الرئيسية / افكار / المكان كالانسان : أصادقه وأعشقه !!

المكان كالانسان : أصادقه وأعشقه !!

ظاهرة رائعة
المكان .. ظاهرة رائعة في الوانها وعناصرها وتشكيلاتها وكل فضاءاتها .. ولا يمكن لأي انسان ان يسيطر على جميعها مهما اوتي من القوة والعمر ، فالارض كبيرة رغم صغرها اليوم .. نعم ، لقد اقترب المكان كثيرا من خلال الصورة والصوت والوسائل الاعلامية والتكنولوجية .. ولكن يبقى المكان مختلفا بروحه ومذاقه وطعمه واشكاله .. فالمكان له وجوده المليئ بالاشياء والصور والعناصر .. الانسان يعشق المكان حسب ثقافته وامزجته واهوائه ومشاعره واعصابه .. الانسان ربما يتعلم من المكان أشياء لا تعد ولا تحصى وربما لا يتعلم منه شيئا !
ان فلسفة التعامل مع المكان مهمة صعبة للغاية ، فهي نسيج من سايكلوجيا معقدة ، وهي تقدم او تراجع في الزمان .. وهي لا تعمل ابدا بالمطلقات بل تحكمها نسبية الاشياء . ثمة اناس يعشقون السفر ، فهم يغيرون المكان بين الفينة والفينة ، وبشر لا يريد الانتقال فيبقى ضمن سياج بيئته .. قرأت لمؤلف قديم عاش قبل 250 سنة في مدينة صغيرة انه قرأ مئات الكتب وكتب العشرات من دون ان يغادر مدينته التي بقي يعشقها ويتغزل بها ! وقرأت لمؤلف آخر لا يرتوي من مكان حتى يذهب الى مكان آخر ..
كان المثقفون قبل قرون يولدون في مكان وينشأون في مكان ويدرسون في مكان ويعيشون في مكان ويموتون في مكان آخر .. لعل من قرأ سيرة السيد جمال الدين الافغاني سيجده ولد في ايران ودرس في العراق وهرب الى الهند وعاش في افغانستان وحج الى الحجاز وتوظف في استانبول ونفي الى مصر التي اشتهر فيها وطرد الى الهند وعاد الى ايران وذهب سرا الى روسيا وعاد الى ايران ونفي في البصرة وهرب الى الهند وحلم بامريكا وعبر الى لندن واستقر بباريس ومر بايطاليا وانتهى بقصر يلدز ليموت في استانبول ويدفن فيها وبعد عقود من الزمن ينقل جثمانه الى كابل عبر العراق .
ذاكرة مكان
لقد تعلمت من سفريات كثيرة ان امشي في المدن التي اعشقها لوحدي استكشف الاهم من مناطقها التاريخية واتعرف على حياتها الاجتماعية وعندما اسافر لا انام .. وثمة عادة عندي ، وربما كانت لدى غيري انني افكر في المكان كثيرا ، فاذا ما عشقت مدينة معينة واذا ما مشيت في شارع كان له وقع في نفسي فانني اقول لنفسي : سازورك ايها الشارع وساراك ايتها المدينة ثانية .. ولكن متى ؟ لا اعرف .. والمكان كالانسان بعضه تحّبه وتعشقه وبعضه لا تستسيغ محادثته ولا تأنس بمجالسته ولا ترتاح اليه .. لقد كانت لي صداقات مع اماكن عشقتها في هذا العالم .. كّل منها ارتبط بصورة معينة او صورة جميلة لا يمكن ان تنزعها مخيلتي ابدا .. من المدن التي عشقتها بروكسل التي زرتها مرة في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين .. كانت تنطق حيويتها في ميادينها القديمة وانغرست ذكراها .. بعد ربع قرن زرتها ، فوجدت روحها قد تغّيرت واناسها قد كثرت وتاه علي الاوتيل الذي نزلت فيه لأول مرة ، بل وحتى قصر العدالة قد اصابته الشيخوخة .. ولولا صحبة رائعة معي لكان غادرتها بلا استئذان .. اما لندن ، فان تجربتي فيها قد علمتني الكثير وخصوصا عندما كنت طالبا ، بل وكنت اعتبرها مركز التقاء العالم .. بعد اعوام طوال لم اجد لندن التي اعرفها واعشقها .. وجدت لندن مدينة مكتظة بالغرباء لم اجد اصحابها من اهاليها الحقيقيين .. الغلاء الفاحش يبتز الجميع ، لم تعد حتى المكتبات العامة مفتوحة للاخرين لم اجد خطباء هايد بارك القدماء.. لقد استغربت كثيرا عندما وجدت ان لندن قد تحولت الى مدينة اوربية شرقية ، وفي بعض مناطقها فضاءات آسيوية .. ولم يبق الا تقاليد شرطة عند بوابات القصور الملكية !!
القاهرة التي زرتها قبل ازمان طعم لا يمكن ان ينمحي ابدا لقد رسمت لي صورا ساحرة عن القاهرة في سويعات النهار ام في اعماق الليل وكنت انحدر من اوتيل نبيله كايرو في المهندسين الى مناطق باعماق القاهرة وجالست الناس الطيبين في المقاهي واكلت معهم في الحسين ولما عدت اليها بعد سنين وجدت كم فقدت القاهرة من نظافتها القديمة وكم تبددت تلك الجماليات الاجتماعية وكم تلبدت بالدخان ..
مغامرة اندلوسيا
اما في اسبانيا ، وبالرغم من كوني ضيّعت محفظة نقودي في سفرة اليها وامتدادي بسيارتي في كل ارجائها وخصوصا الاندلسية ، الا ان سفرة لي اليها بعد سنين بددت تلك التي كانت مطبوعة في مخيلتي .. تجربة صعبة مررت بها في اسبانيا في العام 1984 ، اذ انطلقت بسيارتي لوحدي من الاسكوريال قرب مدريد باتجاه غرناطة في الجنوب وكنت ازور المكان لأول مرة .. كانت الخارطة بجانبي وكنت مقررا ان امضي نحو الساحل لأقضي ليلتي في فالانسيه احدى مدن الساحل السياحية .. كانت المدينة رائعة فاخذني نهار اليوم الثاني فيها وانطلقت مساء ولكن بدل ان اسلك طريق الساحل نحو اليكانت وبقية المدن ، فقد سلكت طريقا في الجبال ولم استطع ان ارجع لطول ما مشيت .. وهجم الليل علي وزادت وحشة الطريق الذي لم اجد فيه اي ناس ولا اي قرية ولا اي محطة تزود بالوقود .. وكان بنزبن السيارة يقترب من النفاذ .. الليل حالك والطريق يزداد صعوبة ولم اجد اي سيارة اخرى تصادفني او تعبرني .. انتابتني هواجس لا حصر لها ، فالانسان مهما اوتي من قوة فهو لا يمكنه ان يقهر وحشة المكان فكما ان المكان انسان رائع تجده ينقلب فجأة الى انسان متوحش !! قررت ان لا اتوّقف الا ان انتهى بي بترول السيارة واحكم غلق الابواب علي حتى ينبلج الصبح .. مرت شاحنة مثقلة وانا اصعد التواءات جبل .. وما ان وصلت الى اعلى الجبل حتى بانت من بعيد اضواء خافتة .. زاد اطمئناني وباشرت انزل رويدا رويدا من الجبل في التفافات طريق بدا لي يمر عبر غابات .. وبدا ان الطريق ساعدني في ان يخفض من كثرة ما استخدمت من بترول .. ازداد الاضواء سطوعا حتى اقتربت من مكان على جانبه محطة بترول تبدو مهجورة والساعة تشير الى الثانية بعد منتصف الليل .. ركنت السيارة جانبا ونزلت ابحث عن اصحاب المكان .. وصلت سيارة من طريق اخر وترجّل منها احدهم بدا لي لا يعرف ان يفهم حتى لغة الاشارة ولكن ادرك حاجتي للبترول سألته عن مأوى او اوتيل فلم يفهم ، ولكنه ذهب وطرق بابا خشبيا وبعد دقائق خرج شخص من بيته وبدا لي انه يبيع البترول ، فسألته عن حاجتي للبترول ، ففهم قصدي وتقدمت بسيارتي وهو يهذي وربما كان يقول : من الذي اتى بك الى هذا المكان القصي في اعماق اسبانيا ؟ تحّركت منطلقا نحو تلك الاضواء الخافتة ، فوصلت الى قرية صغيرة ، فركنت سيارتي واقفلت ابوابها برغم ان الطقس كان معتدلا والهواء عليلا .. لم استطع النوم ولم اجد اي مارة ربما بسبب الليل الحالك وكان الشارع مضاء باضوية خافتة صفراء تكاد تكون بلا سطوع ولا شعاع .. كان نباح الكلاب او نقيق الضفادع لا يختلف في شيئ عن مدن الشرق وما ان شق الفجر حتى بدأت اتبّين مكاني .. ابنية بيضاء متفرقة وبدأت الناس تمضي الى شارع تمتد على حوافيه الاخرى بساتين وبالقرب مني كان جدول ماء ونباتات كثيفة .. انطلقت نحو الشارع وكان الشرق يعلن عن الوانه البرتقالية الرائعة .. والغيوم متفرقة وبدأت الاضواء تزداد شيئا فشيئا وصادفتني سيارة او اثنتين ولكن وجدت ان النهار قد بدأ ، فاسرعت وكان الطريق قد اخذني الى سلسلة اخرى من الجبال التي بدت لي الان موحشة بلا اشجار وقلت في نفسي كيف لو مضيت في الليل وسط في اعماق هذا التوحش .. وبعد قرابة ساعتين بدت المروج الخضراء ووجدت قطعة كبيرة وقديمة كتب عليها ( اقليم اندلوسيا ) ، فقلت ها انا ذا ادخل الاندلس في النهار لا الليل .. صادفتني اول قرية اندلوسية بيضاء كلها بساتين اعناب ، نزلت فيها لاجد كافتيريا شعبية صغيرة ولم احس بالنعاس ابدا ، شربت قليلا من الحليب .. عند الظهيرة كنت امر في غابة من الاشجار ولم اكن اعرف بأنني اقترب من غرناطة كنت احلق بسيارتي فوق جبل عال ، وما ان بدأت الطريق تلتف على نفسها الا ووجدت من بعيد مدينة غرناطة تفترش ذلك السهل في ادنى الجبل .. ولم تمض الا نصف ساعة من الزمن الا ووجدت نفسي في قلب غرناطة ، وانا ابحث عن هيلتون غرانادة لاتسلم مفاتيح غرفتي واذهب في نوم عميق ، اذ صحوت في الهزيع الاول من الليل ، فقمت ابحث لي عن طعام .. وواصلت اقامتي في الاندلس . لقد تعلمت من هذه التجربة جملة هائلة من المعاني واستفدت منها في حياتي وكثيرا ما افكّر في تلك المغامرة الى جانب مغامرات اخرى ..
وأخيرا : المكان ذاكرة
اذن فكرتي غير نافعة في ان يرجع المرء الى مدن ومناطق عشقها وتعلقت في ذاكرته .. عليه ان يبقى يحتفظ بالصورة الجميلة ، فالحياة تتغير ، وكل ما يمضي الزمن وبهذه السرعة الخارقة تتغير الاشياء وتتبدل الصور وبالتالي فان جملة المعاني كلها تختلف .. صحيح ان الشارع هو نفسه والمناظر هي نفسها والازقة كما هي ولكن الانسان تبدل بغير الانسان .. ومن سمات اي عصر يتقدم نحو الامام فهو يؤذي الارض من حيث يدري او لا يدري ! ان تجربتي مع المكان قد علمتني انه كالكائن الحي له روحه وله شخوصه وعناصره وله ثوابته ومتغيراته .. وان الانسان ان كان ذكيا ، فهو القادر على ان يكون المكان جزءا منه وليس العكس ..

www.sayyaraljamil.com
الف ياء ، 19 نوفمبر 2007

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …