الرئيسية / مقالات / تيار المحافظين الجدد : الانتظار ام الاحتضار !

تيار المحافظين الجدد : الانتظار ام الاحتضار !

سيبقى التاريخ يشهد على ان فاتحة القرن الواحد والعشرين كانت مثل حقيبة رائعة للانسان ، ولكنها مليئة بالالغام والاسلحة الذكية التي فجرها تيار سّمى نفسه بـ ” المحافظين الجدد “ ، اذ شاءت الصدف ان يعصف بالعالم كله .. فلقد اسيئ للسياسة الخارجية جدا ، ودخل العالم في طور تدمير اقتصادي من خلال انفاق عسكري هائل كذاك الذي مارسه السوفييت بجنون .. كما واستخف بالقانون الدولي وازدرى كل تاريخ الامم المتحدة على مدى خمسين سنة من التطور الذي برعت فيه عدة مؤسسات دولية .. كذلك لم تحارَب ” الانظمة المارقة ” ـ كما أسماها ـ بقدر ما حوربت الشعوب وعوقبت على افعال لم ترتكبها ابدا .. لقد اماتوا حتى تلك الآمال التي كان يذكيها من سيبني دولة الرفاهية .. لقد حوربت المجتمعات الثالثة حربا لا هوادة فيها .. كان العالم من قبلهم يسعى الى الاخذ بيد الشعوب المنكوبة والمضطهدة والفقيرة .. ولكنهم ادخلوا العالم في مشكلات لا اول لها ولا آخر ومضوا في سياسات تقليدية تعود قيمها الى الماضي الاستعماري الكريه .. لم يعرفوا ادارة الحروب التي اشعلوها ، بل اجّجوا روح العداء بين المجتمعات ، واشعلوا الفتن والانقسامات من دون تقديم اي حلول مستقبلية لها ..

كانوا فى البدايات عند الستينيات الماضية مجرد ارقام يطرحون فلسفتهم باتجاه الديمقراطية ومحاربة الشيوعية ويعملون من اجل دولة الرفاهية وحقوق الانسان في العالم .. لكنهم مع بدايات القرن الواحد العشرين تخلوا عن تلك الالتزامات التي جسدها غيرهم ، بل وتحولوا الى اشبه باعداء للثقافة الديمقراطية والافكار الليبرالية الحقيقية ، بل وان بودوريتز قد اطلق عليهم اصحاب ” ثقافة معادية ” ليس في امريكا نفسها ، بل في كل العالم الحي ، ان حركات مناوئة للمحافظين الجدد تتشكّل اليوم ، وتمثلها حركات وافكار ومؤلفات تسعى الى تحرير التاريخ من الاساطير والى تحرير السياسة من قبضة الخرافة ، والى ابعاد الدولة عن الدين .. ان ثمة استعادة جديدة للفكر الحر ، بل وانتعشت الاحزاب الاشتراكية من جديد .. وثمة موجة لدى الاكادييميين الامريكيين والكنديين ـ بشكل خاص كما اراها اليوم ـ تطالب برفض الابتذال التاريخي الذي اشاعه المحافظون الجدد .
اما كيف يتم تفسير هيمنة ذلك ” التيار ” ؟
تبلور التيار فكريا كرد فعل على فورة الاشتراكيين لخمسين سنة بعد الحرب العالمية الثانية ، فظهرت جماعات تؤكد دور النخبة دون المجتمع ممثلة بافكار ملتون فريدمان ، وفردريك فون هايك ، وروبرت نوزيك .. وقامت جماعات اخرى على اصول رجعية قديمة تصاحبها هستيريا قومية وجهالة دينية وكراهية للنخبة ونعرة شوفينية تستمدها من القرن 19 ، وقد قام رونالد ريغان بدمجها ببعضها ، فتبلور تيار المحافظين الجدد بايديولوجية تقوم على تناقضات دمج المصالح النخبوية في رأسمالية السوق .. ولما كانت السوق قد تطورت بشكل كبير ، فلقد بدأت لعبة المصالح الدولية تشّرع كل الحروب وكل الصراعات في العالم من اجل منافع نخبة معينة في هذا العالم !
وصلوا الى ادارة شؤون العالم من دون ان يعرفوا تاريخ العالم ، بل ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع هذا العالم ، ووسعوا الهوة والشقاق بين الشعوب باثارة النعرات الشوفينية والدينية والطائفية تحت شعارات بائسة واطلقوا المشكلات الصعبة ، واستخدموا الاسباب السياسية من اجل كارتلات مصالحهم البترولية .. لقد مارسوا ثورة مضادة على كل قيم الحداثة والديمقراطية وكل ما كان الانسان قد وصله عند حافات نهاية القرن العشرين .. ان ثورتهم المضادة ضد الصياغة الطبيعية للعالم قد اضر كثيرا بالولايات المتحدة الامريكية كقوة اساسية لخمسين سنة قادمة ، بل ولم يراعوا كل الثقل التاريخي الذي انجزه الامريكيون لخمسين سنة فاتت كما يقول ادموند بروك في نقداته التي اوضحت العلاقة بين الموتى والاحياء من طرف وبين الاحياء والذين لم يولدوا بعد من طرف آخر !
انهم في طريقهم للزوال ، اذ لو قدر وبقوا في سلطة العالم فسينقلونه الى الكارثة الحقيقية ، وسيحل المصير نفسه بالولايات المتحدة كذاك الذي حاق بالاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية نتيجة الجمود الشيوعي الذي قاد الى الهلاك .. ان تروتسكية المحافظين الجدد في طريقها الى الاختفاء بعد ان قدمّت تجربة تاريخية سيئة جدا لكل العالم .. وسيتحمل المستقبل ثمار نتائجها المرة .. لقد استخدموا الحرية والديمقراطية مجرد شعارات واهية ومن خلالها حشروا العالم في علب سردين لا تتوافق مع القيم الانسانية ، بل واستخدموا ” الدين ” وسيلة للمآرب السياسية واشعلوا من خلاله العالم وتركوه مجرد مستنقعات متعفنة يحتاج اصلاحها الى عشرات السنين .
لقد سيطرت ” نخبة مستبدة ” على كل المقاليد مع اجحاف نظام ضرائبي ونزعة شوفينية مكشوفة. وخلق عدو جديد بعد افول الشيوعية ، ممثّلا بالاصولية الاسلامية التي يدركون انها لا ترقى ابدا الى خطورة الشيوعية .. ولكن جاءت احداث 11 سبتمبر 2001 ، لتؤكد لهم حقيقة الصراع الذي افترضوه .. ولقد المح الكثير الى ان عهد ريغان هو بداية اشتداد التيار وان انهياره سيكون من خلال المستنقع العراقي ! ولقد ولدت مصطلحات وتعابير من قبلهم ، مثل : ” الدولة المارقة ” و ” محور الشر” و ” الضربة الوقائية ” وغيرها .
واخيرا ، فان ثمة جاذبية شعبية وسذاجة اجتماعية تتمتعان بهما استراتيجية المحافظين الجدد ، وسوف لن تموت برحيل إدارة بوش، فالتيار سيبقى في طور الانتظار لا الاحتظار ، وسيتغذى على تناقضات خلقتها عوامل جديدة اهمها الارهاب العالمي والخوف الكامن في أعماق التاريخ الأمريكي من الآخر . وان تغيير واقع صعب لا تنهيه ادارة سياسية او فكرة إيديولوجية ما لم تتوفر بدائل حقيقية وسياسات جديدة تعكس ما هو الأفضل في التعامل مع التقاليد السياسية الأمريكية من طرف وتترجم رؤيتها الجديدة الى العالم .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 5 سبتمبر 2007

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …