الرئيسية / الشأن العراقي / محمد مبارك .. الوداع الاخير

محمد مبارك .. الوداع الاخير

كلمة توصيفية
محمد مبارك واحد من جيل الامس الرائع .. رحل هذا الصديق قبل ايام ليلتحق بقافلة الراحلين من كبار المثقفين العراقيين .. رحل وهو يودّع زمنا ثقافيا وصلت اليه بغداد ايام شبابه الى آفاق رحبة على ايدي تلك النخب من المبدعين في القرن العشرين .. رحل ولسان حاله يقول : انني ابكي على تلك الازمان المثقلة بالكلمة والصور المبدعة والصوت الرخيم وروعة العراقيين .. وكل الحزن والاسى والالم على زمن قادم لا يعرف الا الجهالة والهشاشة واساطير الاولين .. انتقل الفقيد محمد مبارك من الحلة الفيحاء ليجعل بغداد مدينته التي حرص على ان يعرف كل رجالها ومثقفيها .. فيها درس وتعلم وفيها قرأ وكتب .. ومنها خرج واليها دخل ..
هذا المثقف العراقي الذي عشق الكلمة وكره السفر .. احب النخلة وناوئ الظلام كان له انتماؤه الذي يود ان يعلم به كل العالم ولكنه يخفي في اعماقة حزمة هائلة من الاسرار التي لا يود ان يفصح عنها . كتب جملة من المقالات والدراسات التي نشرها في عدد من الصحف والمجلات العراقية ، وكان مبارك قد بدأ حياته الثقافية اثر ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، وكان شابا متوثبا ثائرا يقضي الليالي الطوال في القراءة وبدأ يكتب المقالات وينشر في بعض الصحف البغدادية .. ولكنه عُرف ، حقيقة ، مذ أطّل منذ منتصف عقد الستينيات من خلال مجلة الاقلام الشهرية التي كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة والارشاد ببغداد ، واستمر ينتقل من الثقافة الى الاعلام اذ بقي اسمه طوال نصف قرن واحدا من ابرز النقاد العراقيين للشعر والادب وبعض الفنون الادبية الاخرى ..

البراعة والوعي
ولو سئلت عنه لقالوا انه برع في الدرس الادبي والنقد الادبي اكثر بكثير من براعته في النتاج الفكري والرؤية الفلسفية .. قرأ له الناس مقالاته وتابعوا دراساته سابقا .. وقد ارسل لي مؤخرا عندما كنت اعيش في دولة الامارات كتابه ” مقاربات في العقل والثقافة ” وله ” الوعي الشعري ” وفيهما تحليل رائع يدل دلالة قاطعة على ما تحلى به محمد مبارك من مستوى نقدي وعقلية حديثة لم تصبح على ما هي عليه الا بعد ان جهد صاحبها طويلا وكانت له ثقافته الواسعة ، ومتابعته لتفاصيل الحياة اليومية لهذا وذاك .. وانني عندما اتحدث هنا عن الرجل ، فانني اتحدث عن تجربة حقيقية مع صديق مثقف كان همه الاول حفرياته التي يعتني بها منذ صباه . واعتقد ان تربيته الاولى قد جعلته ينقّب عن الاشياء بكل صغائرها ..

محمد مبارك .. من يكون ؟
ولد في مدينة الحلة ورحل ببغداد اذ وافاه الأجل ليلة 29 / 30 آب 2007 إثر اصابته بنوبة قلبية مفاجئة.. لقد عشق بغداد ودرس في مدارسها مذ انتقل الى الحاضرة الثقافية بكل ثقلها ابان الخمسينيات ، وكانت فورتها عارمة عهدذاك .. وعمل على مدى ثلاثين سنة في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون يشرف على البرامج الثقافية التلفزيونية ، وكانت له مشاركاته في مهرجانات الشعر والمسرح .. اذ قضى الأستاذ محمد مبارك سنوات عديدة رئيسا للقسم الثقافي في تلفزيون بغداد ,وشهد التلفزيون الثقافي في عهده أزدهارا ثقافيا وأدبيا ولعل اغلب الناس لا تعرف ان الراحل محمد مبارك هو خال السيد محمد سعيد الصحاف وزير الاعلام الشهير على العهد السابق ، وانني لا اعرف طبيعة العلاقة بين الاثنين ولكن هذا لا يمنع ابدا ان الرجل كانت له استقلاليته وثقافته الواسعة في مختلف مجالات التراث والاداب والفنون .. وكانت لغته عالية المستوى ..
لعل اهم ما يعجبني في الراحل محمد مبارك وقفاته البحثية المطولة عند الفيلسوف الكندي والشاعر الجواهري وعالم الاجتماع الوردي والشاعر البياتي وغيرهم .. وكان دوما يبحث عن الصلة الحقيقية بين المثقف ومجتمعه .. وينقّب في النص الادبي تنقيبا معرفيا اكثر منه ظاهراتيا . لقد وجدت في الصديق الراحل محمد مبارك روحا وطنية وقادة ، وتواضعا بالغ التأثير وله مزاجه الشعبي العراقي بالرغم من قبعته الاوربية .. كان منفتحا على الاخرين كأي عراقي اصيل .. وكان من الصنف الذي يتحمل المشاق .. وكان قومي النزعة ولكنه تقدمي التفكير .. كان يحب العمل ويبقى الساعات الطوال في اي مكتب يختاره ليقرأ ويكتب او يجالس من يراه من المثقفين .. كانت خصاله كتلك التي زرعها الرعيل الاول من المثقفين العراقيين الكبار الذين اتمنى على الاجيال الجديدة ان تتعلّم منهم مكارم العراقيين بعيدا عن الابتذال والعتمة والانغلاق والجهالة التي يريد زراعتها المعّممون الجدد .

محمد مبارك والزمان
التقيت بالصديق الراحل ببغداد مرة واحدة في احدى المناسبات .. ومضت السنوات ، وكنت في الاردن ، وكان مشروع جريدة الزمان قد بدأ على يد الصديق سعد البزاز من لندن ، ولكن مكتبها الحقيقي كان في منطقة الشميساني بالعاصمة الاردنية عمّان ، اذ كانت عمّان المحطة العراقية لكل الخارجين من العراق ، وكل الخارجين عن النظام .. ولقد نشطت جريدة الزمان نشاطا سياسيا واعلاميا وثقافيا على مدى السنوات الاخيرة من حكم صدام حسين ، وعدّت الجريدة المعارضة الاكثر اتساعا وانتشارا .. وينبغي ان نقول كلمة حق ان الزمان قد جمعت اغلب الكتّاب العراقيين المناوئين للنظام السابق على صفحاتها ، وانفتحت على الجميع ومن اجيال عدة واستقطبت اسماء شهيرة .. بل ووصل الامر ان يخشى المرء على نفسه وهو يقرأ الزمان ابان العهد السابق وهو خارج العراق ، فكيف اذا كان يكتب على صفحاتها ..
وكان محمد مبارك قد حلّ بالعاصمة الاردنية ليعمل مديرا لمكتب الزمان .. دق جرس التلفون يرن علّي في الجامعة ، فاذا بالانسة ندى قدومي سكرتيرة مكتب الزمان في عمّان ، تقول : ان الاستاذ محمد مبارك يريد التكلم معك ، فرحبت به وبمبادرته وبدأت علاقة وشيجة بيننا نحن الاثنين ، اذ كثيرا ما كنا نلتقي لنتحاور في الشأن الفلسفي .. كانت له ثقافة واسعة في كل من الفلسفة الاسلامية والفلسفات الحديثة والقديمة .. كما وعرض عليّ الرجل نقداته لما كتبه عن بعض ادبيات الدكتور محمد عابد الجابري قبل ان ينشرها في مقالات متسلسلة عدة .. كان يهتم جدا بما كنت انشره في نقد اشكاليات محمد حسنين هيكل في ” تفكيك هيكل ” ، وكل حلقة تنشر فان محمد مبارك يتصّل بي تلفونيا ليعلن عن متابعته وتشجيعه بعد قراءته للمسلسل ..
خدمات لا تنسى
ولا يمكنني ان انسى ما اسداه لي الرجل من خدمات ، اذ كلفتّه وانا بصدد تأليف كتابي ” انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين ” ان يجدول لي اسماء ما يعرفه من مثقفين عراقيين .. فكان ان كتب لي بقلمه جداول لا زلت احتفظ بها حتى اليوم ، بالاسم والمكان والمجال الثقافي وسنوات الولادة والوفاة ان كان يعلمها . لقد اثنيت على جهوده كثيرا ، وكان حريصا جدا في ان يخرج عملي هذا لتاريخ المثقفين العراقيين وتطورهم وانتكاساتهم المريرة . اختلفت معه في جلسة حوار بالعاصمة الاردنية عمّان في العام 1998 حول نظرة كل منّا الى التراث ، وقد عرفت انه قد رسخ افكاره عن ذلك في كتاب له عنوانه ” نظرات في التراث ” ، ولكنني لم اقف حتى اليوم على كتابه ” مواقف في الفكر واللغة ” ..

الانسحاق تلو الانسحاق
ولا يفوتني ان اذكر ان محمد مبارك ـ رحمه الله ـ عاش ومات زاهدا في حياته ، عاش على راتبه الحكومي .. ولما زحفت سنوات الحصار القاسي ابان التسعينيات على كل العراقيين ، عانى الرجل الامرّين كغيره من المثقفين ، ممّا اضطره الى ان يغادر العراق ليعمل في الزمان .. ولكنه كان يزور بغداد بين سنة واخرى .. وكنت على اطلاع كامل على معاناته ومكابداته عندما عاش في الاردن ، اذ جاء ليعمل وحده وعائلته باقية ببغداد .. ولما غادرت الاردن عام 2000 ، بقي الرجل يذكرني دوما ويرسل بتحياته لي .. ولقد سمعت انه تسّلم تحرير مجلة الاقلام بعد سقوط النظام السابق ، وكان يرنو الى بناء حضاري للعراق ، وكان يحلم بعودة كل الطاقات والتخصصات الى ارض العراق ، ولكن الاوضاع كانت تنتقل من سيئ الى أسوأ مع كل الاسف .. ليلتحق محمد مبارك بقافلة الراحلين ، وكأنهم يترجمون معا رفضهم لكل هذه التداعيات التي اودت بحياة العراق ومستقبله .

بعض افكاره المستنيرة
كان من اهم ما يجري في لقاءاتنا العديدة ان نتحاور في موضوعات فكرية وفلسفية وتاريخية .. علما بأنني وأياه كنا نتحاشى ان نتكلم بالسياسة الا قليلا وعلى هامش ما يستدعيه الموقف ، وقد وجدته في عدد من المرات ينتقد الوضع القائم آنذاك نقدا صارخا .. كان الرجل في الفلسفة اقوى كثيرا من التاريخ .. وكان في الادب والنقد الادبي ابدع منه في الدين وعلم الاجتماع .. تباينت وجهة نظرينا مرة حول قضايا عديدة وابرزها في ظاهرة القومية العربية ! كان يرى الاوبئة الاجتماعية الزاحفة نتيجة اتساع حجم الطفيلية الاجتماعية .. ولكنه كان يؤمن بنظرية المؤامرة وكان يؤكد لي مرارا ان الفلاسفة العرب المسلمين سبقوا فردريك هيغل في طرحهم وحدة الوجود .. كان لا يطيق الكسل ، بل ولا يريد ان يرى الناس تتثائب !! كان يسألني عن ذلك واجيب بأن الانسان ان اصبح عاملا منتجا ، فسوف يغّير وجه الارض رأسا على عقب ..
كتب محمد مبارك في واحد من مقالاته يقول : ” ولك ان تنظر في اوضاع اوساطنا الفكرية والادبية والثقافية بل حتي الجامعات، لتتحقق مما صرنا اليه من انحدار كينوناتنا المادية والروحية. لقد أضحي الفكر بوقا للسياسي ومروجا لبضاعته الرديئة والعلم وسيلة لقتل الناس وتكبيل الطاقات وسمل العيون وتكميم الافواه ومصادرة الشعب علي مقدرات كينونته الآدمية علي الرغم من لا فاعليتها وهشاشة مفردات تركيبها ” .
واخيرا : اي دمعة حزن
لقد مضى محمد مبارك ورحل من دون ان يعلم .. كان وداعه الكبير مع اصدقائه ، ولكنه لم يودع العراق الذي ضم جسده ، سنبقى نذكر محمد مبارك ، فقد خسرنا واحدا من اجود المثقفين العراقيين .. نتمنى ان تكون سيرته وآثاره معلما على طريق الاجيال الجديدة ليتعلموا كيف تكون القناعة راسخة الى الاعماق ..

www.sayyaraljamil.com

الزمان ، الف ياء ، 17 سبتمبر 2007

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …