الرئيسية / افكار / مدني صالح .. وداعا عراقيا بعد انقضاء شقاء الرحلة الفلسفية !!

مدني صالح .. وداعا عراقيا بعد انقضاء شقاء الرحلة الفلسفية !!

مدخل : قيمة مدني صالح
رحل عن عالمنا واحد من امهر المثقفين العراقيين وأحد الزملاء الاكاديميين المعروفين .. انه الناقد واستاذ علم الفلسفة في جامعة بغداد مدني صالح الذي رحل بصمت بعد ان أثرى الحياة الثقافية العراقية الحديثة بافكاره وآرائه ومحاضراته اذ تخرّج على يديه جملة كبيرة من الخريجين العراقيين الذين اشتهر بعضهم كمثقفين وكتّاب ومدرسين .. كما ان الرجل اثرى المكتبة العربية بأروع الاعمال والتي تميزّت باصالتها العلمية وافكارها الجديدة .. كان الرجل له اسلوبه الادبي الذي ميّزه عن الاخرين .. كما وقد عدّ واحدا من القرّاء والمهتمين بالشعر العراقي الحديث ، اذ مهر مهارة حاذقة في نقده للعديد من الاعمال والدواوين ..
لم اعرف الرجل معرفة عميقة ، ولكنني كنت قد التقيت معه في اروقة جامعة بغداد لأكثر من مرة ، اذ كانت لقاءات عابرة لم اناقشه او ابحث معه اي موضوع فلسفي او ادبي .. وقرأت بعض اعماله ، اذ بدأت مع بعض مقالاته وآرائه .. فوجدت في الرجل مهارة في التعبير وشجاعة في الخطاب ، وحداثة في التفكير .. وان مقول قوله غير محدد بضوابط اكاديمية ولا برتوش انشائية .. وعليه ، فقد كان مدني له قدر كاف من الحرية في مقالاته وعاشق لافكاره وطليق في آرائه ، لكنه مقّيد في بحوثه ودراساته .. ولقد تطورت ” افكاره ” لاحقا وخصوصا ما اثارني في مضامين مقامات مدني صالح الاولى والثانية التي نشرتها الدار العربية للموسوعات .. كما قرأت ما نشره عن السياب وعن البياتي وتوغله في نصوصهما الشعرية كما كان معجبا باشعار نزار قباني اعجابا كبيرا ، ويستأنس بالعديد من قصائده .. وقد سمعت من نزار نفسه في لندن ثنائه على التفكير النقدي لمدني صالح في العراق .. وقد وجدت مدني يشجع المواهب العراقية وكان هو نفسه قد اثنى ثناء كبيرا على اشعار الشاعر عدنان الصايغ بحيث خصص دراسة عنها وجعله في مصاف الكبار .. وانني معه فالاخ عدنان الذي اهداني اعماله قبل اشهر عندما التقيت به في الاردن ، انما هو شاعر حقيقي له نصوصه المثيرة التي لا يستطيع غيره ان يكتب مثلها .

وقفة عند حياته وثقافته

لم اعرف من مدني صالح الا اعماله ولم اكن اعرف اية تفصيلات عن سيرته الشخصية ، غير انه ينتمي الى بلدة هيت في غربي العراق على الفرات الاعلى ، وانه درس في مدارس الرمادي وثانويتها الوحيدة هناك ، وكان كل من السياب والبياتي يعلمان هناك بتأثير ابعادهما عن العاصمة .. فكان ان تتلمذ مدني على ايديهما عندما كانا منفيين فيها من قبل حكومة بغداد .. وما ان تخّرج مدني صالح حتى جال ببغداد واحب شوارعها ودّرس فيها ووجد مقالات له تنشر في بعض الصحف المحلية وكان ان ابتعث الى بريطانيا لاكمال دراسته في الفلسفة ، اذ كان احد خريجيها الاوائل في العراق .. لم ينل الا الماجستير اذ لم يكمل الدكتوراه ، وقفل راجعا الى العراق وانخرط محاضرا في قسم الفلسفة بجامعة بغداد .. ولقد اشتهر بكتاباته الفلسفية ومجادلاته النقدية منذ الستينيات وكان ان تفّوق بكتاباته فصنع اسمه منذ قرابة خمسين سنة . انني اذ اكتب عن مدني صالح كما اكتب عن غيره في كتابي هذا ( = زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ) ، فلقد تعبت جدا في الحصول على سيرته الاولى ، فهو مقل لا يريد ان يتكلم الا نادرا عن بواكير حياته الاولى .
ولد مدني صالح عام 1932 في مدينة (هيت) بمحافظة الانبار، وبلدة هيت قديمة تقع على الفرات .. ومنذ نشأته تمرد على مجتمعه بكل ما حفل ذلك المجتمع من عادات وتقاليد .. بل وعبّر عن كآبته الاولى في كثير من الصفحات وخصوصا عندما غدا معلما اذ انخرط في بدايته بسلك التربية والتعليم في بلدته .. كانت له خصوصيته هناك ، فلم يخالط بقية زملائه واقرانه .. كان مهموما بكل انواع القراءات العربية والمعرّبة .. كان يتحلق من حوله البعض من الشباب في المقهى ليستمعوا اليه والى افكاره النيّرة .. كانوا يستمعون الى سخرياته وكانوا يعرضون عليه قصائدهم واشعارهم ليهتم بها اهتماما كبيرا .. كان يريد منهم ان يتمردوا على واقعهم الصعب ! كان يريد ان يرى جيلا عراقيا جديدا لا علاقة له بكل تلك المواريث البليدة !كان مدني نفسه قد تمّرد تمردا مذهلا على الحياة الكثيبة تلك ، ولم اعرف ما الذي اصابه في السنوات الاخيرة وهو يرى اتساع هوة حجم التخلف الذي عمّ العراق وبدرجة لا يمكن تخيلها ! انني متأكد ان نصيبا كبيرا من الاحباط قد لازمه .. بل وانني واثق ان الاحباط النفسي قد قض مضجعه وقضى عليه قضاء تاما ..

حذاقة مثقف ماهر
لقد تمّيز مدني منذ بداياته بخصوصيته الادبية في الالقاء . كان يمتلك صوتا جاذبا وكان كلامه منمقا يحرص على ان يكون حسنا وواضحا ، وان تكون مخارج حروفه رائعة .. كما اهتم بحركة يديه ونظراته الزائغة وملازمته الصمت بين الفينة والاخرى .. كان مدني يرسم رفضه وممانعته بجرس شديد الايقاع لكل مهترءات الحياة العراقية التي غدت اعرافا اجتماعية كسيحة ومخجلة انتقلت من مجتمع بدائي الى اروقة المؤسسات الحكومية في الدولة !
حدّثني عن مدني صالح واخباره ومواصفاته رفيق دربه وصديقه في الجامعة عمي الاستاذ طالب علي الجميل الذي تخرّج معه في الدورة الأولي في قسم الفلسفة بكلية الاداب والعلوم في جامعة بغداد، اذ كان مدني احد الطلبة غير الملتزمين .. كان طالبا يعتز بقراءاته وقد تمّرد على كل المناهج ولا تمر سانحة من دون ان يتفلسف مع زملائه بشأنها.. كان لا يرضى على ما يقّدم له .. كان هناك جمعية قد نشأت في كلية الاداب والعلوم ومن خلال الدورة الاولى لقسم الفلسفة اسسها كل من طالب علي الجميل ومدني صالح وسليم البصري ( الفنان والممثل الكوميدي المعروف ) ( وثلاثتهم من خريجي الدورة الاولى لقسم الفلسفة ) !
كان مدني قد رافقه مزاجه المتمرد الى بريطانيا عندما لم يستقم واستاذه المشرف .. اذ لم يكن يريد ان يخضع لاصول المنهج ويريد الخروج عن ذلك .. وقد تخرج مدني متمردا علي كل ما هو غير مدني ، وايضا على كل التقاليد البالية ، ومن اصح الاراء التي تقول : انه كان متمردا لكنه يراعي الانتظام ، وهو غير عبثي أبدا .. كما وعرف عنه انه غير مقتنع بالمحددات الجامعية وروتين الاساتذة الذي ضربه عرض الحائط منذ اربعين سنة ..

ثقافة مدني صالح
كانت ثقافة الرجل تنويرية حقيقية وله نزعته الانسانية التي حفّزته لبناء تفكيره العلمي من خلال توغّله في دراسة الفلسفة اليونانية اولا والفلسفة الاسلامية ثانيا وبعضا من الفلسفات الحديثة ثالثا .. لقد انتدب مدني صالح ليدّرس الفلسفة الحديثة في كلية الفقه بالنجف ، فكان ان تأثر به عدة طلبة اذكياء من العراق ولبنان وايران ومنهم العلامة محمد حسن الامين الذي يقول عنه : ” اود ان اذكر مأثرة لاستاذ تعرفت من خلاله الى الفلسفة الحديثة، كان يلقي علينا محاضراته في النجف اثناء الدراسة في كلية الفقه، جعلني انجذب انجذابا قويا للتعرف الى الفلسفة الحديثة وكان بالاضافة الى معرفته الدقيقة والشاملة لها اديبا وناقدا في الآن نفسه، هو الاستاذ مدني صالح الذي صار اسمه في ما بعد مشهورا وكادرا جامعيا معروفا ” .
عاش وحيدا بلا اصدقاء ، بل وعرف عنه انه كثير الخصوم من الذين لا يعرفون الا القال والقيل .. كان يعشق العزلة لأنه يراها ممتعة ومفيدة في عالم لا يعرف التأمل والتفكير بل اعتاد ذلك العالم كل الصخب والعلاقات المزيفة والتناقضات الهائلة .. كان يراقب المشهد بعين ناقدة ورؤية فلسفية واضحة ، وكان يترجم معاناته على الورق .. لقد وجدته وانا اقرأ ما كتبه عن ابن طفيل وكأنه يتمّثل فلسفته اليوم في عزلة حي بن يقظان الذي لم يكن يسمع الا صخب البحر وزمجرة الاعاصير !

معرفة حقيقية
لقد عرفت الفقيد عن بعد ، ومنذ زمن بعيد من خلال قراءتي للعديد من مقالاته في مجلة الاقلام العراقية التي صدرت في الستينيات .. ثم ازدادت معرفتي به مذ قرأت له بعضا من كتبه وبعضها الاخر اطلعت على بعض فصوله .. لقد توغل مدني صالح في مضامين فلسفية متنوعة ، واجاد في عرض مفاهيمها ، لكنه لم يختص بمنهج فلسفي او نظرية فلسفية محددة .. كنت اجده ينعي على العالم خراب الفلسفة مستذكرا فيها الفهم القاصر لمفاهيم الثقافة والمدنية والحضارة .. وما اعتور التفكير المعاصر من الخلط والارباك والتراجع المخيف ، فهو يرى في ” الثقافة ” هذه الايام : مجرد حيازة اعلامية بينما الحضارة حيازة تننظيمية وسياسة وتشريع واخلاقيات .. واذا كان الناس
في كتابه عن ابن طفيل : قضايا ومواقف الذي طبع عام 1998 عن دائرة الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والاعلام / العراق مثلا .. اعادتني قراءته الى جذور التكوين وتشكيل الوعي .. ويقدم الكتاب تفاصيل عن مواقف ابن طفيل الوزير والفقيه والمقرئ والمحدث من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة كما يتناول روايته حي بن يقظان وتأثيراتها وتفاعلها في آداب كثير من الامم والشعوب.
امتلك مدني صالح اسلوبا رشيقا ساخرا يجذب الاخرين ويريد ان يشركهم في البحث عن الحقيقة ، والفلسفة في تعريفها المختزل هي البحث عن الحقيقة .. فهل نجح مدني في مواجهاته ؟ وهل انتصر في مهمته الصعبة ورحلته الشائكة الغريبة ؟؟

كيف أرى مدني صالح ؟
اعتقد ان بداية منعطفه الفكري كان في كتاب ( الوجود ) الذي اصدره عام 1955 ، متأثرا بفلسفة العصر او موجة تلك المرحلة التي انعكست على فكره .. بعد عام واحد اصدر كتابه ( اشكال والوان ) عام 1956 الذي سخر فيه من كل ما اجتاح الحياة من اللامعقول ,, وهكذا توالت سلسلة كتبه المثيرة في الفلسفة والادب والنقد والاجتماع .. وكلها تترجم تفكيره المتمرد على الواقع وتعكس اللحظة التاريخية التي يعيشها .. وهي ساخطة على كل الاوبئة التي تجثم على صدر المجتمع ، بحيث لا تتركه يتنفس الا قليلا .. ثم كانت رحلاته الممتعة مع السياب ومع البياتي .. وقد اختتمها مع نفسه بـ ( مقامات مدني صالح ) عام 1989 الذي اثار النقمة عليه ووصف بالنرجسية والتعالي خصوصا وانه صنف الناس الى ثلاثة اصناف ، هي : الغريزي المندفع واللامعرفي المتشكك والمتسول المقّلد .. وثلاثتهم رفضهم ووصفهم ببكم عمي لا يبصرون مذ ولدوا .. وهم يثيرون الضحك ..
بقي مدني صالح يكتب طوال حياته بقلم جرئ قلما امتلكه غيره .. بقي مستقل الارادة ولم ينحن لأية عاصفة او اعصار في العراق .. كتب المسرحية وحلل جوانب فلسفية وكتب نقدا شعريا رائعا .. لقد بقي مدني صالح ثابتا لا يهتز ابدا .. كان اقوى من تحديات الزمن .. وكان ينتصر دوما في استجاباته لها .. كان اقوى من كوارث العراق وفجائعه التي عانى منها اسوة بغيره من الاصدقاء المثقفين العراقيين . صحيح انه كان يكتب في القسم الثقافي بجريدة الجمهورية زمنا طويلا ، لكنه لم يكن يقبل في اعماقه احادية الاشياء ولا الدكتاتورية ولا الظلم ولا كل القيود .. انني مؤمن بأن ثقافة الرجل كانت ترفض الاشياء ، ولكنه لم يكن من الجرأة كي يقول كل ما عنده ..
لقد مضى مدني صالح ورحل بعد ان كان قد سجل في تاريخ ثقافتنا العراقية المعاصرة اسمه وفكره ونقده وروائع الاعمال .. رحل بصمت اسوة بكل اقرانه المثقفين العراقيين الذين حان وقت رحيلهم .. وستبقى ذكراه بيننا لن ترحل نحو عالم النسيان .

www.sayyaraljamil.com
فصلة من كتاب سيّار الجميل ، زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
نشرت في الصباح الجديد وموقع المجلس 25-30 تموز / يوليو 2007

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …