصر الاجتماعية وتاريخها في العالم .
بعد هذه المقدمة ، اود ان اطرح بعض النقاط حول رأيي في التاريخ الاجتماعي لمجتمعات منطقة الشرق الاوسط ، وهو خلاصة عمل استمر اكثر من 25 سنة في هذا الميدان .
اولا : المعاني والتأصيل
ان التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط وشمال افريقيا هو على درجة من التعقيد والتشابك ، ولكن دراسته لها متعة ولذة وعمق ثقافة . ان مصادر معلوماته مختلفة جدا ، عديدة ، وثقيلة ، وبعضها نادر الحصول، وبجد من أجل استخدامها. لقد تناولت مع ثلاث فئات : المصادر الاولية القديمة والمراجع الثانوية الجديدة .. ان اغلب الكتابات في التاريخ الاجتماعي للشرق الاوسط لم تستخدم المصادر الاولى كالوثائق والمخطوطات باستثناء بعض الاطروحات والرسائل والبحوث الجامعية الاصيلة . وكثيرا ما وجدنا دراسات ومنشورات يكتبها علماء اجتماع ولا يعرفون كيف يكتبون التاريخ الاجتماعي .. والعكس صحيح ان ثمة مؤرخين يدورون في حلقة مفرغة من الاحداث والوقائع من دون بناء اية علاقة بين ما يكتب وبين الواقع اليوم . واود ان اقول ان من يجازف في الكتابة عن مجتمعات الشرق الاوسط بحاجة الى فهم مسبق للمصادر والاوليات ، ثم الاعتماد على الموارد الاجتماعية وكذلك الى اعادة التفكير في تشكيل الحياة الاجتماعية للشرق الاوسط وشمال افريقيا ، وهذا ما نجح فيه المؤرخ البريطاني الشهير البرت حوراني في كتابته عن شعوب الشرق الاوسط . ان نقصانا كبيرا في المحليات ، وكل ما كتب في المحليات لا يفي بالغرض العلمي ، ولا يزيد من معرفتنا شيئا .. فان كان هناك من نقص فاضح في المحليات بالمنطقة ودراساتها المركزة ، فكيف يمكن لأي شخص ، حتى وان كان متخصصا ان يكتب شيئا عن مجتمعات واسعة في منطقتنا ؟
لقد اعتنى الجيل القديم من المؤرخين بالمحليات ، وكان على الجيل اللاحق ان يواصل طريقه باتمام المهمة التي بدأت ولكن هذا لم يحدث مع الاسف .. ثمة دراسات ممتازة في كل من تركيا ولبنان وتونس في هذا الجانب ، ولكن تبقى بقية البلدان تجهل نفسها .. فانت تسأل في ايران عن اي منطقة فيها ، ستجد انها مجهولة تماما عندهم ، وهكذا بالنسبة الى العراق الذي يكاد نموذجه قد فضح بعد العام 2003 ، اذ بدأ العراقيون يسمعون لأول مرة باسماء واساليب عراقية لم تكن ترد لا في ذاكرتهم الجمعية ولا في اعلامياتهم الضخمة .. لقد كتب عن التاريخ الاجتماعي من وجهة نظر احادية وهذا ما لمسته شخصيا في الجزائر ، اذ يكاد شرق البلاد لا يعرف سيرورة غربها .. وان شمالها هو غير جنوبها .. اما اليمن فحدث ولا حرج عن مبلغ التهميش في المجتمع واوضاعه المغلقة .. الخ
ثانيا : الرؤية الواسعة
وعندما نلقي نظرة على الشرق الاوسط فان أول ما يتبادر الى أذهاننا انه متجانس المنطقة. ومع ذلك . ان الشرق الاوسط اليوم يشمل مساحة شاسعه تمتد من البلقان نزولا الى شمال افريقيا . ان المساله المهمة في التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط هو اعطاء بعض المعرفه ليس عن الاكثريات التركية والايرانية والعربية ، بل التعّرف على الأقليات الاجتماعية ، خصوصا وان بعضها غير معروف حتى يومنا هذا بسبب انغلاقه التاريخي والجغرافي لازمان طويلة . ان هناك حتى يومنا هذا من لا يعرف شيئا يذكر ـ مثلا ـ عن الدروز او المتاولة او اليزيدية او الكاكائية .. الخ
ان مجتمعات الشرق الاوسط خليط من اقليات سكانية قديمة وحديثة قد تكون مدمجة بالمجتمعات الكبرى للاكثريات ، او انها باقية منعزلة حتى يومنا هذا سواء في بيئاتها الجغرافية الصعبة ، او في بيئاتها المحلية المشتركة مع الاكثريات السكانية : ان فسيفساء المجتمعات في الشرق الاوسط يتطلب منا معرفة القوميات والطوائف والاديان والملل الاجتماعية كالارمن والاثوريين والاكراد والامازيغ البربر تامزغا مع الشلوح المغاربة والقبائل والشاوية في الجزائر وبقايا الموريسكيين الاندلسيين في تونس والتركمان والدروز والكلدان واليعاقبة السريان والكاثوليك والارثودكس والبروتستانت المسيحيين والبهائيين والنصيرية العلويين والعلي الهيين والمتاولة واليزيديين والصابئة المندائيين واليهود الشرقيين والمارونيين اللبنانيين واللور الفويليين العراقيين والاقباط المصريين .. وهناك البدو والسودانيين والمالطيين والشبك والشروك العراقيين واليونانيين والبلوشيين والهنود والافغانيين والقزوينيين والجركس والشيشانيين والبهائيين والبختياريين والخواجات الطليان والزنوج والافارقة والاحباش .. الخ
انهم بحاجة ماسة الى ان تعطيهم حقوقهم التاريخية والاجتماعية والانسانية في مثل هذا ” العصر ” الذي اختلف كثيرا عن شموليات الماضي وهيمنة الاغلبيات على الاقليات .. انهم بحاجة الى اعتبارهم قوى حيوية وفاعلة ونشيطة في المجتمعات التي عاشوا فيها .. انهم جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ وهم ايضا سيكونوا جزءا لا يتجزأ من رسم صورة المستقبل ، فهم شركاء في الجغرافية والتاريخ معا
ثمة مسألة استنتجتها من خلال قراءاتي وعملي في التاريخ الاجتماعي ان ثمة كتب متخصصة عن هذه الاقليات والقوميات والديانات .. وقليلا بل ونادرا ما اجد دمجا في دراسة مجتمعات التاريخ الوسط بشكل هيئة اجتماعية .. فمثلا ان درس المجتمع العراقي وتاريخه يكاد يكون معظم المضمون ينّصب على العرب العراقيين .. وهذا صحيح كونهم الاغلبية ، ولكن من طرف آخر فان الدراسة لن تكتمل الا بمعرفة طبيعة العلاقات السائدة والتاريخ المتوارث من بقايا العادات والتقاليد المشتركة وطبيعة الحياة المشتركة في مجتمع محلي او وطني واحد .
ان مفهوم الشرق الاوسط يصبح غير ذي صلة لكم عندما يفكر جديا في الاختلافات فى الثقافة والاقتصاد والتاريخ وبين كل من هذه البلدان ، ولكن عقد ذات الصلة يتمثل بتعدد الاعراق والثقافات والتقاليد. انني اسجل هنا نقطة اعتقد انها جديرة بالدرس ذلك ان مفهوم الاقليات لا يمكنه ان ينحصر في الفئات السكانية والاجتماعية الدينية والقومية والطائفية حسب ، بل ان ثمة احاسيسا بالرفض من قبل النخب المفكرة والجماعات المثقفة وهي بالفعل اقليات في وسط اغلبيات من الناس العاديين المهيمنين على مقاليد المجتمع وعاداته .. وينشط هؤلاء من الاكثرية ليكونوا ضد الجماعات المثقفة والنخب المتمدنة اذا ما وقفت الدولة ومؤسساتها الى جانب الجماهير ، وساوت حقوقها مع الجميع .. عند ذاك يحس المثقف بالمهانة ويشعر بالتباين ويتطور الى احساس بالشقاء والتهميش ، فيهاجر الى مكان آخر من هذا العالم . وعليه ، فان شعوره كأقلية في اي مجتمع اوروبي او امريكي او استرالي ينتفي عندما يحس بأن حقوقه هي اكبر مما كانت عليه في وطنه .. وليس عليه الا دفع ضريبة الاغتراب القاتل .. ولكن ؟ اذا كانت الجاليات حتى نهاية القرن العشرين في الغرب قد ميزّت نفسها كمتخصصين ومثقفين ومبدعين واطباء ومهندسين .. فلقد غدت الهجرة بابا مفتوحا للجميع ، فانك تجد اليوم مجتمعات شرق اوسطية مغلقة في كل من اوروبا وكندا وامريكا .
ثالثا : المشكلة الاساسية
لماذا التاريخ الاجتماعي مهم جدا في الشرق الاوسط؟
استطيع القول انه لا يمكنك ان تطلب من مجتمعات الشرق الاوسط فصل انفسهم عن تاريخها ، فهي تعيش الماضي في اعماق اعماقها ، وليس الحاضر في نظرها اي شيئ يذكر امام ذلك الماضي الذي تربت ليس على احترامه ، بل تقديسه .. وقد اجد ذهنية متباينة بعض الشئ في الرؤية الى المستقبل ، بل وتصل حدود الرؤية ليس القطيعة ، بل العداء لكل الماضي الذي فات ، اذ تتحول الامجاد عند الاكثريات والاغلبيات الاجتماعية الى انكار مطلق عند الاقليات الاجتماعية ، وقد يكون الانكار مكبوتا في السر ، او يصل الى حد العلن .
لقد تخلصت اوروبا ومجتمعاتها الغربية خصوصا من اي التصاق بالماضي ، اذ بقي الماضي يشكل ذاكرة تاريخية تثير الاعتزاز وتفرض الاحترام ولكن بعد نقد التاريخ وتشخيص المواقف واعتراف بالاخطاء والتركيز على المحليات التاريخية ، لكشف سمة كل هيئة اجتماعية سواء كانت عمالية ام فلاحية ام سياحية ام جامعية .. الخ ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط لا تعرف القطيعة مع التاريخ في حين تخلصت المجتمعات الغربية وخصوصا الاوربية من ذلك منذ نهاية القرن الثامن عشر ، اذ ولدت وتبلورت مفاهيم جديدة استطاعت ان تحل بدائل لما كانت تفرضه المؤسسات الدينية الكنسية وما تريده الدول والعروش وما يتطلع اليه الاقطاع القديم .. ان مفاهيم القطيعة مع الماضي لم تلد من فراغ ، بل كانت من ورائها حركات وافكار وفلسفات .. جعلت الانسان يفكر في حاضره ومستقبله وكيف يصارع الاضداد بدل الجلوس مع البكائيات او ترديد النصوص والاشعار او تبادل الروايات عن الماضي والتفاخر به او صرف الزمن في الطقوس الكنسية ..
لقد تبلورت المفاهيم الانسانيه والدستورية ، وظهرت الحاجة الى العلمانية بعدم تدخل رجال الدين في آليات الحكم والسياسة والتشريع ، وكان لابد من الحريات والقوانين المدنية التي تلبي ضرورات الحياة الحديثة ، والتفكير في المثاليات الطوباويه والحركات القومية ، والوصول الى الاشتراكيه التعاونية وتطورت المجتمعات الغربية على حساب تفاقم الاستعمار وتبلور صراع الطبقات اثر الثورة الصناعية وصولا الى الحرب العالمية الثانية مع تبلور المفاهيم الشوفينية العنصرية .. وصولا الى الحرب الباردة التي انهت الصراع لصالح الرأسمالية الكابيتالية والعولمة .. لقد اصبحت المجتمعات في العالم تخطط لمستقبل ايامها قبل ان يشغلها ماضيها .. ان ذكرياتها التاريخية لا تفيدها الا بجعلها مجموعة دروس وعبر من اجل معالجة الحاضر وبناء المستقبل ، اما ان تبقى تلوك روايات الماضي وتراجيدياته ومآسيه وتبكي وتولول عليه ..او ان تتحرك من خلال رواياته لذبح الناس بناء على ما قيل في الماضي .. او انها تحتفل وتمجد في حوادثه وتجعل من ابطاله شخوصا يعيشون معنا .. يأكلون ويشربون برفقتنا وليس مجرد بضعة رموز من الماضي .. فهذا هو اس الداء الذي كان ولم يزل يفني مجتمعاتنا ، ويأكل زمننا ، ويهيمن على مشاعرنا ويضيق على تفكيرنا ويجعلنا اسرى في شرانق لا يمكن التحرر منها او الخروج من نسيجها وخيوطها اللزجة المدمرة أبدا .
وعليه ، ففي المجتمعات غير الشرق اوسطية يمكنك ان تقول ما تريد. ولكنك محروم من ذلك في مجتمعاتنا ، وان الناس لم تزل تعاني من بقايا التاريخ وترسباته القوية التي تعيش في الضمائر. نعم ، انهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين ، ولكن لا تزال وجداناتهم مشحونة بما قال فلان وما فعله علان في الماضي .. ان التقاليد والعادات والاحساسات بالانتماءات العرقية والقبلية والمذهبية والدينية مغروسة في الاعماق ، وغدت راسخة حتى لدى متعصبين وعصابيين في الجيل الجديد .. انها موجودة في اللامنتمي لهذا العصر ولكن الانتماء للماضي مفرط للغاية . وعليه ، فنحن بحاجة ماسة للقطيعة التاريخية ، واتمنى ان لا يتهمني البعض من المتعصبين والمتطرفين اتهامات باطلة ، بل انها دعوة مخلصة من اجل ان نحترم الماضي ونفهمه ولكن علينا ان نبعده كي لا يكون سببا في انقساماتنا اليوم وتشرذمنا وصراعاتنا الدموية مستقبلا . انها دعوة من اجل معرفة الاخطاء وتشخيصها والاعتراف بما سجّل من اخطاء وخطايا لا دخل لنا فيها نحن ابناء هذا العصر ، فاما ان نكون معاصرين حقيقة وننتمي لهذا العصر الذي اصبحنا جزءا منه ، او نرفضه رفضا قاطعا ونبقى في اطر الماضي وشرانقه وهذا يستحيل حدوثه ابدا .
رابعا : وجهان لعملة واحدة
ماهية التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للشرق الاوسط وشمال افريقيا؟
عندما نفلسف التاريخ الاجتماعي لمجتمعاتنا قاطبة نشعر بالقلق والالم على اولئك الناس الذين عاشوا حياتهم الصعبة في الماضي .. وكيف كانت افكارهم وتجاربهم وممارساتهم ؟ ولماذا لم تبق تصرفاتهم على ما كانت عليه ؟ لماذا تغيرت الاساليب مع مرور الزمن ؟ وهنا يستوجب الاجابة على مجموعة واسعة من الاسئله حول السلوك الاجتماعي ، والمنظمات والطرقيات واساليب العيش والهويات في الماضي. دعونا نضرب امثلة تاريخية مستلة من دراسات علمية عن تاريخية الاقتصادات التي عاشتها مجتمعاتنا بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر كي نجد اربعة قرون زمنية عانت مجتمعاتنا من اهوال وكوارث طبيعية وسياسية وادارية واجتماعية ، فلقد عانت من آثار الفيضانات ، وارتفاع الأسعار ، والمجاعات ، والاوبئه ، والكوارث ، والزلازل .. وايضا من صرامة العهود العسكرية واساليب الجندرمة وقسوة الولاة وضرائب السوق ، وغيبوبة المجتمع وتفاهة ثقافته ، وانتشار الطرقيات ، والايمان بالخرافات ، والتشبث بالاضرحة .. الخ سيجد كم كانت وساوس الناس شديدة وتعلقها بالاوهام ..
ولكن من يدرس التطورات التجارية ، وحركة السوق ، والعلاقات الانتاجية للارض واقطاعاتها العسكرية .. الخ سيخلص الى ان مجتمعاتنا كانت سلبياتها اكبر بكثير من ايجابياتها في اغلب المناطق الحيوية والمدن المهمة في الشرق الأوسط ، وفيها ثلاثة انواع من التجارة : المحلية او الداخلية والاقليمية والدولية. اما الطرق التجارية القاريه ، فقد استخدمت الطرق والمسالك البرية والنهريه والبحرية .. ولعل ابرز طبقة قديمة عرفها تاريخنا الاجتماعي هي طبقة التجار وتباينت قوتها حسب تفاعلها مع سوق البازار الشرقي ومنافستها سوق العالم الذي كان يسيطر عليه الاوربيون ، ثم تأتي الصناعات والحرف في المدن المهمة التي وجدنا كم تطورت حتى خلقت لها مشيخات حرفية ( = بمثابة نقابات له ) ناهيكم عن مواريث الزراعة التي وجدت في الريف ، وكانت المدن تعتمد عليها اعتمادا كبيرا .. اما البدو ، فكثيرا ما كان يقف في الضد من الحضر ويشتهر بالسلب والنهب على المسالك التي تمر بها القوافل . لقد نجح العالم العراقي الاستاذ علي الوردي في تفكيك العلاقة الثنائية بين البدو والحضر كتلك التي ميّزها العلامة ابن خلدون قبل قرون ، وقد اطلقت ثلاثية جديدة متواضعة في التاريخ الاجتماعي من خلال دراسة علاقات الصراع بين الحضر والريف والبادية .
خامسا : الثلاثية بديلا
كيف تطور التاريخ الاجتماعي في الثلاثية التي ناديت بها ؟
هنا اقترح لمعالجة تاريخنا الاجتماعي ضمن منظور التنمية الاجتماعية في تاريخ الشرق الأوسط في مسألتين اساسيتين ، هما :
(1) معالجة القضايا الاجتماعية من خلال التاريخ المحلي في ثلاثة أبعاد هي : المدن والقرى (= الريف ) والبادية (= الصحراء).
2) المساله الثانية تتمثّل بتاريخ المركز واحتياجاته وارتباطاته باللواحق والاطراف ، او ما عبّرت عنه بـ ” الدواخل والاطراف ” (على سبيل المثال ، لدينا اثنين من المجتمعات ببغداد نفسها ، وهما مجتمع حضري قديم ينتمي الى دواخل بغداد القديمة وآخر يتمثل بمجتمع لواحق عاش خارج الاسوار القديمة .. ولكن وجدت بغداد نفسها خلال القرن العشرين بهيئة مختلطه واحدة ( يعّبر البغداديون القدماء عنه بمصطلح ” لملوم ” ) وهذا ما نجده في اغلب المدن الحيوية في مجتمعات الشرق الاوسط .. كما وجدت مصطلحا جزائريا يسمي الطارئين على المدن بـ ” اولاد الاعروبية ” ومن يتأمل في مصطلحات اغلب المدن سيجد سمات يطلقها ابناء الدواخل على ابناء الاطراف المختلفين الذين وجدوا انفسهم في قلب المجتمع في النصف الثاني من القرن العشرين ، ولم تستطع كل الانظمة السياسية الحاكمة من ايجاد حلول عملية لهذا التداخل وآثاره على مجتمعاتنا ، بحكم وصول ابناء الاطراف الى المواقع المتقدمة في الحكم وقيادات البلاد ابان النصف الثاني من القرن العشرين ، بكل ما يحملونه من ارث اجتماعي وسايكلوجي مضاد ..
سادسا : تشخيص البنى الاجتماعية القديمة وتفكيكها
بحلول القرن السادس عشر ، ووصول الامبراطوريه العثمانيه ذروتها من القوة في نظام الشرق . كانت الاراضي باجمعها مقسمة الى اقطاعات عسكرية ( تيمارات وزعامت وخواص ) اتسمت العلاقات الانتاجية بوقوع مظالم لا حدود لها على الفلاحين الذين يعيشون على مساحة واسعة من الشرق الاوسط تمتد من قلب اوروبا حتى الصحارى العربية. وبالرغم من ان الامبراطوريه العثمانيه كانت قوية وجيدة التنظيم ، الا ان المجتمعات في كل من شرقي اوروبا والشرق الاوسط كانت تعاني من هول كوارث لا حصر لها ، وخصوصا عندما لا تنتج الارض شيئا لانحباس المطر مثلا ، فتنتقل المشكلة الى غلاء فاحش ومن تنتقل المشكلة الى مجاعة عارمة وهنا تنتقل الى تفشي الاوبئة والطواعين التي تنتقل بالعدوى .. لم تكن المجتمعات لها وعيها بالعدوى .. فكثيرا ما ينتقل الوباء بعد تشرد الناس في البراري فتنتقل الطواعين من مدينة الى اخرى . ان رصدا دقيقا للتاريخ الاجتماعي ، سيعلمنا ان انهيار الاقتصادات المحلية كانت سببا في حدوث مشاكل اجتماعية لا تعد ولا تحصى .
من الواضح ان المجتمع كان ينقسم ابان اربعة قرون مضت الى الطبقات الاجتماعية التالية ، ( مثلا دراستي عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية خلال القرن الثامن عشر، نشرت في عام 1985) ، اذ وجدت ان هناك خمس طبقات اجتماعية :
1) طبقة الاعيان وملاك الاراضي (2) الطبقة العسكرية : الانكشاريون والسباهيون . 3) طبقة العلما والادبا من المثقفين وعلماء الدين الكبار . 4) طبقة التجار : السلطة والمال لدى التجار الجلبية او التجار الصغار العاديين . 5) طبقة الحرفيين والصناعيين (العمال والفلاحين والكادحين والفقراء والمعدمين .
كان نظام الممل هو السائد على مدى العهود العثمانية ، ويشبه بعض المؤرخين الامبراطوريه العثمانية سابقا بالولايات المتحدة الامريكية اليوم ؛ اذ كانت دولة قوية اتخذت من اللامركزية اسلوبا في حكم الايالات (- الولايات / الاقاليم ) ورافقتها مشكلات لا تعد ولا تحصى في علاقتها بالمجتمعات التي حكمتها . ان أهمية نظام ” الملل ” millets هو الذي جعلها فوق الجميع باستخدام مفهوم ( الملة العثمانية ) ، وخلق المزيد من التعايشات الاجتماعية على الرغم من اهتزاز الصلات بين مجتمعاتنا والسلطات المركزية .
سابعا : المرأة المختفية من التاريخ
منذ جيل مضى ، تساءلت المؤرخة البريطانية شيلا روبوثام عن سبب اختفاء النساء من التاريخ ! اما في الشرق الاوسط ، فبالرغم من العجز الكبير في تاريخ المرأة في عدة مجالات ، الا ان المرأة في المجالات الاجتماعية ، لا سيما خلال العصر العثماني ، فقد كانت تتمتع بمساحة من الحرية. وتدل وثائق المحاكم الشرعية عن حرية العمل الاجتماعي للمرأة والحرية في امتلاك الارض . ويقر العديد من المؤرخين الاجتماعيين في العالم ان المرأة كانت في التاريخ الحديث للشرق الاوسط تتمتع بحقوق افضل بكثير من حقوق المرأة في جميع انحاء اوروبا وامريكا وخلال الفترة الزمنية نفسها.. ربما اتفق بعض الشيئ في ما يخص حالات معينة ، ولكن اجد ان اوضاع المرأة كانت مزرية ومهضومة في حقوقها وواجباتها .. ولقد تعّرضت لمشكلات لا حدود لها ، ولم نشهد اية ادوار تاريخية لنسوة في الشرق الاوسط وصولا الى القرن التاسع عشر . لقد بقيت المرأة مهمشة لتاريخ طويل بالرغم من كل خدماتها التي قدمتها للمجتمع .
ثامنا : الاستنتاجات
1) اود ان اشدد على اهمية فهم مجتمعاتنا بالتركيز على التاريخ الاجتماعي ، وخصوصا ايلاء الاهتمام بتواريخ محلية لمدننا العريقة وللارياف والقرى ثم للبوادي .. وتحليل العلاقات الانتاجية التي كانت سائدة مع كل تحولاتها ، ثم المرأة والاسرة والتماسك الاجتماعي مقارنة مع مجتمعات اخرى في العالم .
2) وإذا فهمنا هذا التاريخ الاجتماعي ، فان مشروعات تبني التحديث في مجتمعات الشرق الاوسط تصبح سهلة في مجالات مفيدة ، مثل : النمو الحضري ، ودور المرأة ، والعمل وتنمية الامكانات ورعاية الابداعات وتوفير الضمانات التي تطور الحياة الاجتماعية والاعتناء بحقوق الانسان والتمتع شيئا فشيئا بالحريات ومن ثم بناء الديمقراطية .
3) اعتقد ان هذا النوع من التأريخ الاجتماعي يعطي كل المجتمعات في العالم اليوم الكثير من الخبرات للتعامل مع سكان تلك المنطقة المعنية ، وخصوصا اذا علمنا بأن التنوع والتعدد من سمات مجتمعاتنا . من هنا يتم التأكيد على احترام كل التنوعات الاجتماعية للاغلبيات والاقليات وربطهم بنسيج واحد .
4) اود ان اترك انطباعا نهائيا لدى جميع المهتمين بهذا الموضوع ، يقول بأن لا فهم لمجتمعاتنا الا بمنهج ، ولا تاريخ لها من دون وثائق .. ولا اطلاق اية احكام مطلقة من دون دراسة وبحث دقيقين ..
5) واخيرا اقول ان مجتمعاتنا كانت ولم تزل في خدمة الدول والانظمة الحاكمة .. في حين ان الدول والانظمة الحاكمة ينبغي ان تكون في خدمة مجتمعاتها . لقد دفعت مجتمعاتنا اثمانا باهضة من اجل تحررها وتطورها .
اشكركم على حسن اصغائكم وانا مسرور جدا لتقديم هذا العرض ، وساكون سعيدا لسماع اسئلتكم حول ما قدمت .
ايلاف ، 17-18 ديسمبر 2007
انتهى الملف
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …