الرئيسية / مقالات / الباكستان مشروع فوضى خلاقة جديد !

الباكستان مشروع فوضى خلاقة جديد !

كنت قد نشرت في صحيفة البيان الاماراتية الغراء يوم 8 اغسطس 2007 مقالة عن برويز مشّرف اسميتها ( برويز مشّرف في خط النار ) قلت فيها : ” والباكستان اليوم تمّر بأشد ازماتها بعد ان خسرت حروبا وان وقوفها الى جانب الولايات المتحدة في غزو افغانستان بالحرب على الارهاب قد فجّر الموقف الداخلي . فاذا كانت المذكرات قد كتبها ـ برويز مشّرف ـ من موقع القوة ، فهو اليوم ضعيف يسعى نحو المدنيين لاقتسام السلطة وربما سيخلص من ورطته وهو في خط النار فعلا .. وما لقائه الاخير مع السيدة بنازير الا الشروع بصفقة جديدة ” .. وختمت المقال بانتظار ولادة احداث جديدة في الباكستان .. وها نحن نشهد منذ ثلاثة اشهر جملة تغيرات ساخنة تحدث فيها ، وانها تعيش مخاضا تاريخيا صعبا يؤسسه الانقسام السياسي الحاد بين كل الفئات السياسية التي دخلت مرحلة جديدة وخطيرة جدا ، سيكون لها تأثيرها ليس على الباكستان وحدها ، بل على كل منطقة الشرق الاوسط ، ويذهب جوزف بايدن ليقول ان الخطر سيهدد الامن العالمي كله .
أقول : ان اوضاع الباكستان اليوم تشبه الى حد كبير اوضاع ايران قبيل سقوط الشاه عام 1979 ، وانها منقسمة بين سياسة بوليسية قمعية وتنظيمات جماهيرية شرسة .. ان الفوضى التي تأكل الباكستان اليوم ستخلق منها دولة دينية متشددة بفعل عوامل متعددة لم يكن برويز مشّرف وحده سببا في بلورتها ، بل انها تمتد الى تفاعلات قرابة خمسين سنة من نتائج الانفصال عن الهند على اساس ديني ، ومسلسل الانقلابات العسكرية ، والادوار الامريكية الخفية ، ونشوء التيارات الاصولية فيها قبل افغانستان ، وانفصال بنغلادش (= الباكستان الشرقية سابقا ) ، وردود فعل الاحتلال السوفييتي لافغانستان ، وهشاشة الديمقراطية الباكستانية مؤخرا ، والتي لم تصل تقاليدها لما هو الحال في غريمتها الهند مع اخفاقات مستمرة للانتخابات ناهيكم عن التعقيدات الطائفية في الداخل ..
كلها اليوم تجتمع لكي تحدد مصير الباكستان وهي تعيش بين مطرقة دولة ( بوليسية ) في العلن وسندان تنظيمات ( ارهابية ) في الخفاء ! ولا يمكن ازاء هكذا حالة بقاء الولايات المتحدة صامتة وهي تراقب الوضع المتفجر والمحفوف بمكاره ولادة احداث دموية او ولادة دولة على غرار ايران او طالبان ! ان ما يهم الولايات المتحدة الامريكية حقا هو البرنامج النووي الباكستاني والاسلحة النووية المتطورة وقدرة اي نظام قادم يهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة .. انني اعتقد ان هذا وحده فقط يشكّل كابوسا للامريكيين في وصول نظام متطرف الى الحكم .. واعتقد ان الديمقراطية والاستقرار هما آخر ما تفكر فيهما الولايات المتحدة لا لباكستان ولا لغيرها ، فهي ساعية لصناعة الفوضى الخلاقة ليترشح عنها ما يمكن فعله في الداخل وما يمكن جنيه في الخارج .
ان السكوت عن تعطيل برويز مشرّف للدستور وحل الاحزاب وفرض الاحكام العرفية معناه مباركة امريكية لحكم عسكري نتيجته السقوط بعد ان يقّدم خدماته المرجوة .. ولما اصبح برويز قريبا من خط النار ، فان العودة الى النهج الديمقراطي لا يمكن ان تخلصه من مأزق داخلي لا هو ولا نواّز شريف ولا حتى السيدة بنازير بوتو التي لم تدرك هي الاخرى حجم التغيرات التي اصابت الباكستان وحجم التطرف الديني الذي يعمها بوجه خاص منذ غزو افغانستان عام 2002 وغزو العراق عام 2003 !
ان المشكلة لا تحل بتبديل مشّرف زيه العسكري الى مدني ولا بعودة بنازير التي تحلم بالسلطة على الطريقة القديمة ! ان مليارات الدولارات التي صرفتها امريكا في الباكستان من اجل استئصال تنظيم القاعدة قد ذهبت سدى ، كما يبدو ، ولا يمكننا تخّيل ان الديمقراطية الباكستانية سترجع بين عشية وضحاها كما كانت عليه صورتها في الماضي . ان هذا ” الحليف ” قد فشل فشلا ذريعا . فهل كانت الولايات المتحدة الامريكية مقتنعة بفشله ام انها ساهمت في صنع هذا ” الفشل ” لغايات جديدة ربما يكون ثمنها صناعة فوضى خلاقة جديدة في الباكستان بعد الاستغناء عنها ! وعليه ، فماذا ستكون عليه الخطط الامريكية الجديدة في منح المساعدات ام قطعها ام زيادتها ؟ هل ستمضي الفوضى في ظل لعبة ديمقراطية والوقوف الى جانب المعتدلين من اجل ضرب الجنرالات العسكريين والمتطرفين الاصوليين ؟
هنا ، علينا ان ندرك ايضا مدى تأثير متغيرات الباكستان على أوضاع المنطقة كاملة في معادلة صعبة للغاية تمثلها تحديات القاعدة في افغانسان ، والمواجهة مع طهران التي تذكي الصراع اعلاميا وسياسيا ، ومصاعب العراق التي قد تطول .. ناهيكم عن قضية الشرق الاوسط وامن اسرائيل .. الخ ان الباكستان لا تشكّل بالنسبة الى الولايات المتحدة مجالا حيويا استراتيجيا لا من الناحية البترولية ولا من الجغرافية .. فهي ليست عبئا مستقبليا ، ولكنها بوابة الشرق الاوسط نحو آسيا ، وهي في صراع مزمن مع الهند ولها حدودها مع افغانسان وايران . ان صناعة الفوضى الخلاقة لا يمكنها ان تنجح الا على ايدي المتطرفين الاصوليين الذين تمتلأ الباكستان بهم ! ويبدو ان الولايات المتحدة قد اقتنعت بأن مصالحها لا يمكن تحقيقها الا بزراعة الفوضى الخلاقة .. وان اشعال الفوضى لا يمكن ان ينطفئ بسهولة ، فهو قابل للامتداد نحو اصقاع متعددة من آسيا ..
وأخيرا ، فان ثمة هواجس مخيفة لدى العديد من المراقبين والمحللين في العالم كله عن الباكستان في مخاضها اليوم ، فهي مقبلة على تحولات صعبة جدا سواء من خلال الانتخابات ام من دونها .. وان الدور الامريكي سيلعب في هذا الميدان وهو يدرك ان ما يهدد فعلا هو البرنامج النووي الباكستاني وليس دولة الباكستان دستورية كانت ام عسكرية ام اصولية ؟؟؟ فهل وعينا الدرس تماما ؟ انني اشك في ذلك !
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 21 نوفمبر 2007

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …